رُوح
02-11-2011, 09:19 PM
كعادته اليومية ، ضبط مؤقته تمام الساعة الخامسة صباحا ، رتّب أوراقه ، جمع شتات نفسه و تكوّر تحت غطائه ، توسّد يدهُ ، و أسلم نفسه للنّوم ..
إلا أنّ النوم بخيل عليه هذه الأيام ، طاردته الكثير من أفكاره ، و قد اغتمّ و انطبق صدره عندما تذكّر ذلك البغيض الذي يؤرق مضجعه ، لقد دخل إلى حياته من حيث لا يعلم ، إنّه يعرف كلّ شيء ، و يدّعي أنّ " العزيز بليشة " قد ارتكب جريمة مروّعة .
إنّه يروي تفاصيل دقيقة جدا ، يكاد العزيز نفسه يصدّقها ،و قصّته تبدو محبوكة جيدا ،
و إنّ ذلك اللعين " سيدي بلقاسم " لا يظهر إلا في الخفاء ، لم يسبق لأحد أن رآه سوى العزيز بليشة نفسه ، أراد أن يحدّث والدته بشأنه ، إلا أنّه خشيَ تكذيبها و هي التي عُرفت بصرامتها و سرعة غضبها ! رغم أنّه لا ينكر ليونتها في التعامل معه هذه الأيام ، و كأنّها تحس بأنّ شيئا ما يحدث لربيبها !
إنها تشعر به ، هو لا يعلم أنّه ليس ابنها ، أراد والده أن يظنّ أنّ " فطمة مرساوي " هي والدته ، كي ينمو بأمان ، و هي لم تشأ أن تبعثر أمان الشاب بشأن هوية والدته الراقصة ، فحفظت السّرّ ، هي و القابلة " الستّ زهرانة " ، و بعد وفاة زهرانة ، بدأ الحِمل يرمي بثقله على العجوز فطمة ، لا سيّما و أنّ صحّتها تتدهور يوما تلو آخر . فباحت به لخطيبة العزيز بليشة ، و قد ألزمتها بالأيْمان المغلّظة و بعزّة " سيدي عماري " ـ والدها ـ أن تُبقي شفتيها مطبقةً بشأنه .
مسح العزيز بليشة حبات العرق عن جبينه ، و ظلّ يحاول التقاط أنفاسه التائهة حتى غلبه الإرهاق ، و مات قليلا حتى الصباح .
استيقظ العزيز على همسات عميقة و هادئة ، ذات رتم منخفض ، بالتأكيد لم يكن ذلك صوت ساعته المهترئة ، فتح عينيه ليجد سيدي بلقاسم يبتسم بخبث أمامه .
قفز من فراشه فزعا ، و أحسّ بأنّ قلبه قد توقّف حقا ، أو ربما قد تمنى ذلك .
قال له سيدي بلقاسم : أيها القاتل اللعين ، كيف تستطيع إرخاء جفنيك بهذه البساطة ! ألا تسمع صوتها المتوسّل ؟ ألا ترى وجهها المزرق ؟ ألا تطاردك نظراتها الفارغة ؟ ألا تتردّد بحّاتها في أرجاء غرفتك مدوّية فيها ؟
يصرخ العزيز بليشة : كفى ، كفى ، أنا لا أعرف أساسا من هي " للا صفية "
أنا لا أعرفها ! اتركني و شأني أرجوك ، أتوسّل إليك ! الشيء الوحيد الذي يتردد في رأسي هو أنت ، اتركني و شأني أيها الملعون !
سيدي بلقاسم : توسّل مزيدا يا ابن الآثمة ، لم ترَ شيئا بعد ! سأقتصّ لها منك ! و سأحيل حياتك جحيما ، انتظر فقط !
يختفي بقهقهات متقطعة .
ويبكي العزيز بليشة و يسقط أرضا ، يشهق ببكائه ، و يغرق في صمت طويل ، تقطعه رنّات المنبه .
لقد بدت حالته واضحة للعيان ، الجميع قد لاحظ قلة طعامه ، حتى " طيّوف " الطباخ أبدا ملاحظاته حول ظهور عيون الباندا في وجهه المشرق للمدبّرة " نعمات قلّي " !
لكنّ الأحاديث كانت محرّمة تلك الأيام في منزل " آل بصّاري " ، فقط ترى شفاه الخدم تتحرّك ، و عيونهم تدور ، و أيديهم تعبّر عن هول ما يتخاطبون حوله !
خرج العزيز بليشة لعمله كالرّجل الآلي ، و السّت فطمة مرساوي تنظر إليه بأسىً بالغ ، إنه لم يشفَ بعد ، ذلك الشاب ذبل و سقط كزهر اللوز ، كيف حصل له ذلك ؟ لم يكن يستحق ! كيف خُطفت من بين يديه بهذه السهولة ؟
لكنّ كل ما كان يجول بخاطر و ذهن العزيز بليشة هو سيدي بلقاسم و أسباب اتهامه !
هو لا يعرف للا صفية ، لم يسمع بها من قبل ، كيف يكون قد قتلها ؟ و أيضا خنقاً ؟! إنّه أضعف من أن يدوس نملة !! و هذا " السيدي بلقاسم " كيف وجد طريقا إليه ؟ مَن دفعه لأن يجعل هذه الحيرة تعيثُ قلقا في حياته الآمنة !
تمضي أيام العزيز بليشة على قلق و خوف ، تحوّل إلى الاعتكاف في ركنِ غرفته البعيد ، قلّ نومه و ازداد بؤسه ، و بات سيدي بلقاسم سميرهُ الوحيد بقهقهاته و لعناته و توعّداته ، بدا عقله و كأنّه مملوء بأشياء غير مفهومة ، قطع من الذكريات تظهر و تومض فجأة ثمّ تختفي ، لا هو يفهمها ، و لا يستطيع أن يتخلّص منها ، نوبات من الغضب تعصف به ، ثمّ تتركه متهالكا كطفل صغير أضاع رائحة أمّه وسط وجوه كثيرة !
و بلغ اليأس حدّه ، و الخوفُ ذروته !
تحامل العزيز بليشة على نفسه و جرّ جسده المتهالك إلى غرفة فطمة مرساوي ، التي أوجست منه شكله و هيئته الرّثة ، لكنها ابتسمت لطمأنته .
قال لها و الدموع تتساقط من عينيه العسليّتين الذابلتين : أماه ، إنّ هنالك ما يأكلني حيرة ، هناك من اسمه سيدي بلقاسم ، يقول أنّني قتلت أحدهم ! يلازمني كظلّي ولا أعلم كيف لا تسمعون صوته !
و للا صفية ! من للا صفية يا أماه ؟!
يريد أن يلتقط أنفاسه ليتابع ، لكنّ فطمة مرساوي تجري إليه باكية ، تحتضنه و تقول : آه يا ولدي ، للا صفية الحبيبة ، لم يكن موتها سهلا عليك ، لا بأس يا ولدي ، لا بأس ، سنعرف من الذي قتلها ، إنما تمالك نفسك ، أنا هنا ، أنا هنا قربك .
إلا أنّ العزيز بليشة ينتصب مشدوها ، و يعود إلى غرفته بصمت مخيف ، ينظر لمرآته ، و تبدأ المشاهد الوامضة بالتآلف و التراكب معا لتتضح الصورة ، لقد فعلها !! أجل ، كان هو من فعلها ! أرادت للا صفية أن تلغي خطوبتهما ، و لما ألحّ عليها بالسبب ، أخبرته أنّ سيدي عماري لن يرضى بأن تتزوج ابنته بابن خطيئة ! لم تستطع البائسة أن تبقي فمها مغلقا أكثر !
في الحقيقة ، كان سيدي بلقاسم انعكاسا للعزيز بليشة في المرآة ، لكنّ العزيز بليشة هذه المرّة يعي تماما ما سيفعله ، و لن يستطيع سيدي بلقاسم أن يمنعه ، أو حتى يهدّده !
في صباح اليوم التالي ، تمّ توثيق محضر أمني حاسم :
توفيّت المدعوة فطمة مرساوي إثر نوبة قلبية حادة و خاطفة ، لم تستطع النجاة منها ، في وقت متزامن مع موت المدعو العزيز بليشة وقد قتل نفسه بأن جرح شريانه بقطعة من مرآة مكسورة ، و تجدر الإشارة إلى أنّ الأسرة عاشت أياما عصيبة بعد وفاة خطيبة المدعو العزيز بليشة و قتلها على يد مجهول !
* لم يعرف أحد إن كان موت العزيز بليشة سببا أو نتيجة لموت فطمة مرساوي ، إلا أنّ الخدم تهامسوا فيما بينهم أنّه دخل غرفتها و سمعوا همهمات كثيرة ، ثم خرج كالشبح ، و مضى إلى غرفته ، ثمّ سُمع صوت تكسّر الزجاج .
إلا أنّ النوم بخيل عليه هذه الأيام ، طاردته الكثير من أفكاره ، و قد اغتمّ و انطبق صدره عندما تذكّر ذلك البغيض الذي يؤرق مضجعه ، لقد دخل إلى حياته من حيث لا يعلم ، إنّه يعرف كلّ شيء ، و يدّعي أنّ " العزيز بليشة " قد ارتكب جريمة مروّعة .
إنّه يروي تفاصيل دقيقة جدا ، يكاد العزيز نفسه يصدّقها ،و قصّته تبدو محبوكة جيدا ،
و إنّ ذلك اللعين " سيدي بلقاسم " لا يظهر إلا في الخفاء ، لم يسبق لأحد أن رآه سوى العزيز بليشة نفسه ، أراد أن يحدّث والدته بشأنه ، إلا أنّه خشيَ تكذيبها و هي التي عُرفت بصرامتها و سرعة غضبها ! رغم أنّه لا ينكر ليونتها في التعامل معه هذه الأيام ، و كأنّها تحس بأنّ شيئا ما يحدث لربيبها !
إنها تشعر به ، هو لا يعلم أنّه ليس ابنها ، أراد والده أن يظنّ أنّ " فطمة مرساوي " هي والدته ، كي ينمو بأمان ، و هي لم تشأ أن تبعثر أمان الشاب بشأن هوية والدته الراقصة ، فحفظت السّرّ ، هي و القابلة " الستّ زهرانة " ، و بعد وفاة زهرانة ، بدأ الحِمل يرمي بثقله على العجوز فطمة ، لا سيّما و أنّ صحّتها تتدهور يوما تلو آخر . فباحت به لخطيبة العزيز بليشة ، و قد ألزمتها بالأيْمان المغلّظة و بعزّة " سيدي عماري " ـ والدها ـ أن تُبقي شفتيها مطبقةً بشأنه .
مسح العزيز بليشة حبات العرق عن جبينه ، و ظلّ يحاول التقاط أنفاسه التائهة حتى غلبه الإرهاق ، و مات قليلا حتى الصباح .
استيقظ العزيز على همسات عميقة و هادئة ، ذات رتم منخفض ، بالتأكيد لم يكن ذلك صوت ساعته المهترئة ، فتح عينيه ليجد سيدي بلقاسم يبتسم بخبث أمامه .
قفز من فراشه فزعا ، و أحسّ بأنّ قلبه قد توقّف حقا ، أو ربما قد تمنى ذلك .
قال له سيدي بلقاسم : أيها القاتل اللعين ، كيف تستطيع إرخاء جفنيك بهذه البساطة ! ألا تسمع صوتها المتوسّل ؟ ألا ترى وجهها المزرق ؟ ألا تطاردك نظراتها الفارغة ؟ ألا تتردّد بحّاتها في أرجاء غرفتك مدوّية فيها ؟
يصرخ العزيز بليشة : كفى ، كفى ، أنا لا أعرف أساسا من هي " للا صفية "
أنا لا أعرفها ! اتركني و شأني أرجوك ، أتوسّل إليك ! الشيء الوحيد الذي يتردد في رأسي هو أنت ، اتركني و شأني أيها الملعون !
سيدي بلقاسم : توسّل مزيدا يا ابن الآثمة ، لم ترَ شيئا بعد ! سأقتصّ لها منك ! و سأحيل حياتك جحيما ، انتظر فقط !
يختفي بقهقهات متقطعة .
ويبكي العزيز بليشة و يسقط أرضا ، يشهق ببكائه ، و يغرق في صمت طويل ، تقطعه رنّات المنبه .
لقد بدت حالته واضحة للعيان ، الجميع قد لاحظ قلة طعامه ، حتى " طيّوف " الطباخ أبدا ملاحظاته حول ظهور عيون الباندا في وجهه المشرق للمدبّرة " نعمات قلّي " !
لكنّ الأحاديث كانت محرّمة تلك الأيام في منزل " آل بصّاري " ، فقط ترى شفاه الخدم تتحرّك ، و عيونهم تدور ، و أيديهم تعبّر عن هول ما يتخاطبون حوله !
خرج العزيز بليشة لعمله كالرّجل الآلي ، و السّت فطمة مرساوي تنظر إليه بأسىً بالغ ، إنه لم يشفَ بعد ، ذلك الشاب ذبل و سقط كزهر اللوز ، كيف حصل له ذلك ؟ لم يكن يستحق ! كيف خُطفت من بين يديه بهذه السهولة ؟
لكنّ كل ما كان يجول بخاطر و ذهن العزيز بليشة هو سيدي بلقاسم و أسباب اتهامه !
هو لا يعرف للا صفية ، لم يسمع بها من قبل ، كيف يكون قد قتلها ؟ و أيضا خنقاً ؟! إنّه أضعف من أن يدوس نملة !! و هذا " السيدي بلقاسم " كيف وجد طريقا إليه ؟ مَن دفعه لأن يجعل هذه الحيرة تعيثُ قلقا في حياته الآمنة !
تمضي أيام العزيز بليشة على قلق و خوف ، تحوّل إلى الاعتكاف في ركنِ غرفته البعيد ، قلّ نومه و ازداد بؤسه ، و بات سيدي بلقاسم سميرهُ الوحيد بقهقهاته و لعناته و توعّداته ، بدا عقله و كأنّه مملوء بأشياء غير مفهومة ، قطع من الذكريات تظهر و تومض فجأة ثمّ تختفي ، لا هو يفهمها ، و لا يستطيع أن يتخلّص منها ، نوبات من الغضب تعصف به ، ثمّ تتركه متهالكا كطفل صغير أضاع رائحة أمّه وسط وجوه كثيرة !
و بلغ اليأس حدّه ، و الخوفُ ذروته !
تحامل العزيز بليشة على نفسه و جرّ جسده المتهالك إلى غرفة فطمة مرساوي ، التي أوجست منه شكله و هيئته الرّثة ، لكنها ابتسمت لطمأنته .
قال لها و الدموع تتساقط من عينيه العسليّتين الذابلتين : أماه ، إنّ هنالك ما يأكلني حيرة ، هناك من اسمه سيدي بلقاسم ، يقول أنّني قتلت أحدهم ! يلازمني كظلّي ولا أعلم كيف لا تسمعون صوته !
و للا صفية ! من للا صفية يا أماه ؟!
يريد أن يلتقط أنفاسه ليتابع ، لكنّ فطمة مرساوي تجري إليه باكية ، تحتضنه و تقول : آه يا ولدي ، للا صفية الحبيبة ، لم يكن موتها سهلا عليك ، لا بأس يا ولدي ، لا بأس ، سنعرف من الذي قتلها ، إنما تمالك نفسك ، أنا هنا ، أنا هنا قربك .
إلا أنّ العزيز بليشة ينتصب مشدوها ، و يعود إلى غرفته بصمت مخيف ، ينظر لمرآته ، و تبدأ المشاهد الوامضة بالتآلف و التراكب معا لتتضح الصورة ، لقد فعلها !! أجل ، كان هو من فعلها ! أرادت للا صفية أن تلغي خطوبتهما ، و لما ألحّ عليها بالسبب ، أخبرته أنّ سيدي عماري لن يرضى بأن تتزوج ابنته بابن خطيئة ! لم تستطع البائسة أن تبقي فمها مغلقا أكثر !
في الحقيقة ، كان سيدي بلقاسم انعكاسا للعزيز بليشة في المرآة ، لكنّ العزيز بليشة هذه المرّة يعي تماما ما سيفعله ، و لن يستطيع سيدي بلقاسم أن يمنعه ، أو حتى يهدّده !
في صباح اليوم التالي ، تمّ توثيق محضر أمني حاسم :
توفيّت المدعوة فطمة مرساوي إثر نوبة قلبية حادة و خاطفة ، لم تستطع النجاة منها ، في وقت متزامن مع موت المدعو العزيز بليشة وقد قتل نفسه بأن جرح شريانه بقطعة من مرآة مكسورة ، و تجدر الإشارة إلى أنّ الأسرة عاشت أياما عصيبة بعد وفاة خطيبة المدعو العزيز بليشة و قتلها على يد مجهول !
* لم يعرف أحد إن كان موت العزيز بليشة سببا أو نتيجة لموت فطمة مرساوي ، إلا أنّ الخدم تهامسوا فيما بينهم أنّه دخل غرفتها و سمعوا همهمات كثيرة ، ثم خرج كالشبح ، و مضى إلى غرفته ، ثمّ سُمع صوت تكسّر الزجاج .