رُوح
11-26-2011, 10:24 AM
.....كانا يجلسان وسط المكتبة ، يتنقلان بين نظريات التحليل و المدارس الفلسفية ، هو يقول نصف الجملة و هي تكملها دون أن تفكر بما قاله حتى !
سألها : إحنا شو يا ليلى ؟
أجابته : نارٌ و ماء
هزّ رأسه موافقا : ولن نجتمع أبدا دون أن يقضي أحدنا على الآخر
أجابته : لن يحدث ذلك إذن !
.....حدث الأمر عندما كانت تجلس في قاعة الدرس ، تدون ما تيسر لها من ملاحظات مفهومة من دكتور لا يتحدث إلا الإسبانية ، دخل هو متأخرا ، و تهالك قربها في أول مقعد متاح ، بقيت هادئة جدا ، لم تزعجها رائحة عطره الممزوجة بالعرق ، ولا الملجدات الأربعة التي رماها على كفّ مقعدها ، اقتضبت ملامح وجهها رغما عنها ، ولكنها رسمت ابتسامة هادئة ، ناولته كتبه و أعادت توجيه جلستها متأقلمة مع الوجود الفيزيائي لجسده الضئيل .
كانت الأمور جيدة جدا ، حتى طرح سؤاله الأول !
.....سأل سؤاله ، ساد الصمت لحظة ثمّ تسرّبت ضحكات مكتومة في أرجاء القاعة ، أولها كانت بادية على وجه الإسباني الكئيب !
لقد كان أخنفا !!
.....اتسعت حدقتا عينيها ، و انحنى فمها للأعلى قليلا ، حاولت استجماع جدّيتها لأنها الأكثر قربا منه ، لكنّها ـ ولأنها الأكثر قربا منه ـ لم تستطع أن تفعل شيئا سوى تغطية وجهها و الالتفاف بعيدا عنه لتطلق العنان لدمعات الضحكات المكبوتة بالانهمار كالشلال مفسدة بذلك تبرّجها الخفيف .
.....دقيقتان أو أقل ، ثم استعاد من في القاعة وعيهم ، ربما كانوا قد انتهوا من الضحك ، لكنّها كانت قد أحسّت بالذنب تجاهه ، دار في رأسها العديد من الأفكار حول نشأته والسخرية التي تعرّض لها طيلة حياته ، لكنّ الجميع ، الجميع دون استثناء اعتدلوا في جلساتهم عندما تابع حديثه وكأنّ شيئا لم يكن .
.....شعرت بأنّ لها حجما صغيرا جدا أمام ذلك العملاق ، لم ترفّ عينٌ له ، و لم يهتزّ صوته ، لم يبلع بقية حديثه ، ولم يخرج باكيا من القاعة كما كانت لتفعل !
لقد ثبت تماما؛ بنظراته و صوته و جلسته .
.....في الحقيقة لم يفهم أحد سؤاله و لم يحصل هو على جوابٍ له رغم صياغته بأكثر من طريقة ، مخارج الحروف لديه كانت مُتلفة تماما .
.....في الاستراحة : التفت إليها و كرّر عليها ذات السؤال ، لم تفهم كلامه لكنّها ميّزت أنّ لكلماته ذات اللحن الذي ردّده في سؤاله ، ابتسمت له و ناولته ورقة و أومأت بنظرها للقلم بيده .
.....كتب سؤاله على الورقة ، وقد كان سؤالا ذكيا جدا ، لو وُظف في مكانه لغيّر مجرى الملل بأجمعه في تلك المحاضرة الكئيبة .
.....تناقشت معه بصعوبة بالغة ، و تردّدت كلمات مثل : آه ، آها ، ممكن ، آه ، بجوز ، عالأغلب !
.....توالت المحاضرات و التزم هو بمكانه قربها لأنّها كانت لطيفة بحيث لم تُدر له ظهرها كبقية الزملاء ، و صار الورق مرسول التفاهم بينهما و نافذة التفاعل .
كتبت له مرّة : شو يللي صاير فيك ؟!
كتب لها : بحكيلك بعدين
قرأتها ، و تلاقت نظراتهما ليضحكا معا ، كان من غير الوارد أن تفهم ما سيحكيه لها !
.....لكنّها فهمت ، لقد تحدث بصعوبة بالغة ، أخبرها عن سبب خروج الكلام بهذا الشكل و شعرت للمرّة الثانية بأنّها رغم قوامها الرشيق أقلّ أهميّة من حشرة تمشي على الأرض أمامه !
كان على دين غير دينها فارتاحت له أكثر ، كان يفهمها تماما و تفهمه أكثر ، باجتماعهما يمزجان الذكاء و الخطورة ، المزاح و اللّذع ، البراءة والخداع .
.....للأمانة : كلاهما كان ماكرا جدا ، و الجلوس معهما يُصيب سامع الحديث بنوبة صداعٍ حادّة .
.....لم يتواعدا مرّة على لقاء ، كانا يغيبان بالأشهر عن بعضهما ثمّ يلتقيان فجأة بلا عتاب ولا اشتياق ، يخوضان الأحاديث وكأنّما افترقا بالأمس ، و يفترقان بابتسامة كأنّهما سيلتقيان حتميا كلّ يوم !
.....في وقت الاختبارات كانا يُذاكران معا ، هو يحفظ الكثير الكثير من المعلومات بينما هي تنتقي ما تُحسّ بأهمّيته ، يُعلن حالة من التوتر العام بكثرة مجيئه و ذهابه ، و هي تعيد التوازن بثباتها ويقينها ، لم يكونا متشابهين بأيّ شيء !
سألتها رفيقة لها : شو بقعدك مع هالكائن !
أجابتها : أنّ له كيانٌ على عكسك !!
.....لم تتحدث الألسنة عنها لأنّها كانت قوية جدا ، ولها مهابتها بين الجميع ، اعتبر أمرهما ضمن سياق الزمالة القوية لأنّ أحدا لم يرغب في أن يخوض مواجهة مع أخنفٍ و سليطة لسان !
.....كانا يتشاركان الطعام على اختلافه : كوب من القهوة له و آخر من الذرة لها !
.....قدّمت له مرّة قطعتين من البسكويت : أكل واحدة ثمّ تذكّر أن يعطيها الثانية
قالت له : بقدرش ، مسمومة
فسمّم لها علبة بأكملها ردا للدين !
.....كان ما بينهما غير مفهوم إطلاقا حتى بالنسبة لهما ! لكنّ كلأ منهما وجد في الآخر مرآته ، النظرات الحادة ذاتها ، الذكاء المتّقد ، المكر الخطر ، و القدرة على سبر غور النفس بشفافية .
كان كلٌّ منهما انعكاسا للآخر ، كان كلٌّ منهما أكبر مخاوف الآخر !
.....اعتبر كلّ منهما أنّ الآخر لجام أفكاره المتطرفة ، والقيد الذي يحوي سطوة و طغيان شخصيّته بتعقّل !
.....اليوم ، و بعد ستّة أعوام ، ما يزالان يكملان الجمل ، و يلتقيان صدفة دون عتاب أو اشتياق ! و يتودّعان بابتسامة اللقاء المحتوم !
سألها : إحنا شو يا ليلى ؟
أجابته : نارٌ و ماء
هزّ رأسه موافقا : ولن نجتمع أبدا دون أن يقضي أحدنا على الآخر
أجابته : لن يحدث ذلك إذن !
.....حدث الأمر عندما كانت تجلس في قاعة الدرس ، تدون ما تيسر لها من ملاحظات مفهومة من دكتور لا يتحدث إلا الإسبانية ، دخل هو متأخرا ، و تهالك قربها في أول مقعد متاح ، بقيت هادئة جدا ، لم تزعجها رائحة عطره الممزوجة بالعرق ، ولا الملجدات الأربعة التي رماها على كفّ مقعدها ، اقتضبت ملامح وجهها رغما عنها ، ولكنها رسمت ابتسامة هادئة ، ناولته كتبه و أعادت توجيه جلستها متأقلمة مع الوجود الفيزيائي لجسده الضئيل .
كانت الأمور جيدة جدا ، حتى طرح سؤاله الأول !
.....سأل سؤاله ، ساد الصمت لحظة ثمّ تسرّبت ضحكات مكتومة في أرجاء القاعة ، أولها كانت بادية على وجه الإسباني الكئيب !
لقد كان أخنفا !!
.....اتسعت حدقتا عينيها ، و انحنى فمها للأعلى قليلا ، حاولت استجماع جدّيتها لأنها الأكثر قربا منه ، لكنّها ـ ولأنها الأكثر قربا منه ـ لم تستطع أن تفعل شيئا سوى تغطية وجهها و الالتفاف بعيدا عنه لتطلق العنان لدمعات الضحكات المكبوتة بالانهمار كالشلال مفسدة بذلك تبرّجها الخفيف .
.....دقيقتان أو أقل ، ثم استعاد من في القاعة وعيهم ، ربما كانوا قد انتهوا من الضحك ، لكنّها كانت قد أحسّت بالذنب تجاهه ، دار في رأسها العديد من الأفكار حول نشأته والسخرية التي تعرّض لها طيلة حياته ، لكنّ الجميع ، الجميع دون استثناء اعتدلوا في جلساتهم عندما تابع حديثه وكأنّ شيئا لم يكن .
.....شعرت بأنّ لها حجما صغيرا جدا أمام ذلك العملاق ، لم ترفّ عينٌ له ، و لم يهتزّ صوته ، لم يبلع بقية حديثه ، ولم يخرج باكيا من القاعة كما كانت لتفعل !
لقد ثبت تماما؛ بنظراته و صوته و جلسته .
.....في الحقيقة لم يفهم أحد سؤاله و لم يحصل هو على جوابٍ له رغم صياغته بأكثر من طريقة ، مخارج الحروف لديه كانت مُتلفة تماما .
.....في الاستراحة : التفت إليها و كرّر عليها ذات السؤال ، لم تفهم كلامه لكنّها ميّزت أنّ لكلماته ذات اللحن الذي ردّده في سؤاله ، ابتسمت له و ناولته ورقة و أومأت بنظرها للقلم بيده .
.....كتب سؤاله على الورقة ، وقد كان سؤالا ذكيا جدا ، لو وُظف في مكانه لغيّر مجرى الملل بأجمعه في تلك المحاضرة الكئيبة .
.....تناقشت معه بصعوبة بالغة ، و تردّدت كلمات مثل : آه ، آها ، ممكن ، آه ، بجوز ، عالأغلب !
.....توالت المحاضرات و التزم هو بمكانه قربها لأنّها كانت لطيفة بحيث لم تُدر له ظهرها كبقية الزملاء ، و صار الورق مرسول التفاهم بينهما و نافذة التفاعل .
كتبت له مرّة : شو يللي صاير فيك ؟!
كتب لها : بحكيلك بعدين
قرأتها ، و تلاقت نظراتهما ليضحكا معا ، كان من غير الوارد أن تفهم ما سيحكيه لها !
.....لكنّها فهمت ، لقد تحدث بصعوبة بالغة ، أخبرها عن سبب خروج الكلام بهذا الشكل و شعرت للمرّة الثانية بأنّها رغم قوامها الرشيق أقلّ أهميّة من حشرة تمشي على الأرض أمامه !
كان على دين غير دينها فارتاحت له أكثر ، كان يفهمها تماما و تفهمه أكثر ، باجتماعهما يمزجان الذكاء و الخطورة ، المزاح و اللّذع ، البراءة والخداع .
.....للأمانة : كلاهما كان ماكرا جدا ، و الجلوس معهما يُصيب سامع الحديث بنوبة صداعٍ حادّة .
.....لم يتواعدا مرّة على لقاء ، كانا يغيبان بالأشهر عن بعضهما ثمّ يلتقيان فجأة بلا عتاب ولا اشتياق ، يخوضان الأحاديث وكأنّما افترقا بالأمس ، و يفترقان بابتسامة كأنّهما سيلتقيان حتميا كلّ يوم !
.....في وقت الاختبارات كانا يُذاكران معا ، هو يحفظ الكثير الكثير من المعلومات بينما هي تنتقي ما تُحسّ بأهمّيته ، يُعلن حالة من التوتر العام بكثرة مجيئه و ذهابه ، و هي تعيد التوازن بثباتها ويقينها ، لم يكونا متشابهين بأيّ شيء !
سألتها رفيقة لها : شو بقعدك مع هالكائن !
أجابتها : أنّ له كيانٌ على عكسك !!
.....لم تتحدث الألسنة عنها لأنّها كانت قوية جدا ، ولها مهابتها بين الجميع ، اعتبر أمرهما ضمن سياق الزمالة القوية لأنّ أحدا لم يرغب في أن يخوض مواجهة مع أخنفٍ و سليطة لسان !
.....كانا يتشاركان الطعام على اختلافه : كوب من القهوة له و آخر من الذرة لها !
.....قدّمت له مرّة قطعتين من البسكويت : أكل واحدة ثمّ تذكّر أن يعطيها الثانية
قالت له : بقدرش ، مسمومة
فسمّم لها علبة بأكملها ردا للدين !
.....كان ما بينهما غير مفهوم إطلاقا حتى بالنسبة لهما ! لكنّ كلأ منهما وجد في الآخر مرآته ، النظرات الحادة ذاتها ، الذكاء المتّقد ، المكر الخطر ، و القدرة على سبر غور النفس بشفافية .
كان كلٌّ منهما انعكاسا للآخر ، كان كلٌّ منهما أكبر مخاوف الآخر !
.....اعتبر كلّ منهما أنّ الآخر لجام أفكاره المتطرفة ، والقيد الذي يحوي سطوة و طغيان شخصيّته بتعقّل !
.....اليوم ، و بعد ستّة أعوام ، ما يزالان يكملان الجمل ، و يلتقيان صدفة دون عتاب أو اشتياق ! و يتودّعان بابتسامة اللقاء المحتوم !