سلوان يوسف
12-16-2006, 09:11 AM
طابت أيامكم
شكرا للأصدقاء الذين وجهوا الدعوة لأكون بينكم
ستجدون هنا مقاطع من الفصل الأول لرحلتي الى لندن قبل نحو شهرين
كونوا بمحبة كاملة
(1)
في الطريق إلى المتحف البريطاني، توقفنا لنقلّ عادل معنا. قال أنور: إنه في النفق الآن.
أتصل عادل، وما أن قال : صباح الخير، حتى بادره أنور:
ـ أخرج من النفق ولا تنسَ أن ترفع رأسك من أجلي هذه المرة. ستجدنا بانتظارك.
بعد لحظات خرج عادل من نفق المشاة بخطواته التي تحتاج إلى عدائين ليتمكنوا من اللحاق به.
لا أعرف كيف عرف أنور بوجود عادل في النفق. لم يكن في صوته الذي وصلني واضحا ما يدلّ على وجوده فيه.
ولكي لا أعبث بفراسة أنور، أخذت أتطلّع من النافذة إلى الجهة الأخرى من الهايد بارك، وهذا تماما ما جعل أنور يتلفّت ناحيتي بانتظار أن أربّت على ظهر فراسته: لا شيء يخفى على رجل هنديّ من برج الدلو.
قبل أن ندخل المتحف اكتشفتُ مكتبة واسعة للكتاب المستعمل تقع في الجهة التي تواجه بوابته الرئيسة. دخل عادل في مقهى مجاور وغاب عن نفسه، دخلت المكتبة، كانت أرضيتها تصرّ تحت قدميّ اللتين بدتا ثقيلتين على الخشب الذي صقلته الأقدام منذ عام 1911. اتّخذ صريره هيئة نحيب لا يمكن تفسيره. لم يكن فيها أحد سواي، وبتعبير آخر (ليس سواي معي).
كنتُ مهجوسًا برفوفها التي تمتدّ وتجعلني أصعد بعنقي حتى تتاخم حافاتها السقف بمقرنصاته الجصية الرطبة. وبغتة وجدتُ سلّمًا يقود إلى دور أرضيّ، وهبطتُ. كان أكثر ثراء وسعة . صرت أتلوّى في ممراته التي تستدير على نفسها حتى قادتني إلى سلّم خشبي .وفي غمرة ما أنا فيه صعدته، وكان السلّم ذاته يتسلّق نفسه، دفعت بابًا في نهايته. فوجدتني في الشارع. وكان أنور أمامي بابتسامته التي تشبه رجلا هنديا قرّر أن يطلق فراسات برج الدلو كلها في الساعة 8:17 من صباح الأربعاء .
فصوص وطرائد
ـ رجلٌ يرفع يديه عاليًا ويصف الطريق لسائحة عمياء.
ـ امرأة تتحدّث مع رفيقتها بصخب عن السكون وهي تأكل شطيرة تخفي نصفها في كيس لامع.
ـ رجلٌ يضع حول معصمه ساعة نسائية ويلبس كنزة سوداء، يضيّق فتحتي عينيه من خلف نظّرته وكأنه يتهيأ للانقضاض على طرائده.
ـ رجل طلب إلي تصويره مع أسد عاطل.
ـ فوج سياحي آسيوي كان جميع من فيه يبتسمون في وقت واحد، ثم يقطبون معا. أنهم متماثلون كما لو خرجوا من الحرب بعاهة واحدة.
ـ كان المدخل يزخر بأفواج كثيرة من الزوار. يتقاطرون تباعا وكأن الجميع على موعد واحد مع أسلافهم.
ـ لم أمسك بلحية سرجون وحسب، لقد كانت قبيلة من الأجداد الذين حفروا الفراغ حتى سال في مسالك الروح وغياباتها.
ـ امرأة تغار من عشتار، ستعرف كم أن الكاف يحنّ إلى نقطته.
ـ في المكتبة، امرأة ترقص وهي متعلقة بكتفي صديقها، كانت تبدو في كل مرة تترك كتفيه وكأنها ستهطل على الأرض.
(2)
دخلنا المتحف، كان أبو جاسم قد خرج لتوّه من رواق دائري حاملا مجموعة من الكتب وقال بصوت خفيض أراده أن يكون عميقًا وواضحًا:
ـ خرجت بصيد ثمين.
كان بعضها عن تاريخ الأديان وآخر عن (جلال الدين الرومي) وكتابين عن الحضارة المصرية.
في الحقيقة، شعرتُ وأنا أواجه الأعمدة الرخامية الهائلة للمتحف بحاجة إلى أن أجعل عادل يتحوّل إلى عداء ليكون في مقدوره اللحاق بي.
في باحته الأمامية يرتفع نصب للفنان العراقي ضياء العزاوي، لم يكن من أفضل أعماله، مازال يراهن على ثيماته التي بدأها منذ أن عمل في جماعة الرؤية الجديدة، الحجم يخلق في المتلقي سطوة لا يمكنه مواجهتها، ورغم حجم النصب الهائل إلا أن سطوته كانت تبدو وكأنها إحدى فراسات أنور الضالة.
لك عندي هدية ستذهلك عن نفسك، قال أبو جاسم وهو يتقدمنا ويشير إلى مكتبة بدت تظهر على بعد نحو عشرين مترا. وقبل أمتار قليلة باغتني نصب آشوري، أظنه نصب لآشور ناصربال الذي عُرف عنه ولعه بالعمائر والحفائر.
ـ أنه جدّي، قلتُ وأنا أدخل المكتبة.
كان وسيمًا ولامعا مثل خاتم في مغارة.
ذهب أبو جاسم إلى زاوية وتركني أتفرس في مصادر وادي الرافدين ومصر، وبعد قليل عاد وهو يضع كتابا في كيس ويقول بلهجة طقوسية: أنه الكتاب.
أخرجته على عجل وأخذت أتصفّحه مأخوذًا. كان الكتاب مخصصا للآثار العراقية التي تعرّضت للنهب أثناء دخول قوات الاحتلال.
كم كان موجعا، وفي الحقيقة شعرت لبرهة بحاجة إلى البكاء.
صورة الرجل الذي يقتعد أرض المتحف المنهوب وهو يضع يديه على رأسه جعلتني أشعر بفداحة ما حدث مرة أخرى وأخرى.
قبل سنتين قلت لأحد الأصدقاء: إن ما حدث يشبه أن يقف أحدنا أمام فصيل إعدام معصوبي الأعين، وعندما يكون علينا أن نخرج أحياء من هذه المحنة، ستكون قد استقرت بضع رصاصات غير مميتة في أماكن متفرقة وربما سنفقد ساقا أو يدًا. ولكن أيضا ستكون حياتنا كما لو أنها لم تحدث.
فصّ
أكتب الآن من مقهى انترنت وعن يميني فتى يحدّث صديقه الذي يجلس عن شمالي كما لو أنه في الطرف الآخر من لندن..
يمدان عنقيهما ويتهامسان تحت ذقني.
شكرا للأصدقاء الذين وجهوا الدعوة لأكون بينكم
ستجدون هنا مقاطع من الفصل الأول لرحلتي الى لندن قبل نحو شهرين
كونوا بمحبة كاملة
(1)
في الطريق إلى المتحف البريطاني، توقفنا لنقلّ عادل معنا. قال أنور: إنه في النفق الآن.
أتصل عادل، وما أن قال : صباح الخير، حتى بادره أنور:
ـ أخرج من النفق ولا تنسَ أن ترفع رأسك من أجلي هذه المرة. ستجدنا بانتظارك.
بعد لحظات خرج عادل من نفق المشاة بخطواته التي تحتاج إلى عدائين ليتمكنوا من اللحاق به.
لا أعرف كيف عرف أنور بوجود عادل في النفق. لم يكن في صوته الذي وصلني واضحا ما يدلّ على وجوده فيه.
ولكي لا أعبث بفراسة أنور، أخذت أتطلّع من النافذة إلى الجهة الأخرى من الهايد بارك، وهذا تماما ما جعل أنور يتلفّت ناحيتي بانتظار أن أربّت على ظهر فراسته: لا شيء يخفى على رجل هنديّ من برج الدلو.
قبل أن ندخل المتحف اكتشفتُ مكتبة واسعة للكتاب المستعمل تقع في الجهة التي تواجه بوابته الرئيسة. دخل عادل في مقهى مجاور وغاب عن نفسه، دخلت المكتبة، كانت أرضيتها تصرّ تحت قدميّ اللتين بدتا ثقيلتين على الخشب الذي صقلته الأقدام منذ عام 1911. اتّخذ صريره هيئة نحيب لا يمكن تفسيره. لم يكن فيها أحد سواي، وبتعبير آخر (ليس سواي معي).
كنتُ مهجوسًا برفوفها التي تمتدّ وتجعلني أصعد بعنقي حتى تتاخم حافاتها السقف بمقرنصاته الجصية الرطبة. وبغتة وجدتُ سلّمًا يقود إلى دور أرضيّ، وهبطتُ. كان أكثر ثراء وسعة . صرت أتلوّى في ممراته التي تستدير على نفسها حتى قادتني إلى سلّم خشبي .وفي غمرة ما أنا فيه صعدته، وكان السلّم ذاته يتسلّق نفسه، دفعت بابًا في نهايته. فوجدتني في الشارع. وكان أنور أمامي بابتسامته التي تشبه رجلا هنديا قرّر أن يطلق فراسات برج الدلو كلها في الساعة 8:17 من صباح الأربعاء .
فصوص وطرائد
ـ رجلٌ يرفع يديه عاليًا ويصف الطريق لسائحة عمياء.
ـ امرأة تتحدّث مع رفيقتها بصخب عن السكون وهي تأكل شطيرة تخفي نصفها في كيس لامع.
ـ رجلٌ يضع حول معصمه ساعة نسائية ويلبس كنزة سوداء، يضيّق فتحتي عينيه من خلف نظّرته وكأنه يتهيأ للانقضاض على طرائده.
ـ رجل طلب إلي تصويره مع أسد عاطل.
ـ فوج سياحي آسيوي كان جميع من فيه يبتسمون في وقت واحد، ثم يقطبون معا. أنهم متماثلون كما لو خرجوا من الحرب بعاهة واحدة.
ـ كان المدخل يزخر بأفواج كثيرة من الزوار. يتقاطرون تباعا وكأن الجميع على موعد واحد مع أسلافهم.
ـ لم أمسك بلحية سرجون وحسب، لقد كانت قبيلة من الأجداد الذين حفروا الفراغ حتى سال في مسالك الروح وغياباتها.
ـ امرأة تغار من عشتار، ستعرف كم أن الكاف يحنّ إلى نقطته.
ـ في المكتبة، امرأة ترقص وهي متعلقة بكتفي صديقها، كانت تبدو في كل مرة تترك كتفيه وكأنها ستهطل على الأرض.
(2)
دخلنا المتحف، كان أبو جاسم قد خرج لتوّه من رواق دائري حاملا مجموعة من الكتب وقال بصوت خفيض أراده أن يكون عميقًا وواضحًا:
ـ خرجت بصيد ثمين.
كان بعضها عن تاريخ الأديان وآخر عن (جلال الدين الرومي) وكتابين عن الحضارة المصرية.
في الحقيقة، شعرتُ وأنا أواجه الأعمدة الرخامية الهائلة للمتحف بحاجة إلى أن أجعل عادل يتحوّل إلى عداء ليكون في مقدوره اللحاق بي.
في باحته الأمامية يرتفع نصب للفنان العراقي ضياء العزاوي، لم يكن من أفضل أعماله، مازال يراهن على ثيماته التي بدأها منذ أن عمل في جماعة الرؤية الجديدة، الحجم يخلق في المتلقي سطوة لا يمكنه مواجهتها، ورغم حجم النصب الهائل إلا أن سطوته كانت تبدو وكأنها إحدى فراسات أنور الضالة.
لك عندي هدية ستذهلك عن نفسك، قال أبو جاسم وهو يتقدمنا ويشير إلى مكتبة بدت تظهر على بعد نحو عشرين مترا. وقبل أمتار قليلة باغتني نصب آشوري، أظنه نصب لآشور ناصربال الذي عُرف عنه ولعه بالعمائر والحفائر.
ـ أنه جدّي، قلتُ وأنا أدخل المكتبة.
كان وسيمًا ولامعا مثل خاتم في مغارة.
ذهب أبو جاسم إلى زاوية وتركني أتفرس في مصادر وادي الرافدين ومصر، وبعد قليل عاد وهو يضع كتابا في كيس ويقول بلهجة طقوسية: أنه الكتاب.
أخرجته على عجل وأخذت أتصفّحه مأخوذًا. كان الكتاب مخصصا للآثار العراقية التي تعرّضت للنهب أثناء دخول قوات الاحتلال.
كم كان موجعا، وفي الحقيقة شعرت لبرهة بحاجة إلى البكاء.
صورة الرجل الذي يقتعد أرض المتحف المنهوب وهو يضع يديه على رأسه جعلتني أشعر بفداحة ما حدث مرة أخرى وأخرى.
قبل سنتين قلت لأحد الأصدقاء: إن ما حدث يشبه أن يقف أحدنا أمام فصيل إعدام معصوبي الأعين، وعندما يكون علينا أن نخرج أحياء من هذه المحنة، ستكون قد استقرت بضع رصاصات غير مميتة في أماكن متفرقة وربما سنفقد ساقا أو يدًا. ولكن أيضا ستكون حياتنا كما لو أنها لم تحدث.
فصّ
أكتب الآن من مقهى انترنت وعن يميني فتى يحدّث صديقه الذي يجلس عن شمالي كما لو أنه في الطرف الآخر من لندن..
يمدان عنقيهما ويتهامسان تحت ذقني.