رُوح
02-08-2011, 06:45 PM
كنت صغيرة .. و كان شابا ..
كنت حمقاء .. و كان ذكيا ..
كنت كثيرة الكلام و الضحك .. و كان ملازما للصمت و الحزن
كنت عينيه التي ترى كلّ شيء بألوانها الخاصة .. و كان هو صوت العقل الدافئ لي ..
كنتُ أنا كلّ شيء ينقصه .. و كان هو كلّ شيء يكمّلني ...
طه الأعمى .. لا يمكن لأيّ ممن كان قد عرفه أن ينساه ..
المولود الذي أسمته أمّه " طه " تيمنا بـ " طه حسين " .. بعد أن عرفَتْ بأنّه وُلد في الظلام .. و سيقبع في الظلام حياته كاملة ..
كانت تُفرحُ نفسها و تُصبّر قلبها حين تقول : طه حسين أبصر الدنيا في صغره .. و أنا على يقين بأنّك ستراها في كِبرك ..
كان طه الأعمى يبتسم بشفتيه .. و يبكي بقلبه حين يسمع أمّه تقول ذلك ..
سألته يوما : هل أنت مثل طه حسين ؟
قال لي : لم أره قطّ لأعرف !
ضحك و ضحكتُ .. ثمّ مضينا نكمل الطريق ..
في اليوم التالي .. أعطاني سلسلة " حديث الأربعاء " لأقرأها له !
ابتدأت قصتنا حين كنتُ عائدة من المدرسة .. رأيته يحاول قطع الشارع .. لم أكن قد حادثته من قبل .. ركضت مسرعة لأمسك يده ـ متأثّرة بمساعدة الضعفاء من درس التربية الإسلامية ـ أوقفني صوته من بعيد ، صوتٌ حازم ، مملوء بالعنفوان : توقّفي يا فتاة .. لديّ صديقة أفضل منكم جميعا ..
و مدّ عصاته البيضاء أمامي .. و تحسَّستْ له الطريق وسط ذهولي و صمتي .. و تسمّري في مكاني !
بقيت أفكّر به عدة أيام لاحقة .. و حين رأيته ثانية ... دفعتني جرأتي و حداثة سنّي إلى الوقوف بجانبه ..
طه : من أنتِ ؟
أنا : كيف عرفت أني فتاة ؟
طه : لديّ عيونٌ سحرية
أنا : إذن ماذا أرتدي ؟!
طه : مريولا أزرق اللون .. و حقيبة المدرسة
اتسعت عيناي جدا .. و بدأت بالدوران حوله بحثا عن عينيه السحريتين ..
أمسكني و أشار إلى صدره : إنها هنا ..
و هكذا توالت لقاءاتنا .. و كثرت أحاديثنا ..
إنّه مثلنا .. يجوع و يأكل ! إنّه مثلنا يشعر بالحزن ! إنّه أفضلُ منا !
إنّ له قلبا .. إنّ له قلبا !!
بتُّ أخبّىء له الحلوى .. و بات ينتظري بشغف ..
صار طه الأعمى محور اهتمامي .. و عليه أصبّ كلّ تركيزي ..
و صار هو يميّزني من بين عشرات الفتيات .. و يقلّد صوتي ببراعة ..
حفظت تقاسيم وجهه .. و انحناءات فمه حين يبتسم ..
و هو عدّ لي كلّ ضحكاتي .. و قال إنّها تسع !
صرت أغضب إن شاكسه أحدٌ ما .. و صار هو يضحك على لساني اللاذع حين يفعل أحدهم ذلك ..
قال لي : عليكِ امتهان المحاماة ..
قلت له : عليك أن تُبصر يوما !
و كعادة الدهر المُفرّق .. دُقّ ناقوس الرحيل .. حزمتُ حقائبي و مضيت غير مودّعة ولا باكية .. لم ألتفت لحافة الطريق التي سمعت كلّ أحاديثنا .. و حفظت كلّ ذكرياتنا .. لم أبحث عن طه ... لأنّني أعلم يقينا كم أنّه يكره الرحيل ..
أخبرني ذات سرّ : أكره الرحيل
أنا : ماذا ؟
طه : لأنّني لا أعرف شكل الدموع في المآقي
ترقرقت الدموع في عينيه كالزجاج .. و كان ساحرا لحدّ الحزن .. و كنت حزينة لأجله حدّ الكذب !
قلت له : الدموع قبيحة .. و مالحة .. لم يَفُتكَ الكثير حين غدوت " عصيّ الدمع "
و لم أخبره يوما كم أنّ الدموع تغسل القلب .. و تعيد شباب الروح !
و شاء الله أن أعود من جديد .. بعد سنوات عدّة ..
كنت حريصة في كلّ عودة لي بأن أمشي على ذات الطريق .. و كنت أتفقّد المداخل و المخارج بحرص شديد ..
و رأيته ..
إنّه طه الأعمى بلا شك ..
لا يمكن أن أخطئ ذلك الوجه .. أو أن أضل تلك الابتسامة !
اقتربت .. و تزاحمت في رأسي مئات الأفكار و الهواجس .. مئات الذكريات .. و ألوف لحظات التأمل الصامتة .. قشور الحلوى الكثيرة .. و بالتأكيد :صوت الضحكات التسع !
سألته : طه الأعمى ؟
قال : أكون أعمى لأجل صبية مثلك !
صمتُّ هنيهة .. ثمّ سألته : حقا أنت طه الأعمى !
قال لي : و حقا أنتِ بغيضة حين تذكرين الناس بما لا يحبون !
هذا الأعمى كان ينظر في عينيّ تماما .. و يراقب كلّ حركة لي .. كانت هناك حياةٌ في عينيه ..
قلت له : ألم تعرفني ؟
قال : ساعديني ..
قلت له : عيونك السحرية .. و قارعة الطريق المهترئة ..
فلم يُجبني سوى بالصمت ..
همّ بالرحيل و سألني : أتريدين شيئا ؟
قلت له : حياة هانئة لك ..
أدار ظهره و مضى ..
أدار ظهره لأحاديث الأربعاء .. و للدموع الزجاجية ..
أدار ظهره للضحكات التسع ..
أدار ظهره لي و مضى ..
مضى و كأنّه لم يكن ذلك الحلُم الذي عشته ..
مضى و أنا أتمتم : ليتك بقيت أعمى يا طه !
ليت الحياة بقيت في قلبك و لم تغادرها إلى عينيك قطّ !
على الهامش : لم أكن لأبدأ النشر بهذه السرعة ، لولا الترحيب الذي لقيته ، و التشجيع الذي دعمني
كنت حمقاء .. و كان ذكيا ..
كنت كثيرة الكلام و الضحك .. و كان ملازما للصمت و الحزن
كنت عينيه التي ترى كلّ شيء بألوانها الخاصة .. و كان هو صوت العقل الدافئ لي ..
كنتُ أنا كلّ شيء ينقصه .. و كان هو كلّ شيء يكمّلني ...
طه الأعمى .. لا يمكن لأيّ ممن كان قد عرفه أن ينساه ..
المولود الذي أسمته أمّه " طه " تيمنا بـ " طه حسين " .. بعد أن عرفَتْ بأنّه وُلد في الظلام .. و سيقبع في الظلام حياته كاملة ..
كانت تُفرحُ نفسها و تُصبّر قلبها حين تقول : طه حسين أبصر الدنيا في صغره .. و أنا على يقين بأنّك ستراها في كِبرك ..
كان طه الأعمى يبتسم بشفتيه .. و يبكي بقلبه حين يسمع أمّه تقول ذلك ..
سألته يوما : هل أنت مثل طه حسين ؟
قال لي : لم أره قطّ لأعرف !
ضحك و ضحكتُ .. ثمّ مضينا نكمل الطريق ..
في اليوم التالي .. أعطاني سلسلة " حديث الأربعاء " لأقرأها له !
ابتدأت قصتنا حين كنتُ عائدة من المدرسة .. رأيته يحاول قطع الشارع .. لم أكن قد حادثته من قبل .. ركضت مسرعة لأمسك يده ـ متأثّرة بمساعدة الضعفاء من درس التربية الإسلامية ـ أوقفني صوته من بعيد ، صوتٌ حازم ، مملوء بالعنفوان : توقّفي يا فتاة .. لديّ صديقة أفضل منكم جميعا ..
و مدّ عصاته البيضاء أمامي .. و تحسَّستْ له الطريق وسط ذهولي و صمتي .. و تسمّري في مكاني !
بقيت أفكّر به عدة أيام لاحقة .. و حين رأيته ثانية ... دفعتني جرأتي و حداثة سنّي إلى الوقوف بجانبه ..
طه : من أنتِ ؟
أنا : كيف عرفت أني فتاة ؟
طه : لديّ عيونٌ سحرية
أنا : إذن ماذا أرتدي ؟!
طه : مريولا أزرق اللون .. و حقيبة المدرسة
اتسعت عيناي جدا .. و بدأت بالدوران حوله بحثا عن عينيه السحريتين ..
أمسكني و أشار إلى صدره : إنها هنا ..
و هكذا توالت لقاءاتنا .. و كثرت أحاديثنا ..
إنّه مثلنا .. يجوع و يأكل ! إنّه مثلنا يشعر بالحزن ! إنّه أفضلُ منا !
إنّ له قلبا .. إنّ له قلبا !!
بتُّ أخبّىء له الحلوى .. و بات ينتظري بشغف ..
صار طه الأعمى محور اهتمامي .. و عليه أصبّ كلّ تركيزي ..
و صار هو يميّزني من بين عشرات الفتيات .. و يقلّد صوتي ببراعة ..
حفظت تقاسيم وجهه .. و انحناءات فمه حين يبتسم ..
و هو عدّ لي كلّ ضحكاتي .. و قال إنّها تسع !
صرت أغضب إن شاكسه أحدٌ ما .. و صار هو يضحك على لساني اللاذع حين يفعل أحدهم ذلك ..
قال لي : عليكِ امتهان المحاماة ..
قلت له : عليك أن تُبصر يوما !
و كعادة الدهر المُفرّق .. دُقّ ناقوس الرحيل .. حزمتُ حقائبي و مضيت غير مودّعة ولا باكية .. لم ألتفت لحافة الطريق التي سمعت كلّ أحاديثنا .. و حفظت كلّ ذكرياتنا .. لم أبحث عن طه ... لأنّني أعلم يقينا كم أنّه يكره الرحيل ..
أخبرني ذات سرّ : أكره الرحيل
أنا : ماذا ؟
طه : لأنّني لا أعرف شكل الدموع في المآقي
ترقرقت الدموع في عينيه كالزجاج .. و كان ساحرا لحدّ الحزن .. و كنت حزينة لأجله حدّ الكذب !
قلت له : الدموع قبيحة .. و مالحة .. لم يَفُتكَ الكثير حين غدوت " عصيّ الدمع "
و لم أخبره يوما كم أنّ الدموع تغسل القلب .. و تعيد شباب الروح !
و شاء الله أن أعود من جديد .. بعد سنوات عدّة ..
كنت حريصة في كلّ عودة لي بأن أمشي على ذات الطريق .. و كنت أتفقّد المداخل و المخارج بحرص شديد ..
و رأيته ..
إنّه طه الأعمى بلا شك ..
لا يمكن أن أخطئ ذلك الوجه .. أو أن أضل تلك الابتسامة !
اقتربت .. و تزاحمت في رأسي مئات الأفكار و الهواجس .. مئات الذكريات .. و ألوف لحظات التأمل الصامتة .. قشور الحلوى الكثيرة .. و بالتأكيد :صوت الضحكات التسع !
سألته : طه الأعمى ؟
قال : أكون أعمى لأجل صبية مثلك !
صمتُّ هنيهة .. ثمّ سألته : حقا أنت طه الأعمى !
قال لي : و حقا أنتِ بغيضة حين تذكرين الناس بما لا يحبون !
هذا الأعمى كان ينظر في عينيّ تماما .. و يراقب كلّ حركة لي .. كانت هناك حياةٌ في عينيه ..
قلت له : ألم تعرفني ؟
قال : ساعديني ..
قلت له : عيونك السحرية .. و قارعة الطريق المهترئة ..
فلم يُجبني سوى بالصمت ..
همّ بالرحيل و سألني : أتريدين شيئا ؟
قلت له : حياة هانئة لك ..
أدار ظهره و مضى ..
أدار ظهره لأحاديث الأربعاء .. و للدموع الزجاجية ..
أدار ظهره للضحكات التسع ..
أدار ظهره لي و مضى ..
مضى و كأنّه لم يكن ذلك الحلُم الذي عشته ..
مضى و أنا أتمتم : ليتك بقيت أعمى يا طه !
ليت الحياة بقيت في قلبك و لم تغادرها إلى عينيك قطّ !
على الهامش : لم أكن لأبدأ النشر بهذه السرعة ، لولا الترحيب الذي لقيته ، و التشجيع الذي دعمني