مشاهدة النسخة كاملة : الشيء الذي ترك لسانه عندي وذهب...
مرحباً
أنا فقـد
فقـد فقط، هكذا مع مدّ بين القاف والدال
فَقْـ دْ... بدون تنوين، لأن اسمي مثل كل الأسماء ممنوع من الصرف
وبدون قلقة، وبفتح الفاء لأني مثل كل الأسماء، لا يمكن أن أكون فعلاً مبنياً للمجهول، أو حتى للمعلوم
ولا يمكن أن أضاف لأل التعريف
ولست نكرة، ولا معرفة
ولست فقّود، أو فقّودة، أو حتى دودة
أنا... فقـد، فقـد فقط
ستكتشفون لاحقاً بأن فقـد ليس اسمي الحقيقي
وستكتشفون أنه بلا معنى، وربما لا يشبهني كثيراً. ولو تساءلتم عن السبب الذي دفعني لكي أسمي نفسي اسماً درامياً كفقـد
ستخيب آمالكم، لأن الإجابة على سؤالكم هذا بالذات، غبية وسطحية وبلا قيمة
تشبه الجواب الأبله الذي كتبه أخي في امتحان الجغرافيا عندما سألوه: عرف المياه الإقليمية، فكتب بكل جرأة: هي البطاطا المقلية!
وصدقوني، لا أعرف مالذي دفعه لأن يكتب جواباً فارغاً وغبياً كتلك الإجابة التي يعرف حتماً أنها خاطئة
لكنه فخور جداً بالجانب الفكاهي من إجابته، والذي دفعنا جميعاً، حتى أبي الذي لا يمزح في موضوع الدراسة، للضحك
وصارت إجابته تلك مثال نحكيه للتدليل على الغباء.
قالت أمي مرة بأنهم كانوا سيسموني "سَحَرْ"
نعم سحر، ولسبب سخيف أيضاً، فقد كانت أمي تتابع مسلسلاً أو فيلماً أو شيئاً ما تمثل فيه "سحر رامي"
وقررت أمي وقتها أن المخلوقة المجعدة مختلطة الملامح والتي اندفعت تواً من رحمها، تشبه "سحر رامي"
تقول بأن السبب الأكبر هو شعري الداكن، وعيوني البنية، وبشرتي الحنطية...
شخصياً لا أعرف "سحر رامي" كثيراً لكني أؤكد لكم بأنها لا تشبهني، ولا يمكن أن تشبهني عند ولادتي لأني كنت أشبه الفأرة!
وقتها وقف عمي، أحد أعمامي الكثيرين، وقف في وجه أمي ورفض التسمية تماماً...
أبي كان منشغلاً عن كل شيء باللعب بالمخلوقة الصغيرة التي سقطت بين أحضانه فجأة،
كان يبلغ من العمر 24 عاماً، وأعتقد بأنه تخيل شكل حياتي كلها في اللحظة التي ألقى فيها الأذان على أذني
تخيل كمية الأوامر التي سيلقيها عليّ، المدرسة التي سأدرس فيها، الملابس التي سأرتديها،
الألعاب التي سيشتريها لي، وتخيل شكله وهو أب للمرة الأولى
عندما اشترى لي أبي دراجتي الأولي، كنت في الثالثة من عمري،
وكانت دراجتي زرقاء فيها شرائط زرقاء وسلة صغيرة في الأمام وعجلتين صغيرتين في الخلف للاتزان
وقتها قالت أمي بأن أبي يعلمني على أشياء الفتيان. قال أبي بأنه يريدني حرة ومتمردة
أنا متأكدة من أنه نادم جداً على ذلك الآن!
عندما كبرت قليلاً، أقل بكثير من الآن...
أردت أن أغير اسمي إلى "سارا" اسم خفيف ولطيف وسهل في الكتابة
لكن لم يتقبل أحد الفكرة، ولا حتى صديقي الوحيد "عبدالله" والذي كان يعيش في المنزل المقابل لبيتنا
طلب مني أن أكف عن إخبار الآخرين بأن اسمي "سارا"، لأنه لا يشبهني.
كان "عبدالله" يعشق كابتن ماجد في تلك الفترة، لذلك قال بأن الاسم الوحيد الذي قد يليق بي هو "لانا"
"لانا" أيضاً سمراء وذات شعر داكن وقصير مثلي، وكانت شرسة وقوية، لذلك وافقت "عبدالله" وقررت أن أسمي نفسي "لانا"
أخبرت آمي في اجتماعنا الأسري، نعم صرنا أسرة فقد أنجبت أمي أختي نورة وأخي أحمد بعدي بأربع سنوات فقط،
أخبرتها بأن تناديني "لانا" لأنه اسمي الجديد
لكن أمي رفضت رفضاً قاطعاً،
وقالت بأن الاسم الوحيد الذي قد تناديني به غير اسمي هو: أورسولا، الساحرة الشريرة في فيلم حورية البحر الصغيرة
يومها غضبت من أمي كثيراً، وقاطعتها فترة طويلة تجاوزت الساعتين. ربما كانت أطول فترة قاطعت فيها أمي بذلك الوقت.
ثم تنقلت بين مجموعة كبيرة من الأسماء
سميت نفسي أسماء كثيرة، أكثر من أسماء الكرة الأرضية
وعندما كنت في مرحلة المراهقة صرت أحب الكذب على الصبيان، وكنت أختار اسماً جديداً كلما تعرفت على واحد منهم
وكنت أهتم بأن يكون الاسم قصيراً وجذاباً ومغرياً.
كنت أستمتع كثيراً بالكذب، وطرح القصص الخيالية، ولم أعتقد أن واحداً منهم سيكون صادقاً معي،
صادقاً للدرجة التي كسرت فيها قلبه كثيراً... ولم أهتم!
ويبدو أن لعنته لاحقتني بعدها، حيث أنني وقعت في الحب بشكل غير جدي،
كنت في وضع سيء واكتشفني رجل يجيد اللعب بالنساء، ويجيد اكتشاف النساء العابثات
فتعابثنا معاً، وكذب كلانا على الآخر. ثم تناقصت كمية الكذب،
وتضاءلت للدرجة التي صار فيها يناديني باسمي الحقيقي هكذا أمام الملأ، وأصبح عريّنا واضحاً للآخرين
حتى وصلنا إلى تلك النقطة التي يصل إليها المتعابثين بالعادة،
النقطة التي نتراجع فيها إلى الخلف، ونسقط وسط أنفسنا، ونكتشف أننا فقدنا قدرتنا على الركض
وعندما سقطت كل القيود، قررت أن أكفّ عن ابتكار الأسماء التي لا تشبهني، وأن أتعرف على نفسي الحقيقية. عليّ أنا.
وفي وسط المعمعة، هكذا وبدون سابق إنذار، شعرت بالجوع، جوع شديد، واشتهيت البيتزا
أخبرت شخصاً ما، الشخص الذي سأقع في حبه وسأتزوجه لاحقاً ولسبب سخيف جداً، أخبرته بأني آشتهي البيتزا.
ذهب هذا الشخص وأحضر لي قرص بيتزا لذيذ جداً، لكنه نسي أن يخبرهم بأني لا أحب البصل!
لذلك قام هذا الشخص بإزالة كل حبات البصل بيديه، قطعة قطعة، قبل أن يعطيها لي. ولهذا السبب وقعت في حبه.
استمر هذا الشخص في إزالة كل الأشياء التي لا أحبها من حياتي
قطعة قطعة، هكذا بيديه وعينيه وفمه، وصار بالنسبة لي بطلي الخارق، صار جزءاً لا يتجزأ من جسدي، من روحي
لوحده اكتشف اسمي الحقيقي، لوحده اكتشف الجرح العميق في ظهري والذي لم أكن أعرف بأنه مازال واضحاً للآخرين،
ولوحده اخترع لي أسماء كثيرة، أسماء مشتقة من اسمي، أسماء تخصه لوحده وتعنيه لوحده... ولا يفهمها الآخرين
وعندما كنا أمام البحر ذاك اليوم قبل سبع سنوات، ناداني باسمي الجديد، الاسم الذي مازلت أحمله لليوم،
وختم كل شيء بقبلة عميقة على شفتي السفلى
الآن أنا زوجته منذ أربع سنوات، وأحمل ابننا الأول بين أحشائي
الطفل الذي مازلنا لا نعرف اسمه مع إننا قررنا أننا سنسميه سيف، مثل اسم أبي الغاضب مني لأني تمردت عليه كثيراً
لكني أحياناً أتراجع وأفكر بأسماء أخرى مثل: تيْـم... لأني كنت أحب "تيْماء" من مسلسل "العبابيد"،
لذلك كنت أفكر بإنجاب ولد أسميه "تيـم" وفتاة أسميها "تيـماء"
ويقول زوجي بأنه لا يهتم باسم الطفل، ويهتم بأشياء أخرى
أنا متأكدة من أنه الآن يتخيل شكل حياة طفله، يتخيل كمية الأوامر التي سيلقيها عليه،
المدرسة التي سيدرس فيها، الملابس التي سيرتديها، الألعاب التي سيشتريها له،
ويتخيل شكله وهو أب للمرة الأولى،
تماماً كما تخيل نفسه وهو زوج في تلك المرة التي ضحك فيها الشيطان علينا،
وفلت من بين أيدينا دون أن نحسب له حساباً يذكر.....
نشأتُ...
في بيت جدي
فيلا كبيرة في منطقة راقية، كانت راقية في ذلك الوقت، في مدينة أبوظبي
كان البيت ينقسم إلى غرف كثيرة، تعيش عمتي الكبرى في إحداها لوحدها،
علاقتي فيها سطحية وغير مهمة ولم تؤثر في حياتي غير مرتين، مرتين رسمتا شكل حياتي إلى اليوم
الغرفة الأخرى تعيش فيها عمتين من عماتي، واحدة منهما ربتني وأنا طفلة واعتبرتني ابنتها
العمة الأخرى كانت تكره الأطفال، لكنها الآن صديقتي، ونحكي أسرارنا لبعضنا البعض بشكل مستمر
الغرف الباقية توزعت بين أعمامي السبعة الآخرين غير أبي
وكانت هناك غرفة كبيرة، كانت مقر اجتماعاتهم السرية، كنت أتسلل إليها دائما لأنها تحتوي على تلفاز خاص، وأتاري
وكنت ممنوعة من اللعب بالأتاري غير بعض المرات القليلة التي أعطوني فيها جهازاً غير موصول، ورغم إني كنت أعرف أنه لا يعمل وأنهم يكذبون علي
إلا إني كنت أستمتع بتحريك الجهاز، وأستمتع أكثر باستسلامهم لنقي المستمر، النق الذي سيكون سلاحي الأول مع زوجي
كان أبي يمتلك غرفته الخاصة مع أمي، وكنت أعيش معهما في ملحق صغير بناه جدي بدلاً من التراس الكبير الذي كان يحيط بالغرفة
وكان حمام غرفة أمي أسود، وكنت أخاف من دخوله، وكثيراً ما سمعت أشخاصاً تغني وتصرخ وأنا في الداخل...
ذات مرة كنت أستحم لوحدي، فقام عمي الصغير، والذي تفصل بيني وبينه 5 سنين فقط، بإطفاء الأنوار والضحك بشكل هستيري من الخارج
أنا مت من الخوف، وأغمى علي، واضطر أبي لكسر الباب وحملي إلى المستشفى
في ذلك اليوم اكتشف الطبيب أني أعاني من ضعف بسيط في عضلة القلب،
ونصح أبي بضرورة إخضاعي لعدد من الفحوصات الطبية البسيطة حتى لا تتفاقم المشكلة
استمرت الفحوصات حتى أصبحت في العشرين من عمري، ثم مللت... وقررت أن أتوقف عن إجرائها،
وصف لي الطبيب بعض تمرينات التنفس، والكثير من تمرينات اللياقة البدنية، ما جعلني أدمن رياضة اليوغا
كانت علاقتي بجدي وجدتي أكبر من علاقتي بأمي وأبي
بالنسبة لي كانت أمي عمة أخرى، وكان أبي عم آخر، أما جدي فقد كان هو المربي، وهو المعلم...
وجدتي هي خط الدفاع الأول، وحضني الدافيء
علمني جدي القراءة والكتابة وأنا في الرابعة من عمري، وكان يهتم بتعليمي القرآن والصلاة
أما جدتي، فقد علمتني التنسيق في ملابسي، وكانت تطبخ لي ألذ الأكولات في الحياة...
ولأني عشت في بيتهما مع أعمامي الآخرين، اعتدت على أن أناديهما: أمّاه، وأباه،
وحتى بعد أن جاء الأحفاد الآخرين، سأظل أنا الوحيدة من بين الأحفاد التي أناديهما بهذه الطريقة،
حتى بعد سنوات طويلة من انفصالي المفاجئ والغريب عنهم
قررت أمي أننا سننتقل لبيت آخر خارج المدينة، وكان هذا الانتقال بالنسبة لي حجر كبير وقع في منتصف حياتي
لذلك اعتبرت أن أمي هي عدوي الأول، وصرت أعاندها بطريقة مدهشة ستستمر لفترة طويلة، إلى أن يقوم أبي بكسرها
وأشعر بضعفها الكبير، وسأحاول قدر الإمكان أن أحميها وأن أسند ظهرها... قدر الإمكان
أبي، وافق على إبقائي في نفس مدرستي في مدينة أبوظبي
لمدة ثمانية أشهر أخذني أبي بسيارته من مدينة بني ياس إلى مدرستي، ثم أعود منها إلى بيت جدتي
أتغدى هناك، وأعود مع أبي في المساء إلى بيتنا الجديد
كانت رحلتنا اليومية أنا وأبي هي أجمل حدث يوميّ،
كان أبي يحكي لي العديد من الحكايات، ويسألني عن مدرستي وعن حياتي، ويناقشني في مواضيع كثيرة
وكانت ألذ المواضيع هي التي يختمها بعبارة: "بيني وبينك... لا تخبري أحداً"
كنت أهز رأسي بجدية، وبعد أن يدير لي ظهره، أقفز من كرسي السيارة وعلى فمي ابتسامة كبيرة، لم أبتسم مثلها حتى اليوم
وبسبب علاقتي هذه بأبي، تفهمت كثيراً قراره بنقلي إلى مدرسة أروى الابتدائية للبنات في مدينة بني ياس
وعندما جاء ليكلمني حول الموضوع، هززت رأسي، ولم أبك مثل الأطفال، رغم الوخزة المؤذية التي انغرست في قلبي
والتي نسيتها مباشرة بعد أن اكتشفت أنني يجب أن أمشي إلى المدرسة الجديدة التي سأنتقل إليها، وأعود إلى بيتي مشياً أيضاً
كان البيت الذي انتقلنا إليه صغير جداً
بالنسبة لأمي كان هذا البيت الذي لا يقارن ببيت جدي، نقلة مؤلمة
كان يحتوي على شجرة سدر كبيرة مزروعة خارج المنزل، وتسقط ثمارها كل يوم وطول الوقت إلى الحوش الداخلي لبيتنا
وكان على جذعها، هذه السدرة، شكل وجه، وجه آدمي له عينان وفم وأنف
كنت أسمعها كل يوم تناديني باسمي، وكانت تحتفظ لي بثمرات السدر اللذيذة والخالية من الدود فوق سطح المنزل، في كومة صغيرة خلف أوراقها
ذات مرة وأنا آكل السدرات، سألتها عن سر وجهها، لأنني لم أر من قبل شجرة بوجه، ولا أعرف لماذا لم أندهش عندما ردت عليّ...
قالت لي بأنها كانت فتاة جميلة تعيش في البيت المقابل لبيت أبو سالم المعمري، وبأنها نست اسمها لأنها لم تستخدمه من زمان
كانت ظفيرتها طويلة تصل حتى منتصف ظهرها، "ورثت شعري الناعم وعيناي الواسعتان من أمي الهندية" قالت وهي تهز أوراقها
كانت في الثانية عشرة من عمرها فقط، لكن معظم الشباب تهافتوا لخطبتها، هكذا هكذا مثل الدود
ثم توقفت فجأة وحركت غصنها تجاهي: هل تخافين من الجن؟
قلت: هل أنت جنية؟
- لا لا، أنا سدرة…
- لا أخاف من الجن… أختي الصغيرة تخاف منهم
في ذلك الوقت كانت أمي قد أنجبت أختي صفية، وكانت صفية، بعد أن بلغت عامها الثاني تنام معي على سريري أحياناً
قالت سدرة بأن ابنة عمها سلمى غارت منها، كانت سلمى ذات شعر أجعد، وكانوا ينادونها الإثيوبية،
وكانت تحب ابن عمهم خلفان، ابنه المتوسط، "اللهم صلي على محمد... نسيت اسمه، لكنه تقدم لخطبتي..."
قبل العرس بيومين جاءت سلمى لزيارتهم، وأعطتها هدية بمناسبة زواجها
في اليوم التالي استيقظت وهي شجرة، شجرة كبيرة...
قالت: شعرت بالرعب، صرخت، ضربت أركان المنزل، لكن لم يحدث شيء
أحضر أبوها عدداً كبيراً من المشايخ ليقرأوا عليها لكن... لم يقدر أحد على فك السحر
كانت أمها ترويها بالماء كل يوم، وتأمرها بالصلاة وتضع أمام وجهها مصحفاً صغيراً للذكر
في النهاية اضطرت عائلتها للانتقال من المنزل لأن أمها لم تحتمل رؤيتها على هذه الحال... وجئنا نحن وسكنا في البيت
أخبرت أمي بالقصة لكنها أمرتني بعدم الصعود لسطح المنزل
وصارت تعاقبني كلما رأتني أقفز فوق خزان الماء الكبير خلف البيت، لأنه كان وسيلتي في الصعود لسطح البيت
توقفت سدرة عن الحديث معي بعدها، لأنها لا تريد أن تشعل المشاكل بيني وبين أمي
لكنها استمرت في قذف ثمار السدر فوق رأسي كلما مررت من تحتها إلى المنزل....
يقع بيتنا، البيت الذي انتقلنا إليه، في منطقة فقيرة جداً في بني ياس
ورغم إننا لم نكن فقراء في الحقيقة، إلا أن أبي وجدي سمعا بأن الحكومة قررت هدم المنطقة
وتوزيع بيوت شعبية كبيرة للمواطنين القاطنين فيها، بيوت من الحكومة...
ومازاد هذه الإشاعة تأكيداً أن أبونا زايد -رحمه الله وطيب ثراه-
ظهر على التلفاز وهو يأمر ببناء بيوت للمواطنين وتوزيعها بأسرع وقت ممكن
ووعد ببيت لكل أسرة مواطنة، ولكل شاب مواطن.
كانت بيوت الناس مصنوعة من الخشب، مثل المخيمات سطوحها من القصدير
أحياناً كانت الأبواب حديدية، وأحياناً كثيرة كانت مجزد غطاء خشبي مثبت ببعض المفاصل
لم تكن الأبواب مقفلة، كانت كل الأبواب مفتوحة. وكان الجميع يدخل على الجميع، والجميع يعرف الجميع
بيتنا كان خشبياً من الخارج لكن اسمنتي من الداخل، ربما كان البيت الوحيد المبني من الاسمنت
وكانت فيه غرفتان فقط، ومساحة خارجية أغلق أبي نصفها فيما بعد وحولها إلى صالة
عندما دخلت أمي أول مرة إلى البيت انصدمت، قالت بصوت عال: "أنا... كيف أعيش هنا؟"
كان انتقالها من بيت جدي إلى هذا العش الكئيب طعنة مؤلمة
وكان خروجها من مدينة أبوظبي إلى قرية نائية وفقيرة لتلك الدرجة، غصة تعلقت في حلقها لفترة طويلة
خصوصاً وأن كل حريم أعمامي الأخريات لم يضطررن لمثل هذا الانتقال
كل واحدة منهن عاشت في شقق متطورة، أو فلل مؤثثة بأحدث الأثاث وأجملها
لم تستوعب أمي سبب اضطرارها للعيش في تلك المنطقة... لم تستوعبه أبداً
ولم تتفهم الأثاث البسيط والتافه الذي أثث فيه البيت
كان أثاثاً مستعملاً، حتى غرفتها المستقلة الأولى لم تكن جديدة!
عندما عدنا لبيت جدي قبل انتقالنا بفترة بسيطة، سمعت أبي يحاكي أمي
أقنعها بأنها فترة مؤقتة، قال: "تسعة أشهر، تسعة أشهر فقط، ثم تعطينا الحكومة فيلا كبيرة ستصبح ملكك أنت
ستكونين أنت أميرتها والله، تسع شهور مثل الحمل والولادة"
لم تقل أمي شيئاً، ولم تكن تعرف أن هذه الأشهر التسعة ستمتط إلى سنوات كثيرة، تسع سنوات على وجه الدقة
كانت على استعداد لأن تفعل أشياء كثيرة من أجل أبي، أي شيء وكل شيء
خصوصاً عندما تكون بين يديه، خصوصاً عندما يشاركها كل شيء
العلاقة بين أبي وأمي كانت هادئة
كان أبي حنوناً جداً، حنوناً على أمي بالذات،
كان يشعر بأنها امرأة بسيطة ولذلك كان يحبها، لم تكن أمي معقدة، طلباتها في الحياة صغيرة
كلمة واحدة ستقلب يومها كله إلى سعادة أو... حزن شديد
وكان أبي يعرف ذلك، ويقدره كثيراً
لذلك عندما تغضب أمي وتثور ويعلو صوتها، كان أبي يلتزم الهدوء، ويحاكيها بصبر يوازي صبرها على كل شيء
وكنا نعرف أن أبي يحب أمي لأن أمي تخبرنا كل يوم كم تحب أبي، وكم هو رجل طيب، ويتعب من أجلنا... يتعب كثيراً
نعم،
كانت حياتنا تشبه تلك التي نقرأ عنها في الكتب والحكايات
الأب الذي يغيب طوال اليوم بحثاً عن لقمة العيش،
والأم البسيطة التي تهتم بالمنزل وبالأولاد وتطبخ الطعام وتدرس أبناءها
كان أبي يغيب عنا أسبوعاً كاملاً، كان يعمل في حقل من حقول البترول
وكان يعود إلينا لمدة ثلاثة أيام فقط تسميها أمي: أيام العيد
في أيام العيد، تجهز أمي أجمل ملابسنا وتزيد مصروفنا اليومي درهماً كاملاً،
كنا نذهب إلى مدارسنا ونحن نحمل في جيبنا ثلاثة دراهم، ما يعني أننا وصلنا لطبقة الأغنياء جداً
أحياناً كنت أحتفظ بالدرهم لكي أشتري به حلويات من دكان أبو بكر القريب جداً من بيتنا
كانت عودة أبي إلى البيت تمثل حدثاً أسبوعياً بهيجاً، احتفال لم تمل أمي من إقامته طوال فترة عمل أبي
كانت تهتم بنظافة كل زاوية في المنزل، حتى تلك الزوايا التي لا يمكن أن ترى بالعين المجردة
لم أفهم أبداً، إلى اليوم، أهمية أن نسحب الثلاجة الثقيلة لكي ننظف تحتها ثم نعيدها لمكانها!
تقول أمي: آبوك قوي، لو فتح الباب وتحركت الثلاجة قليلاً ورأى كل هذا الوسخ تحتها ماذا سيقول؟
لا أعتقد بأنه سيقول أي شيء، سيصمت ويأخذ ما يريد ويذهب...
بعد أن تتأكد من أن أركان المنزل لمعت،
وهو ما كان صعباً نظراً للمنطقة التي كنا نعيش فيها
تحني شعرها لأن أبي يحب رائحة الحناء، وكانت تخرج قنينة عطر خاصة لا تضعها إلا لأبي، تقول بأن أبي يحب رائحة الياسمين
وكانت تلبس الألوان التي يحبها أبي، خصوصاً الأزرق والبنفسجي والبني
ولم تكن تضع الماكياج، لا يحب أبي الماكياج أبداً، يقول بأن الله خلق أمي جميلة ولا تحتاج للمساحيق،
لذلك كانت أمي تعتني برائحتها كثيراً
أمي امرأة جميلة جداً، بيضاء مثل الثلج، وشقراء وشعرها ناعم، يسميها أبي الزبدة السايحة.
وكنت أتساءل دائماً لماذا خلقني الله حنطية لهذه الدرجة، وشعري أسود وثائر بهذه الطريقة الغبية
كانت أمي تجبرني على ارتداء الفساتين الأنثوية يوم عيدها، وكنت أكرهها
لأني عندما أخرج للخارج ويراني أصدقائي وأنا أرتدي هذه الثياب التافهة يعلقون على شكلي
خصوصاً مع التريحة البلهاء التي تعتمدها آمي مع شعري الثائر،
حيث تشد كل شعرة للوراء في ظفيرة واحدة ملفوفة من قمة رأسي لأسفل
كان عبدالله يضحك على شكلي وأحياناً كان يحضر كاميرة أخته الكبرى ويلتقط صوري للذكرى!
عندما يعود أبي، عندما يدخل للمنزل، كنا نصرخ: جاء العيد، جاء العيد.
نركض جميعاً إلى حضنه، وكان يضمنا أنا وأختي نورة وأخي أحمد بقوة
ثم يرفع رأسه إلى أمي ويقبلها ويحتضنها ثواني قصيرة كفيلة بأن تحول وجه أمي الأبيض للون أحمر قان،
أحياناً كان يخرج من جيبه وردة اقتطفها من الطريق ويعلقها وراء أذن أمي
وأحياناً كان يقول: اشتقت لك
وأحياناً لم يكن يقول أي شيء، يدخل للصالة الصغيرة ويجلس على الأرض
لأننا لم نمتلك كراسي للجلوس وقتها...
ونبدأ حفلة الكلام، أنا أحكي ونورة تحكي وأحمد يحكي
وأبي يستمع بصبر شديد بينما تجهز أمي السفرة
ونجلس كلنا على الأرض حول صحن كبير
ونأكل أطيب الوجبات في العالم: رز بعدس وسمك مقلي وسلطة، خبز بلدي وعسل وفتة موز، رز ولحم وصالونة
كانت هذه الوجبات الاحتفالية خاصة فقط بأيام العيد، الأيام الثلاثة التي يعود فيها أبي للبيت
في اليوم التالي بعد أن نعود من المدرسة
نخرج بعد العصر ونذهب إلى أبوظبي، نذهب إلى الكورنيش ونصعد لقمة النافورة الكبيرة وندور حولها
ثم نذهب إلى حديقة المطار ونلعب بالمراجيح ويركض أبي وراءنا ويركب كل الألعاب معنا
ثم يشتري لنا وجبة فروج مشوي وتبولة وحمص من زهرة لبنان ونذهب إلى حديقة صغيرة نأكل الوجبة ونعود للبيت
في اليوم الثالث نزور بيت جدتي
التي تطبخ لي المعكرونة لأنها تعرف جيداً أني أعشق المعكرونة
ولسنوات طويلة ستطبخ لي جدتي المعكرونة كلما عرفت بزيارتنا لهم،
وستخبر الجميع بأنها طبختها لي خصوصاً
ثم نعود للبيت، وتحزن أمي مرة أخرى، وتخلع كل ألوانها، وتغيب رائحتها إلى العيد المقبل...
كان غياب أبي الطويل عن المنزل يراكم بعض المشاكل الطارئة التي كانت تحتاج لعلاج مستعجل
مثل انقطاع المياه، انقطاع الكهرباء، تسريب من فتحات الصرف
وكان أبي يتصل بنا يومياً لكي يسلم علينا ويكلم أمي
أحياناً كانت تتجنب ذكر بعض المشاكل، وأحياناً أخرى كانت تخبره بما يجري
عندما اكتشف أبي حجم الأشياء التي تخترب بشكل دوري وتحتاج لصيانة مستمرة
صار يعلمني كل شيء
- عندما تنقطع المياه، تعالي إلى الخزان هنا وتأكدي من أنه ممتليء بالماء،
تأكدي من أن الدينامو يعمل بشكل جيد، سيكون صوته هكذا، شغليه من هنا.....
- إذا كان هذا الخزان فارغاً تسلقي إلى السطح وافتحي الخزان الآخر، يجب أن يكون ممتلئاً دائما
- انفخي هنا، حتى تضغطي على المياه، عندما تصنعين منطقة ضغط كافية سينزل الماء من الأنبوب الآخر
- لو انطفأت الكهرباء تأكدي أن كل المفاتيح متجهة للأعلى، لو كان واحداً منها مطفياً يجب أن تعرفي لماذا،
سيكون ماساً كهربائياً وعليك أن تطفئي الجهاز الذي يسببه
-يجب أن تتعلمي كل شيء لأن أمك مسكينة وتحتاج لمن يعينها
وهكذا وهكذا...
تعلمت كيف أنظف فتحة الصرف، وكيف أشغل آريال التلفزيون عندما يتشوش التلفزيون، وتعلمت كيف أعيد تشغيل الكهرباء
كنت رجل المنزل، كانت أمي تستعين بي في كل شيء
وقتها... شعرت بأهميتي، وكنت أثق بقدراتي كثيراً... أكثر من اللازم
تقع مدرستي الإبتدائية، مدرسة أروى للبنات، في منتصف المنطقة التي كنا نعيش فيها
كان الجميع يذهب إليها مشياً على الأقدام على طريق رملي
كنت أحب الرحلة الصباحية للمدرسة أحياناً، كنت أغير الطريق حسب المزاج وحسب الوقت
أجمل الأيام كانت أيام المطر حيث تتكون البرك والمستنقعات طوال الطريق
وكنت أتعمد القفز في كل بركة، وكنت أتزحلق على الطين ما كان يدفع أمي لحافة الجنون عندما تراني
أحياناً كان أبي يدللنا ويأخذنا إلى المدرسة بسيارته التيوتا
وعندما نتأخر عن الطابور الصباحي كانت أمي ترافقنا إلى المدرسة لكي تبرر تأخرنا للمديرة
كنا جميعا نعيش نفس الظروف الاجتماعية تقريباً، أنا والطالبات الأخريات
وكان الجميع يعتبرنا أعلى منزلة من الآخرين، حتى المعلمات
لأننا أنا وأختي، نظيفات جداً، وملابسنا نظيفة، وواجباتنا محلولة
وكنا أذكياء في الفصل، نجيد القراءة والكتابة ونحفظ القرآن
كانوا يعاملوننا بشكل مختلف لأن أمي وضعت نفسها في منزلة أعلى من الأمهات الأخريات
كانت أمي مثقفة... كانت تهتم...
لم تختلط أمي بنساء الحي الأخريات أبداً وكان باب بيتنا مغلقاً دائماً
أم عبدالله، هي المرأة الوحيدة التي صادقت أمي، وكانت تزورنا
أحياناً كانت تحضر معها صديقاتها لكن لم تخرج أمي لزيارتهن إلا قليلاً جداً
كنت أثق بنفسي
في مدرستي، كنت أثق بما أفعل
كنت أعرف أن رسوماتي أجمل من رسومات الجميع
كنت أعرف أني سأحصل على الدرجات النهائية في كل اختبار أخوضه
وكنت متأكدة من تساهل المدرسات معي لأني تلميذة نشيطة
وكان الجميع، حتى الطالبات يحبونني، وكنت مثلاً أعلى للطالبة المجتهدة
رغم إني في الحقيقة كنت من أشغب البنات على وجه الأرض
للدرجة التي قامت فيها أمي ذات مرة برمي إناء زجاجي على رأسي ثم قالت: احمدي ربك ما انكسر!
حدث الانفصام الداخلي في نفسي عندما انتقلت إلى مدرسة الزلاقة المشتركة للبنات
تقع مدرسة الزلاقة في منطقة خارج منطقة الفقر التي نعيش فيها وسط فلل شعبية جميلة وحدائق
الطريق إلى تلك المدرسة كان جميلاً ومعبداً ويحتوي على إشارات مرورية
كنا نذهب بالحافلة...
في تلك المدرسة اكتشفت للمرة الأولى في حياتي أقلام الحبر الملونة
والمسّاحة الوردية المرسوم على غلافها الورود والحيوانات
اكتشفت أدوات مدرسية مرسوم عليها شخصيات ديزني
الشخصيات التي أحببتها وشاهدتها عبر أفلام الفيديو طوال حياتي
سخرت البنات في فصلي من أدواتي المدرسية الغبية، مساحتي عادية بيضاء، وقلم حبر أزرق وآخر أسود
ومسطرة شفافة وبراية زرقاء، من ذاك النوع الذي لو قلبته يحتوي على مرآة دائرية
حتى مقلمتي كانت عبارة عن شنطة صغيرة زرقاء، وحقيبتي المدرسية عادية ومملة
لم أمتلك أشياء ملونة
ولم أكن أعرف أي شيء عن مرطب الشفاه
ولا مرطب اليدين
وكان حجابي أبيض بسيط، مثبت من المنتصف بدبوس
وكن هن يرتدين شيل سوداء تظهر من تحتها شعورهن الملونة
وكان مريولي واسعاً يتبع التعليمات المدرسية
ومراييلهن ضيقة، فيها فتحة من الخلف، ولا يرتدين أي شيء في الأسفل....
وقتها فقط، شعرت بأني... أقل من الأخريات
عندما صارحت أمي بما يحدث في المدرسة
قالت بأن الأدوات الملونة لا تصنع العظماء،
ورفضت تماماً أن أظهر شعري من تحت حجابي رغم إني لم أكن محجبة أصلاً
ومنعتني من مقارنة نفسي بالأخريات لأني لا أشبه أحداً و لا يجب أن أشبه أحداً
في داخلي...
كنت أريد الأدوات الملونة باهضة الثمن
وكنت أريد حذاء أسود جميلاً فيه كعب قصير من الخلف بدلاً من حذاء البالرينا الأبيض
وكنت... أريد... أن أكون مثلهن...
في تلك المدرسة لم أصادق أحداً
ولم يرغبن في مصادقتي أصلاً
ولأول مرة، لأول مرة... بدأت في السرقة
صرت أسرق الأدوات المدرسية من البنات من الفصول المجاورة وأدعي بأنها ملكي
أتركها في الدرج في المدرسة حتى لا تكتشف أمي سرقاتي المتكررة
وتعلمت الكذب... صار كلامي كله عبارة عن كذبات متتالية
وكنت أبرر كل شيء...
تعلمت أن أقول بأن أمي "العبيطة" تحب النظام والقوانين
وعندما أرسلت لها المدرسة بروشور الملابس قررت تفصيل الثوب المدرسي حسب اللوائح
وكنت أختم: "أفففف من الأمهات، يخربون حياتنا والله"
وكنت أتكلم عن خادمتنا الهندية الوهمية بكثرة،
وكيف أحرقت حجابي ذات مرة ولأني مستعجلة لم أجد الوقت الكافي لتغيير الحجاب
لم أخبرهم بأن أمي تجبرني علي كوي ملابسي قبل الذهاب للمدرسة
وبأني في ذلك اليوم حرقت حجابي، ولأني خفت من أمي... ارتديته وخرجت وأنا أجهز الكذبة الكبيرة التي سأكذبها في المدرسة
شعرت بأن البنات يعرفن بأني أكذب، لأنهن بكل تأكيد يعرفن المنطقة التي أخرج منها كل يوم
ربما الشيء الوحيد الذي لم أحاول إخفاؤه أبداً هو المكان الذي أعيش فيه
شعرت بأنني سأزيد من قيمة كذباتي عندما يعرفن بأن هناك جزء كبير من الحقيقة فيما أقول
ثم جاء اليوم الذي سأكتشف فيه أهمية النقود
وزعت علينا المعلمة أوراق رحلة مدرسية إلى "حلبة التزلج في أبو ظبي"
في مدرستي القديمة، كانت أمي تعطيني عشرة دراهم للرحلات دائماً وكنت أشعر بأني ملكة العالم
في هذه المدرسة، العشرة دراهم تشبه مصروفاً يومياً تحمله الطالبات معهن كل يوم..
عندما تجمعت الطالبات وبدأن الحديث حول مصروفهن للرحلة، نظرن إلي وسألنني عن المبلغ الذي سأحضره معي
قلت بلا تردد 100 درهم
عدت للمنزل وأنا أفكر بالطريقة التي سأقنع فيها أمي بمنحي مبلغاً هائلاً مثل هذا المبلغ
ولم يكن هناك أي مجال للتراجع، خصوصاً بعد أن سمعت شهقات البعض، وعدم تصديقهن لما أقول
عندما سألت أمي عن المبلغ الذي ستعطيني إياه نظرت إلي وقالت خلاص رح أزيدك هالمرة، بعطيك خمسة وعشرين
توقعت أمي أن ترى في وجهي كل علامات الابنتهاج، لكني... أخفضت رأسي لأسفل وخرجت من الغرفة
اقترب موعد الرحلة المدرسية
وكنت أزداد توتراً كلما تكلمت البنات في موضوع الرحلة
عندما جاء يوم الرحلة، إرسلتني أمي كالعادة إلى دكان أبو بكر لشراء الحلويات.
أعطتني خمسة دراهم لشراء كل ما أريد، كانت تشعر بشعوري بالنقص،
وكانت تحاول أن تكون سخية معي بدون مبالغة حقيقية....
فجأة، توقفت سيارة خارج الدكان، ونادى صاحبها أبو بكر،
اضطر أبو بكر للخروج من الدكان للاستجابة لطلبات الرجل،
ولأنه يعرفني جيداً ويعرف كل من في الحي... قال لي: خذي ما تريدين، وضعي النقود هنا
وفتح لي درج النقود الصغير في منتصف الطاولة التي يضع عليها العلكة، والتوفو، والبولو...
وكل الحلويات الملونة التي أحبها، وأشتريها بشكل يومي من دكانه...
عدت للبيت وأنا أجمع حلوياتي بكيس صغير
اشتريت شيبس عمان، بفك عمان، جيلي كولا، مصاص أبو ربع، علك أبو ربع، معصار
ومجلة ماجد، عندما كان سعرها ثلاثة دراهم فقط...
ثم اندفنت في سريري رغم أن الساعة لم تتجاوز السادسة والنصف مساء
عندما عاد أبو بكر للدكان رآني وأنا أقف أمام درج النقود
سألني إن كنت اشتريت ما أريد أجبته بالإيجاب
أخبرني بأنه خبأ لي العدد الجديد من مجلة ماجد،
كنت الوحيدة في الحي التي أقرؤها وكان يحضر نسخة واحدة كل أربعاء لي خصيصاً
شكرته واشتريت المجلة وهممت بالخروج
بعد قليل وأنا فالخارج ناداني بصوت عال
وقفت...
نظرت للخلف ببطء
أشار لي بأن أعود إليه
كان الطريق إليه طويلاً، طويلاً أكثر مما تخيلت
عندما وصلت مد يده يعطيني حلاوة جيلي كولا، حلاوتي المفضلة إلى اليوم
قال: سمعت بأنك ستذهبين إلى حلبة التزلج غداً، خذي هذه، وقولي لأمك أن الحساب وصل 148 درهم
اتفقت أمي مع أبو بكر ألا يزيد حساب الدين مع الدكان عن مئتي درهم
وأنه يجب أن ينبهها عندما يتعدى الحساب مئة وخمسين حتى تحتاط
تشتري أمي من الدكان المياه المعدنية والخضراوات والفواكه، وبعض اللوازم المنزلية
ورغم أن أبو بكر أخبرها ألف مرة بأن مياه الحنفية نظيفة وقابلة للاستعمال
كانت أمي ترفض أن نشربها
في اليوم التالي، يوم الرحلة
تجهزت للخروج بسرعة، ارتديت مريولي ولبست تحته بنطلون جينز وقميص أبيض
وحملت معي جاكيت قصير آسود مطرز بنمر كبير من الظهر
وبالطبع لم أرتد الحجاب...
حملت معي حقيبة الرحلات وركضت إلى موقف الباصات
في الحافلة، اعتصرت المئة درهم التي أخذتها من درج أبو بكر بين يدي
شعرت بالعرق يتجمع حول الورقة،
كانت مشاعري مختلطة، أقنعت نفسي بأني فقط سأريها للبنات
ثم سأخبئها في جيبي وسأستخدم الخمسة وعشرين درهماً التي أعطتني إياها أمي
وسأعيد المئة درهم لأبو بكر آخر النهار فور عودتي من المدرسة
كانت خطة محكمة وغير قابلة للخسارة، وكنت متأكدة بأن أبو بكر لن يخبر أمي
كانت الرحلة ممتعة، وحسب الخطة شاهدتني البنات وأنا أخرج للعاملة 100 درهم من جيبي
ثم أستبدلها بخمسة وعشرين درهماً لأنها لا تمتلك فكة كافية
وجلست على الطاولة لوحدي آكل وجبة الغداء وأنا سعيدة جداً، سعيدة من الداخل
أبدى الجميع إعجابهن بجاكيتي
في ذلك الوقت لم أكن أعرف أي شيء عن الماركات العالميةا
سألتني إحداهن إن كان قميصي من صنع إحدى الماركات
قلت: ربما، أنا لا أهتم بنوع الماركة طالما أن القطعة أعجبتني
أبدت الفتيات إعجابهن بكلامي
تزلجنا لفترة طويلة ذلك اليوم، ثم حان موعد خروجنا من المكان
عدت للمنزل وأنا أشعر بأني أكّدت على مكانتي بين الطالبات أخيراً
وعندما وصلت، جلست مع أمي وإخوتي نشاهد أفلام الكرتون
ثم خرجت للعب في الخارج، وعدت الساعة السابعة مساء, ونمت... بعمق
في اليوم التالي عندما استيقظت قالت أمي:
- وجدت مئة درهم في جيبك البارحة، من وين جت؟
كنت قد نسيت موضوعها تماماً، رفعت رأسي من صحن الكورن فليكس ومخي يعمل بطريقة سريعة جداً
- أوه، نسيت أن أعطيها للمعلمة، البارحة طلبت مني شراء بعض الأشياء ولم أفعل
- رجعيها اليوم
- أوكي ماما…
لم أنسى هذه الحادثة أبداً منذ حدوثها
كانت نقطة فصل في حياتي، لأنها سهلت عليّ أشياء كثيرة في المستقبل
سمحت لي بتجاوزات أخلاقية بسبب أغراض تافهة مثل أخذ النقود من جيب أبي،
أو… من حقيبة أمي
أو بعد ذلك عندما كبرت وصار عندي صديق أكلمه عبر الهاتف،
صرت آخذ النقود من حقائب زميلاتي لكي أشتري بطاقات الموبايل
ثم صرت أسرق من المحلات التجارية الكبرى والصغرى
لم تعد المسألة مجرد حاجة نفسية لتغطية متطلبات طفولية
صارت مثل التحدي
مثل دفعة أدرينالين قوية تتدفق إلى جسدي عندما لا يكتشف أمري أي شخص
ولم يكتشفني أي أحد أبداً
لم أعد المئة درهم إلى أبو بكر
ولم أصرفها
دفنتها في مكان خفي بعيد عن الجميع خلف بيتنا
وأقسمت ألا أخبر أحداً عن السر
وأقسمت ألا أكرر هذه الفعلة نهائياً بعد الآن
اكتشفت لاحقاً
أني لا أجيد الاحتفاظ بالأسرار
ولا أوفي بالوعود
نهائياً
أمي...
يمنية الأصل
تقول ذلك رغم أن والدها فارسيّ وأمها هندية
لكنها تتكلم العربية فقط، لا تجيد ولا الهندية ولا الفارسية
المفاجآة أن والدتها وأخوالها لا يجيدونالتحدث بالعربية بطلاقة،
تقول بأن جدتي، والدتها، أصرت على أن تعلمهم العربية لأنهم في مجتمع عربي
تعود أصول والد أمي لأسرة يهودية استقرت في اليمن منذ زمن بعيد،
لا تحب أمي الحديث عن الموضوع رغم إني سألتها مراراً كيف تحولوا من يهود إلى مسلمين
تقول أمي بأن جد جد جدها هرب إلى اليمن من زمان، من أزمن الزامنين
وانتقل إلى حارة في عدن، في المنصورة، وهناك اشترى بيتاً هو بيتهم لليوم
ودخل في الإسلام لكي يقترب من الناس حوله، لأنهم لم يحبوا التعامل مع اليهود
ولكنها لم تتربى تربية إسلامية،
فقد عاشت في وقت منعت فيه ممارسة الدين في اليمن
منع الحجاب، اختلطت المدارس، رفع تعليم القرآن
وعاش الناس في بيئة كانت فيها كلمة "مسلم" مجرد لفظة تضاف إلى الهوية بلا معنى حقيقي
كان أبوها يعمل مع الإنجليز، وكان يجيد العديد من اللغات،
"لم يستطع أحد أن يعد عدد اللغات التي يجيدها أبي" تقول بفخر شديد
كانت اللغة الإنجليزية هي إحدى اللغات التي اكتسبها بعد الاحتلال البريطاني لليمن،
وبذلك ضمن جدي وظيفة مرموقة بين الإنجليز أهدت أهل أمي مكانة جيدة في المجتمع
كان لهذه الوظيفة سلبية وحيدة، فقد عرفت جدي على حياة "الكفار "
وصار مدمناً على شرب الخمر
لم تكن أمي أو أي أحد حولها يعرف أو يهتم بحقيقة أن الخمر محرم في الإسلام
لكنهم يعرفون أن المجتمع من حولهم ينظر نظرة دونية للسكارى،
وكانت تحزن لأن والدها رجل عظيم جداً
في الأيام القليلة التي كانت فيها أمي تحكي لنا حكاياتها،
كانت تخبرنا كيف كان يخزن جدي زجاجات الخمر في ثلاجة منزلهم
وكيف كان يطلب منها بالذات أن تحضر له زجاجة من الثلاجة والكثير من القات لتعديل المزاج
ورغم أنها كانت ترفض كل ذلك من الداخل، إلا أنها كانت تلبي طلباته بهدوء شديد
عكس كل إخوانها وأخواتها الذين كانوا يمطرون والدهم بالشتائم بسبب العار الذي يجلبه لهم
لم تخبرنا أبداً عن موقف والدتها من كل ما يحدث، لم تتحدث عنها كثيراً،
كان حديثها عن والدتها قصير وحميم ولا يحمل العديد من الذكريات
كانت أمي أجمل فتاة بين أخواتها، وهي رغم عصبيتها حساسة ودافئة جداً
وكان جدي مرتبطاً بها أكثر من بقية بناته وأبنائه
أطلق جدي على أمي اسماً فارسياً معناه "البلورة" بسبب بياضها وشفافيتها الشديدة
وعندما ظهرت عليها معالم الأنوثة، تهافت عليها الخطاب من كل مكان
لكن جدي لم يعتقد أن أمي تستحق أن تعيش في اليمن
كان يشعر بأنها أفضل من ذلك بكثير
تعرف أبي على والدتي عن طريق جدتي، أم أبي، التي تقرب لأم أمي من بعيد
أبي هو أكبر أبناء العائلة، وكان جميلاً جداً وقتها يشبه ممثلي السينما
وعيون أبي، تقول أمي: "عيون أبوكم العسلية هي أول ما لفت نظري"
كان أبي وقتها طالباً جامعياً مبتعثاً للدراسة عن طريق إحدى شركات البترول الإماراتية
وكان الخليج حلماً يراود كل الناس في ذلك الوقت
وكانت الإمارات في الثمانينات في بداية الثورة الاقتصادية،
حيث تحولت من دولة صحراوية إلى مدينة شبه متطورة، ترتفع أبنيتها وتزيد المساحات الخضراء فيها
وأن تتزوج أي امرأة من رجل إماراتي الأصل هو قمة الحظ، وقمة الترف
لم تر أمي أبي قبل الزواج، ولم تكن تعرفه
أرسلت لها جدتي صورة أبي، وطلبت منها أن تفكر على مهل
"أعرف جيداً أن الغربة صعبة يا ابنتي، لكنك ستكونين هنا بين أهلك، لا تقلقي"
كانت أمي وقتها في الثامنة عشرة من عمرها، تخرجت تواً من الثانوية
وعملت في مجال التدريس كخدمة وطنية قبل الالتحاق بالجامعة
وأبي أيضاً، رأى صورة أمي، أعتقد، أو... لا أعرف، نسيت
تم كل شيء بسرعة، انتقلت أمي من عدن إلى الإمارات
تزوجت في عرس كبير جداً في فندق الشيراتون، أكبر فنادق الإمارات في الثمانينات
ودخلت بيت جدي الكبير، وصارت لها غرفة مستقلة، شبه مستقلة
ووقعت في حب أبي،
أحبته لدرجة الألم
لدرجة لا يمكن أن تتحملها أي فتاة على وجه هذه الأرض
عاملت جدتي والدتي كابنة لها
ربتها، علمتها، أمسكت بيدها، دافعت عنها، وأحبتها
أمي بطيبتها وهدوئها وتهربها من المشاكل أصبحت قريبة من الجميع
من كل أهل أبي، كل أعمامي وعماتي يضعون والدتي في موضع مختلف عن جميع زوجات إخوانهم الآخرين
تزوجت أمي أبي وأعمامي صغار جداً
وكانت تحبهم وتدافع عن أخطائهم أمام جدي
علاقة أمي القوية بأهل أبي انعكست علينا، صرنا نحن أيضاً مرتبطين كثيراً بأعمامنا
وصارت معاملتهم لنا تختلف كثيراً عن تعاملهم مع الباقين
إلى اليوم
لم أر أهل أمي غير مرات قليلة جداً، ولا تربطنا فيهم أي علاقة من أي نوع
لا نعرف أسماء معظم أخوالي ولا حتى أشكالهم
بعد أن تزوجت أمي من أبي حمّلها أهلها مشاكلهم المادية
وكانت أمي تخجل منهم ومن تعاملهم معها
وبذلك فضّلت أمي أن تفصل علاقتها بأهلها عنا جميعاً
زارنا أخوالي ثلاث مرات فقط خلال 31 سنة هي عمر زواج أمي بأبي
وزارتهم هي 4 أو خمس مرات على الأكثر
لم تكن تطالب بزيارتهم، ولم يكن أبي يرحب بغيابها عن المنزل للسفر إليهم في كل الأحوال
في عام 1993، كنت في الصف الثالث الإبتدائي وأبلغ من العمر ثماني سنوات
قررت أمي للمرة الأولى أن تحملنا جميعاً إلى عدن لزيارة أهلها
قضينا عندهم أسبوعين حاول فيها جدي وجدتي أن يدللوننا قدر الإمكان
وكانوا ينادوننا "الخليجيين"
وكان أخوالي وأبناؤهم يغضبون من تحدثنا باللهجة الإماراتية،
ويطالبوننا بالتحدث باليمنية لأنهم يعرفون بأننا نجيدها
لكننا لم نكن نجيد التحدث مثلهم، كانت طريقتهم مختلفة عن طريقتنا
بعد فترة، تعودنا على طريقتهم في الكلام، واكتسبنا ألفاظاً جديدة
ألفاظ نبهتنا أمي ألاّ نلفظها أمام أبي لأنها سوقية، وغير راقية أبداً...
[/size]
زواج أمي من أبي غير حياتها كثيراً
بطرق مختلفة عن الأشياء التي تتغير في الحياة عند الزواج
زواج أمي من أبي جعلها تكتشف كم هي إنسانة خاضعة، ومطيعة وطيبة
كانت حياة أمي مختلفة تماماً عن حياة أخوات أبي
كل واحدة من أخوات أبي إنسانة مستقلة تماماً
قويات، ذات آراء خاصة ومتعلمات لدرجات الماجستير والدكتوراة
كل هذه الأمور كانت غريبة على أمي التي جاءت من بيئة بسيطة ورجعية نوعاً ما
تعودت أمي على السمع والطاعة وعدم المجادلة واحترام الزوج وطاعته
وبذلك فرض أبي الذي كان في أوج شبابه، سلطته على أمي،
منع أبي أمي من زيارات الحريم التي كانت جدتي مداومة عليها،
ومن الماكياج لأنه لم يكن يحبه،
وأمرها منذ البداية بعدم مخالفة أوامره
تقول أمي بأنه كان عصبياً جداً معها، وعندما نسألها باستغراب: "كيف بقيت معه؟"
تقول: "جدتكم كانت طيبة، وأنا أحبه"
جدتي هي سيدة المنزل
الآمرة الناهية، لا يحدث أي شيء في البيت مهما كان صغيراً إلا بأمرها
متحكمة بكل أركان البيت والعائلة
جدتي امرأة قوية جداً، لا يمكن أن تكسرها الظروف
لكنها تنكسر أمام حبي جدي الكبير والعظيم لها
مازال جدي يحتفل بعيد زواجهما إلى اليوم، 25 شعبان، كل سنة
يتصل بأبنائه واحداً واحداً، وهو لا يتصل بأحد أبداً
يذكرهم بالتاريخ، يأمرهم بشراء الهدايا ويحتفل بجدتي التي تنخرط بالبكاء كل سنة
كل سنة، رغم أنها تعرف ما سيحدث، وتعرف جيداً أن جدي لن ينسى
ولكن لم يحتفل أي أحد بجدي، ولا مرة، لم نقم له حفلة أبداً ولا أعرف لماذا!
اكتسب أبي عادات جدي، ولفترة طويلة كان أبي يحتفل بجميع أعياد أمي
وكان يعطينا المال لكي نشتري لأمي الهدايا في عيد الأم، وعيد ميلادها، وعيد زواجها
وكانت أمي تبتسم ابتسامتها الغريبة التي تخفي فيها أسنانها،
والتي اعتادت عليها بسبب فقدها لسنيها الأماميين عندما كانت في الخامسة عشرة من عمرها
عندما تزوجت أبي، أخذها إلى طبيب أسنان ركب لها أسناناً صناعية
كان أسعد يوم في حياة أمي، قالت لنا بأنها شكرت أبي كثيراً وكل يوم
لكنها لم تستطع تغيير شكل ابتسامتها الغريب...
لم يكن أهل أبي ملتزمين دينياً لدرجة كبيرة، لذلك لم تجبر أمي على ارتداء الحجاب
لكنها تعلمت أصول الدين للمرة الأولى في حياتها
تعلمت الصلاة والصوم وقراءة القرآن، وهي إلى اليوم تدين لأهل أبي بتعليمها الدين
بعد فترة قصيرة، سنة أو سنتين، التزم أحد أعمامي دينياً
وأجبر الجميع على الالتزام بتشدد
حطم عمي كل التماثيل وطمس اللوحات الفنية التي كانت تحتفظ بها جدتي في المنزل
وأصبح كل أهلي ملتزمين دينياً فجأة
قصة التزام عمي هذا مازالت لغزاً لم يستطع أي أحد تفسيره إلى اليوم
فقد كان أكثر أعمامي شقاوة، كان لاعب كرة مشهور جداً، وانضم إلى صفوف المنتخب الوطني
حياة الشهرة التي عاشها جعلته يميل إلى حياة العربدة والنساء
كان جدي متعباً من تصرفاته الحمقاء، وكان يعاقبه كثيراً
ثم قرر فجأة أن يتجه للدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية
وحصل على بعثة دراسية فعلاً
توقع الجميع ضياعه وفشله التام
وكانت أسوأ الاحتمالات هي عودته محملاً بمرض خبيث لا علاج له
تقول أمي بأن سفره كان مأساة حقيقية بالنسبة لجدتي التي لم تعرف كيف سيكون سلوكه هناك
المفاجأة أنه عاد ملتزماً دينياً، ومتشدداً أيضاً!
عمي هذا أدخل الالتزام إلى عائلتنا، وصار جميع أعمامي وعماتي مثله
أطالوا اللحي وقصروا الأثواب
بعد فترة، ستقل درجة الالتزام في العائلة، ستقل كثيراً وستصل إلى مستويات معتدلة ومنطقية
في ظل هذه الأجواء الدينية اكتشفت أمي أن الخمر حرام
ومباشرة أخبرت أمها أن الخمر من المنكرات وأن أبوها، جدي، سيدخل إلى النار دون حساب
خافت جدتي على جدي من غضب الله، وأقنعته بهجر الخمر
وفعلاً، خلال فترة قصيرة أقلع جدي عن الشرب، وارتاحت أمي،
واستغفرت الله كثيراً لأنها كانت تسقيه الخمر دون اعتراض
بعد سنوات عندما مات جدي أبو أمي، قالت أمي: "الحمدلله، أمهله الله، الحمدلله"
عندما حبلت أمي بي بعد سنتين من زواجها
كنت أنا الحفيدة الأولى للعائلة، وكان احتفالهم بي كبيراً
دللوني كثيراً
وكنت ابنة مزعجة، مزعجة لدرجة كبيرة
عشت في بيت جدي الكبير خمس سنوات قبل أن أنتقل إلى بيتنا
بعدها صارت تربيتنا قائمة بيد والدتي فقط
التي بذلت جهداً كبيراً في تحصين بناتها بالدراسة، بالاستقلالية، وبحرية التعبير عن الرأي
الشيء الذي دعمه أبي لكن دون حماس،
فضل أبي ترك هم التربية بين يديّ أمي ولم يتدخل في تربيتنا أبداً
الشيء الذي لم يفلح فيه والديّ هو أسلوب العقاب الغبي الذي اتبعوه معنا
خرج الإثنان من بيئة تؤمن بأن الضرب هو الوسيلة الأولى للتربية
واتبع أبي معنا الأسلوب نفسه
لكن في معظم المواقف التي انضربت عليها لم أفهم سبب الضرب
ولم أعرف لماذا انضربت أصلاً
والطريقة التي يضرب فيها أبي كانت مؤلمة
مؤلمة لأنك لا تفهم السبب
ومؤلمة لأن أبي يتحول لكائن قاسٍ جداً، يتعمد إيلامك، ويضرب بأسوأ الوسائل
أحد المواقف التي لا يمكن أن أنساها هي عندما كنت في المرحلة الإعدادية،
كنت في الرابعة عشرة من عمري وكنت قد "بلغت " قبل أسابيع قليلة
ذلك اليوم عدت من المدرسة وتلقيت اتصالاً من عمتي،
عمتي الكبرى التي كانت وكيلة في المدرسة التي أدرس فيها ذلك الوقت
قالت لأمي بأني أنزل من باص المدرسة، أذهب للدكان وأعود للباص مرة أخرى
وأن أهالي الطالبات اشتكوا بسبب تأخر بناتهن عن العودة للبيت،
وبأني وبعض زميلاتي السبب في ذلك وبأنها ستخبر أبي
الطريقة الغبية التي تكلمت فيها عمتي لم تكن منطقية أبداً بالنسبة لي
كانت في حالة عصبية غريبة، وكانت تهددني بأنها ستخبر والدي، تهدد!
استغربت وسألت والدتي عن الخطأ الذي وقعت فيه
لم أكن الوحيدة التي تنزل من الباص
ولم أكن ممنوعة من الذهاب للدكان، كنا نذهب للدكان كل يوم
لكني بدلاً من العودة للبيت والذهاب مشياً على الأقدام، كنت أفضل النزول من الحافلة
قالت أمي: أبوك بيقتلك!
- يا سلام! ليش؟!
استطاعت عمتي وأمي أن تشعراني بالذنب وبأني ارتكبت فعلة كبيرة، كبيرة جداً رغم إني لم أعرف ما هي
وانتظرت عودة أبي، انتظرت العيد بفارغ الصبر
عاد أبي،
وكان غاضباً طبعاً،
ناداني مباشرة إلى الغرفة، دخلت وأغلقت الباب خلفي
كان يمسك بعصا مكنسة كهربائية بين يديه
من المنظر، عرفت بأني سأنقتل من الضرب ...
أشار لي أبي بأن أجلس على الأرض
كان جالساً فوق سرير أخي، وكانت عصا المكنسة الكهربائية بجانبه
نظرت إلى وجهه مباشرة...
قال: على أساس كبرت وصرت العاقلة
كان يشير بشكل واضح إلى حقيقة بلوغي قبل أسبوعين،
لم أكن أعتقد أنه يعرف، لذلك خجلت وأخفضت بصري لأسفل
"هل تعرفين لماذا ناديتك؟"
عندما يسألنا أبي هذا السؤال تكون كل إجابة ضدنا
لو أجبت نعم يعني أنا وقحة، أعرف الخطأ وأرتكبه
لو أجبت لا، سأكون غبية وحمقاء ولا أعرف الصح من الخطأ
لذلك قلت: نزلت من الحافلة إلى الدكان أشتري حلويات ورجعت...
قال: كم مرة؟
- لا أدري، كثير
انتهى الحوار
بعدها
أمسك أبي بعصا المكنسة، طلب مني أن أرفع يدي
وهوى بها على كفي بكل ما أوتي من قوة...
استمر أبي بضربي ذلك اليوم إلى أن فقدت قدرتي على البكاء
ضربني على ظهري، ومؤخرتي، وأكتافي، وأقدامي، وصفعني على وجهي عشرات المرات
لم يكلف نفسه ولا للحظة عناء آن يشرح لي السبب الذي ضربني من أجله
كنت أرجوه أن يستمع لي وأنا أكرر: طيب أنا أروح الدكان كل يوم، شو المشكلة، ليش...
وكان يغضب أكثر ويضربني أكثر
حاولت أمي أن توقف أبي لكن طبعاً لم تكن محاولاتها مؤثرة بأي شكل من الأشكال
عندما توقفت حفلة الضرب خرج من الغرفة
وكالعادة عندما يضربنا، قال لي قبل أن يذهب: "عندما تكبرين، ستشكريني"
وأمر أمي بأن تقطع مريولي، لأني محرومة من الذهاب للمدرسة... للأبد!
كنت جالسة على الأرض أتفحص جسدي وأبكي بصمت
نظرت إلى نفسي في المرآة المعلقة على خزانتي، لم تكن هناك كدمات على وجهي، تنهدت بارتياح
يدي اليمنى كانت متورمة وممتلئة بالكدمات
تعمد أبي أن يوجه ضرباته للجهة اليمنى من جسدي
ربما لأني عسراء، وقليلاً ما أستخدم يدي اليمين
عندما كنت طفلة حاول أهلي كثيراً أن يجبروني على الكتابة بيدي اليمنى
لكن باءت كل محاولاتهم بالفشل، بعدها علموني أن أمسك الملعقة بيدي اليمنى
ولذلك الشيء الوحيد الذي أستخدم فيه يدي اليمين اليوم، هو الأكل...
وقفت...
لاحظت أن ظفر أصبعي الكبير في قدمي انكسر، كان ينزف قليلاً
مسحته بطرف بيجامتي التي لن أرتديها بعد اليوم لأنها تحولت إلى خرق
حمدت الله لأنني لم أكن أرتدي بيجامتي المفضلة
كان والدي صامتاً كعادته بعد أن يضربنا،
جهزت له أمي كأس شاي بالحليب والهيل، شرب... ونام
كانت الساعة قد تجاوزت الثامنة والنصف مساءاً
دخلت أمي إلي واحتضنتني وهي تتفقد الكدمات على وجهي
قالت بأن سمعة عمتي صارت على المحك في المدرسة
وبأن مديرة المدرسة قالت لعمتي "باب النجار مخلوع"
قالت: "تعرفين شو يعني تقول لعمتك باب النجار مخلوع؟"
كان الحوار الداخلي الذي دار بيني وبين نفسي يحمّل عمتي مسؤولية كل ما حدث
في ذلك اليوم اكتشفت أن علاقتي فيها ستقتصر على المجاملات
وبأنها إنسانة تافهة... تافهة جداً
لم أكن أعرف بأنها في المستقبل ستتخذ موقفاً حقيراً آخر ضدي
وبأني سأكرهها أكثر مما كرهتها ذلك اليوم
بعد أن حُرمت من الذهاب إلى المدرسة لمدة ثلاثة أيام تقريباً
اتصلت بجدتي ورجوتها أن تطلب من أبي أن يسمح لي بالذهاب للمدرسة بعد عطلة نهاية الأسبوع
لم أكن مستعجلة على الذهاب، كنت أريد أن تختفي كل الكدمات في جسدي
تفاجأت جدتي من كل ما حدث وغضبت من أبي كثيراً
لا أعرف ما هو الحديث الذي دار بينها وبين أبي لكني يوم الأحد، كنت في المدرسة
في المدرسة، كانت عندي صديقة مصرية اسمها نور كاندي
اسم تركي مركب يعني ضوء الشموع
كانت صديقتي المقربة والوحيدة في الصف
كنا نتنافس أنا وإياها على إحراز الدرجات النهائية
كانت تتفوق علي في الرياضيات والعلوم، وكنت أتفوق عليها في مواد اللغات الإنجليزية والعربية
أثناء غيابي عن المدرسة اتصلت بي نور تسأل عني وعن أسباب غيابي
أخبرتها بما حدث، ويبدو أنها أيضاً شعرت بأني مخطئة لأنها أبعدت نفسها عني نهائياً
حقدت على عمتي أكثر
بعد أسبوعين من تلك الحادثة تقريباً
طلبت مني أمي أن أذهب للدكان لكي أحضر بعض لوازم المنزل
رفضت،
قلت: تحتاجين الدكان روحي لوحدك، أما تضربوني وبعدين تطلبون مني أروح إنسي
سبتني أمي ودعت عليّ مليون دعوة لأنها كانت محتاجة للحليب من أجل وجبة الفطور في الصباح
وأمام إصراري الكبير على عدم الذهاب
وعجزها عن استحضار سبب منطقي يبرر إمكانية ذهابي الآن، وسبب الضرب الكبير الذي تعرضت له
اضطرت لأن تذهب مع أخي الصغير لوحدها....
وضحت لي هذه الحادثة شكل حياتي في المستقبل
اكتشفت وقتها أن أبي على استعداد لأن يقتلني من أجل كلام الناس، حتى لو لم يكن الكلام منطقياً
وتيقنت من أني سأنضرب كثيراً
كثيراً جداً...
في المستقبل،
سأحارب من أجل أسخف حقوقي الإنسانية
وسأرسم مليون خطة لهروبي من المنزل
وسأشعر بعدم الإنتماء وبالضياع التام
وسأفقد الثقة في نفسي، وبآرائي وأفكاري
وسأتحول لإنسانة مهملة وتافهة
وسأبحث عن القبول في كل مكان
حتى إني سأصل
... لمرحلة الإلحاد التام
في تلك الليلة بعد أن ضربني أبي
مر على غرفتنا كعادته كل ليلة، تأكد من نومنا جميعاً
ثم صعد إلى سريري، تفقد الكدمات على جسدي
قبلني على رأسي
...وخرج
لا أعرف الكثير عن طفولة أبي
في الحقيقة لا أعرف أي شيء سوى بعض الصور القديمة التي نستعرضها من وقت لآخر
تمتلك عمتي الكبرى جهاز عرض صور قديم جداً
من ذاك النوع الذي يحول الصور من شرائح شفافة إلى صور منعكسة على الجدار
كانت أسعد لحظات حياتي هي عندما تجتمع كل العائلة
وتستجيب عمتي لتوسلاتي المتكررة بأن تعرض علينا صوراً جديدة
في الصور كان أبي يرتدي ملابس جميلة ومواكبة للموضة دائماً
وكانت جدتي تشبه سعاد حسني تماماً
كانت في كل الصور ترتدي فستاناً قصيراً إلى الركبة وحجاباً صغيراً تربطه بطريقة تجعها تشبه ممثلات السينما المصرية
ورثت عنها عظمات وجنتيها الجميلتين، أكثر ما يميز وجهي...
تقول أمي بأن جدتي كانت خياطة ماهرة، وامرأة ذات ذوق عال جداً
عندما ولد أبي كانت جدتي تبلغ من العمر 22 عاماً تقريباً، أو أصغر ربما
أبي هو الثالث بعد ابنتين اثنتين، وهو الصبي الأول
يحترمه الجميع، وكلمته نافذة، وهو حنون جداً مع إخوته الصغار، وشقي أيضاً
رغم تمرده الشديد، أبي بار جداً بوالديه
ولديه الاستعداد الكامل للانصياع لكل أوامر أبيه حتى لو لم تكن منطقية
لم لتكن لديه خيارات كثيرة في الحياة، ولم يحصل على فرص أصلاً
لم يهتم أي أحد بأحلامه الخاصة ولا برغباته
عاش أبي حياة روتينية بعد أن تزوج من أمي وأنجبنا
وصار خال من الطموح، يعيش فقط، هكذا بلا هدف وبلا رؤية حقيقية للتطور للأعلى
لذلك أصبح يسخر من أحلامنا، نحن أبناؤه، ويحطمها واحدة بعد الأخرى
خصوصاً إذا لم تندرج هذه الأحلام تحت المسار الذي رسمه لنا مسبقاً
لكن عاطفته كبيرة جداً
لا نستوعبها، وأحياناً نمل منها لأنها غير منطقية بالنسبة لنا
ورغم ذلك كان أبي يجتهد في إظهارها
يعرف ألواننا المفضلة، وفواكهنا المفضلة، وهواياتنا
يعرف الأشياء الأساسية عنا ولو ادعى عكس ذلك
وكان عندما يشتري لنا الهدايا يتأكد من أننا سنحبها كثيراً
ولم يفشل في ذلك أبداً
يفرق أبي في تربيته بين الولد والبنت
ويمنح الولد أحقية التصرف في المنزل بين أخواته حتى لو كان صغيراً في العمر
الشيء الذي خلق العديد من النزاعات بيني وبين أخي الأصغر عندما بدأت مراهقته
لكن بعد أن أصبح في السابعة عشرة من عمره، تعقل في تعامله معنا وصار أقل جنوناً من الإخوة الآخرين الذين يكبرون في العوائل الأخرى
ربما بسبب تربية أمي لنا، والتي تقوم على أساس حق الاختيار طالما هذا الاختيار لا يضر بسمعتنا
لم يتدخل أبي في تربيتنا إلا قليلاً جداً
كان يقول دائماً بأنه لا يهتم بدراسة البنات، وأننا بعد المرحلة الثانوية سنترك الدراسة
وكانت مزحاته الغبية في هذا الخصوص، إذا كنا سنعتبرها مزحة، تضايقني وتحبطني جداً
لكني الآن اكتشفت أنها طريقة أبي في تحفيزنا للحصول على درجات أعلى وأفضل
لأنه لم يكن يستخدم هذه العبارات إلا في حالة واحدة، عندما تقل درجاتنا عن المستوى
طريقة أبي في السخرية من إنجازاتنا التي سنكتشف لاحقاً أنه فخور بها في الحقيقة،
كانت تثير غضبي، وكنت أشعر أنه يغار من نجاحي لأنه فاشل في الحقيقة،
مشاعري هذه كانت تزداد عنفاً عندما يحبط أبي خطة من خططي
أو يمنعني من تحقيق هدف كنت أريد الوصول إليه فقط لأنه يعتقد بأن هدفي تافه بالنسبة له!
وبذلك كبرت وأنا أعتقد أن كل ما آحاول تحقيقه تافه في الحقيقة
وتخليت عن الكثير من رغباتي وطموحاتي مقابل تحقيق أغراض الآخرين
الشيء الذي سيفقدني ثقتي بكل ما أفعل... كل شيء
في المستقبل، سينفجر أبي
وسيصل لمرحلة غريبة من الإحباط والتمرد
للدرجة التي سأصل معها لمرحلة الكراهية المطلقة له، ولوجوده في حياتي
وسأعامله كند، وسأحاول أن أكون أفضل منه في كل ما أفعل
ستتحول كل تصرفاتي إلى تحديات
وستكون حياتي في بيته مستحيلة... مستحيلة تماماً
عدد الأصدقاء في حياتي قليل جداً
أول صديق اتخذته في حياتي جاء في وقت مبكر جداً، قبل أن أستيقظ
كان وجهه أزرق وشعره مقصوص من الخلف
كنت فارغة وقتها، ولم أكن قد عرفت نفسي، أو اكتشفت الحياة من حولي
طلب مني ألاّ أخبر أحداً عن وجوده في حياتي، لكني أخبرت أمي
لأني في ذلك الوقت، لم أخفي عن أمي أي شيء
صديقي الأزرق طلب مني مرة أن ألعب معه لعبة
وضع يديه فوق عيني تماماً، ومسك أنفي بيده
سألني: ماذا ترين؟
قلت: أسود
- لا... لا... ماذا ترين؟
- ولا شيء...!
صديقي الأزرق غضب مني كثيراً ، قال إني مثلهم!
- مثل من؟ سألته
لكنه اختفى ولم يعد أبداً
عندما بكيت وأخبرت أمي لامتني لأني لم أخبره الحقيقة
لأني عندما أغمضت عينيّ رأيت حديقة زرقاء مليئة بورود وردية وحمراء
وأشجار لا تشبه أشجارنا الخضراء، كانت الأشجار ملونة وجميلة
قلت لأمي بأني خفت أن أخبره فيعتقد أني مجنونة وأكذب عليه!
بعد مدة طويلة نسيت صديقي الأزرق
وتعرفت على دب مملوء بالقطن اعتدت على أن أقابله سرّا في دكان أبوبكر
كنت أسرق الحلوى لنفسي، وأدس في يده قطعة شوكولاتة
من تلك التي أشتريها بنقود أمي حتى لا يحترق بالمال الحرام
كان يحب الجلاكسي مثلي، ويشرب علبة بيبسي كاملة
ذات مرة أخبرني عن الفتق في ظهره، وعن غبار الرف الذي يصيبه بنوبة عطس طويلة
ذكرني بالعجوز التي تقطن آخر الشارع والتي لا تتكلم إلا لو أرادت أن تشتكي
كانت تضربنا بعصاها الثقيلة عندما نحاول أن نقطف ثمار المانجا من حديقتها الصغيرة
طلبت من أمي أن تخيط جرحه لكنها رفضت، وطلبت مني أن أكفّ عن إزعاجها بصديقي الجديد
لأنها لن تشتريه من أجلي!
استغربت كثيراً
كانت المرة الأولى التي أكتشف فيها أننا نشتري أصدقاءنا
تأكدت من ذلك عندما ذهبت إلى الدكان لكي أخبر دبي المملوء بالقطن عن فلسفة أمي، ولم أجده
أخبرني أبوبكر فيما بعد، أنه باعه لطفلة لا أطيقها تسكن في حارتنا
كانت المرة الأولى التي أكتشف فيها أننا لا نملك أصدقاءنا!
الشخص الوحيد الذي لم يبعني حتى الآن هو صديقي عبدالله
كبرنا معاً، ودرسنا معاً
كانت مدرسة الأولاد، مدرسة مصعب بن عمير الإبتدائية مجاورة لمدرستنا -نحن البنات- تماما
كل يوم في تمام الساعة السادسة والنصف صباحاً، يأتي "عبّود" إلى بيتي
يفطر معي أحياناً، ثم نمشي إلى المدرسة
في الرابع من يوليو عام 1992، أصبح عمره 9 سنوات
اشترى له أبي دراجة هوائية حمراء، واشترى لي مجلة ماجد
في الخامس من يوليو من ذات العام، عرض عليّ أن يقلّني كل يوم من وإلى المدرسة بدراجته الحمراء
ثم قرأنا مجلة ماجد معاً
عندما صار في الحادية عشرة من عمره اختفى أبوه المزواج من المنزل
اعتقد الجميع بأنه هرب لكي يتزوج من فتاة جديدة لكنه أبوه لم يعد ولم يتصل بهم
ولأنه الولد الوحيد بين أخواته الأربعة، أضطر للعمل في "شيشة" بترول قريبة من بيتنا
تلك السنة رسب عبود في الصف السادس
كنت وقتها في الصف الخامس، لذلك عندما عاد السنة أصبحت أساعده في حل كل واجباته
لكنه كان يتغيب كثيراً، لذلك كان يرسب في الامتحانات الفصلية
وعاد السنة مرة أخرى
عندما رسب تلك السنة أيضاً، اضطر لترك المدرسة والتفرغ بشكل كامل للعمل
بعد خمس سنوات من غيابه، عاد أبوه فجأة
لم يبرر غيابه الغريب لأحد لكنه أجبر عبود على الالتحاق بالجيش
يومها فرغت كل أحلامه وكان حزيناً جداً
جاء إلى بيتنا وأخبرني بأن حلمه لأن يصبح مهندس كمبيوتر انتهى للأبد
كنت وقتها في المرحلة الإعدادية وكان في السادسة عشرة من عمره
بعد فترة، انحرف عبود وصار عربيداً وتغيرت أخلاقه كثيراً
أصبح يضايق الفتيات ويشرب الخمر، وصار وقحاً مع الجميع
ذات مرة كنت عائدة من المدرسة، وكان ينتظرني أمام موقف الحافلة
لاحظت أنه لم يكن طبيعياً، كانت رائحته مقرفة
كان يمشي معي بهدوء لم يتكلم، لم يقل أي شيء أبداً
عندما وصلنا للمنزل، ورأته أمي قالت: لا أريدك أن تختلط مع ابنتي أبداً بعد اليوم!
أخفض عبود رأسه وخرج من المنزل
لم أفهم ما حدث، لكني لم أناقش أمي لأني أعرف أنها تحبه كثيراً، تحبه كأنه ابن لها وأخ لنا
بعدها بفترة بسيطة لم تتجاوز الشهرين أو الثلاثة
انتقلنا من منزلنا، ولم أر عبود أو أسمع عنه إلا بعد مرور خمس سنوات تقريباً على آخر لقاء بيننا
كان لقاؤنا جميلاً
وكان شاباً، عاد إلى رشده الحمدلله، لكنه أدمن التدخين، أدمنه بشدة
تجددت علاقتي فيه وصرنا نتحدث بشكل شبه يومي عن كل شيء
ولأن أمي رفضت صداقتنا، رغم إنها فرحت كثيراً لتغيره الجيد، أخفيته عنها
الآن
صارعمر عبود، عبدالله، 29 عاماً، وصار أباً لطفلة وولد جميلين جداً
ورغم إن صداقتنا لم تعد متينة كما كانت
إلا أنها عميقة جداً، وخالية من كل الشوائب التي قد تحرقها
كانت أمي تنام كثيراً
أكثر من اللازم
كانت تقضي نهارها كله وهي تحاول أن ترتاح
لم نكن نفهم مم ترتاح أمي، ومم تتعب في الحقيقة
كانت توقظنا للذهاب إلى المدرسة، وعندما نعود تطبخ لنا الغداء ثم تنام
ثم تستيقظ لترضع أختي الجديدة، ثم تنام مرة أخرى
ثم تستيقظ لتتأكد من واجباتنا ودراستنا، ثم تنام... وهكذا...
كانت جميع أفعال أمي تبدأ وتنتهي بالنوم
أحياناً عندما نزعجها كثيراً، كانت ترجونا أن نهدأ، وأحياناً كانت تبكي من التعب!
كنا ننظر إليها ببلاهة، وبصدق لم نكن نفهم مم تتعب أمي؟
عندما أهدتنا إحدى عماتي شريط أناشيد الأطفال
حددنا أغنية وأهديناها لأمي
هذه الأغنية كانت عن الفيل
وكان الفيل في الأنشودة يغني ويقول: "أتركوني أتركوني لم أنم إلا القليل"
وكنا نغنيها لأمي دائماً
وكانت تمزح معنا وتغنيها عندما نحاول أن نوقظها من النوم
ثم صرنا نخبر عماتي وأعمامي عن أمي وعن حبها للنوم وعن الأنشودة
فانتشرت الأغنية بسرعة بين عماتي،
وصرن هن أيضاً يغنينها لأمي كلما اكتشفوا أنها نائمة أو تريد أن تنام
صدقت أمي أنها كسولة
وصدقت أنها تحب النوم
وصارت تحزن علينا عندما تشعر بحاجتها للنوم
وصارت تحاول ألا تغضب عندما نطلب منها أن تستيقظ
خصوصاً عندما قالت لها أختي نورة، الرقيقة جداً، بأنها تشتاق للجلوس معها
حاولت أمي بعدها أن تقلل من كسلها وأن تشرب الكثير،
الكثير من الشاي من أجل أن تصحو لأطول فترة ممكنة
وقامت بتنظيم مواعيد نومنا، حتى تنام معنا وتستيقظ معنا
وفي الأيام القليلة التي لم تشعر فيها بالمنبه فنتأخر عن المدرسة
كانت أمي تلوم نفسها كثيراً، وتعتذر كثيراً، وتقول لمديرة مدرستنا: "آسفة، راحت عليّ نومة"
وكانت مديرة المدرسة تنظر باتجاهي أنا ونورة أختي وتقول: وأنتم؟
وكنا نرد: "محد صحّانا الصبح"
كانت أمي تلوم نفسها أكثر وأكثر....
مالم نكن نعرفه هو أن أمي لم تنم في الليل لأنها تخاف أن يفوتنا موعد المدرسة
كانت تقضي ليلها كله أمام تلفازنا الصغير، تكوي ملابسنا أو تغسلها وهي تتابع أحد أفلامها القديمة
ثم عندما يحين موعد المدرسة كانت أمي تجهز الفطور
صمون وحليب، بيض وحليب أو كورن فليكس...
وأحياناً كانت تدللنا فتطبخ لنا بان كيك أو تخبز الخبز البلدي اللذيذ مع العسل
ثم أثناء غيابنا عن المنزل، تنظف البيت، وتشطف الساحة الأمامية بالماء والصابون
وتعتني بأختنا الجديدة، وتحاول أن تنام لكن موعد نومها يصادف موعد عودتنا من المدرسة
فتستيقظ وتسألنا عن يومنا كيف كان، ومتطلبات الغد
ثم تحاول أن تنام وسط معاركي أنا وإخوتي
- ماما شوفي فطوم
- ماما أحمد أخذ سيكلي
- ماما نورة ضربتني كف......
فتصحو وترجونا أن نهدأ لأنها لا تريد أن تستيقظ أختنا الجديدة
ولأنها متعبة وتحاول أن تنام
فنفكر تعبانة من شو، نحن اللي نروح المدرسة، نحن اللي نصحى بدري، نحن اللي نحل واجبات
ظلت أمي هكذا لفترة طويلة
حتى بعد أن استقدم أبي خادمة للمنزل لكي تساعدها
بقيت أمي كما هي، لم تتغير
تصحو كل يوم الصبح، توقظ إخوتي الأولاد أولاً وتوصلهم للمدرسة
ثم تعود وتوقظ أخواتي البنات وأيضاً توصلهن للمدرسة
ثم توقظني وتوصلني للجامعة...
كانت أخواتي المدللات يكرهن مواعيد حافلات المدارس الصباحية
لأن الحافلة تأتي في وقت مبكر جداً، وهن يحتجن للنوم في الصبح!
عندما تعود أمي للمنزل كانت تنام قليلاً
ثم تستيقظ، تطبخ الغداء، تذهب في جولتها المسائية لإحضار الجميع من مدارسهم
ثم تعود تتجهز لاستقبال أبي،
ونتغدى كل واحد في موعد مختلف... لم نكن نجتمع معاً على سفرة واحدة إلا فيما ندر
وأحياناً لم نكن نحب وجبات أمي فنطلب من المطعم المجاور
وكانت أمي تلوم نفسها عندما تطبخ طبخة تنسى أن أحدنا يكرهها
كانت أمي تلوم نفسها كثيراً
على أي شيء
وعلى كل شيء
لم أفهم مشاعر أمي أبداً
لم أفهم كيف تفكر
كنا أنا وإخوتي نلومها على كل شيء
على ضعفها
على جهلها
على عدم قدرتها على اتلحكم في مشاعرها
على سذاجتها وطيبتها المفرطة تجاه من لا يستحق...
تجاه أبي بالذات...
في المستقبل
سأعرف كيف تفكر أمي
سأعرف لماذا كانت منهكة عاطفياً وجسدياً
وسأعرف لماذا كانت تلوم نفسها على كل شيء
سأعرف ذلك جيداً، بعد أسبوع واحد فقط من إنجابي لطفلي الأول
بعد أشهر قليلة من مكوثنا في منزلنا الصغير انتشرت إشاعة كبيرة بين الناس
كانت الإشاعة تقول بأن البيوت التي خصصتها الحكومة للمقيمين في منطقة "الكبرات"
قد انتهى بناؤها، وأن الحكومة في صدد توزيعها على المواطنين
بدأت هذه الخبرية التي سمعتها أمي منذ تسع سنوات،
قبل أن تنتقل من الفيلا الكبيرة إلى عش الغراب الذي نعيش فيه الآن،
في الانتشار بين الناس على شكل إشاعة أطلقتها جارتنا أم سليمان
وما ساهم في انتشارها أكثر، مجيء رجال يرتدون ملابس بيضاء ويحملون أوراقاً بداخل شنط سامسونايت سوداء، ويضعون على رؤوسهم غتر حمراء وعقال أسود إلى منطقتنا
بالنسبة لنا كانت رؤية هذا المنظر مهيبة جداً،
لأننا اعتدنا على رؤية جيراننا بملابسهم الداخلية الشفافة والمثيرة للقرف
أخرج الرجال أوراقهم وطرقوا أبوابنا واحداً تلو الآخر،
حتى وصلوا لبيت جارنا أبو محمد الملاصق لبيتنا تماماً، وطلبوا من ابنه أن ينادي أبيه،
ولأن أبوه كان خارج المنطقة أحضر لهم أمه ووقف معها وهم يسألونها ويسألون أمي نفس الأسئلة: "أين زوجك، كم عدد أبنائك، هل أنت حامل، جنسيتك ؟
وكان هو ينظر لأمه ويجيب عنها وهو يدفعها خلف الباب حتى لا يراها الرجل،
كنت واقفة مع أمي وأنا أسمعها وهي تجيب بثبات"في العمل، يعمل في حقل بترول خارج المنطقة، 4، لأ، إماراتية بالتبعية، نعم زوجي مواطن...."،
ثم أخرج أحدهم علبة أسطوانية غطاؤها أزرق ورش دائرة كبيرة على جدار بيتنا الخارجي
لم تسأل أمي، صار عدد الدوائر الزرقاء ثلاثة
عندما رشّوا دائرتنا الأولى فزعت أمي بشدة،
كانت بيوت الجميع تحمل دوائر حمراء إلا بيتنا، دائرته زرقاء
يومها اتصلت أمي بأبي وهي تلهث،
ثم وضعت الهاتف في مكانه، وجلست نصف ساعة قبل أن تقف وتعود إلى المطبخ
أكملَ الرجال دورتهم على المنازل، ثم رحلوا يلحقهم موكب كبير من رجال ونساء الحيّ،
كان أبو خالد يدعو لبابا زايد بطولة العمر، وأم زهير كانت تغني أغنية وطنية قديمة
خرجنا أنا وعبود صديقي إلى الشارع نرافق الرجال والنساء في موكبهم الوداعيّ
في مساء ذاك اليوم، أقام أبو خالد عزيمة عزم إليها الجميع، رجالاً ونساء
أمي التي لم تكن تحب الاختلاط بأحد لم تذهب وبقيت في المنزل
كانت أمي تفضل النأي بنفسها عن كل المحافل الاجتماعية التي تقام في حارتنا
كانت تقول بأن أبي بعيد عنها معظم الوقت،
وهي تفضل أن تنعزل عن الجميع حتى تبعد نفسها عن الكلام
توقفت أمي عن الاتصال بأبي لإخباره عن تلك المواكب منذ أن اتصلت به آخر مرة ونهرها قائلاً: "كفّي عن مراقبة الشارع واهتمي ببيتك وأولادك"
لم تكن هذه الزيارة الأولى، ولم تكن الأخيرة
سمعنا من العم سعيد بأنهم ناس فاضية، وأن أبو خالد وعزائمه التي لا تنتهي واحد فاضي، وبأن رجال الحي يجب أن يتخذوا موقفاً صارماً تجاه اللكاعة...!
نادى العم سعيد ابنه الأكبر سالم لكي يصبّ القهوة للرجال، عندما وصل الدور إلى عبود، تعمّد صب الكأس على الأرض حتى يغضب العم سعيد أكثر،
وفعلاً غضب العم سعيد وصرخ:"لما تصير رجال ارجع المجلس"
فخرج سالم من المجلس وهو يبكي
كنت متأكدة أن عبدالله سينجلد يوماَ ما، سينجلد وبضراوة
كنت أجلس في مجالس الرجال برفقة عبود دائماً،
ولأن أهل الحيّ يحبوني ويحنّون على أمي بسبب بقائها وحيدة معظم الوقت
كانوا يسمحون لي بالجلوس معهم
وكالعادة مثل كل مرة تحوّلت الخبرية إلى إشاعة توقفت عن النموّ بعد أسابيع قليلة من زيارة الرجال للحي،
في تلك الأثناء كانت أمي قد تأقلمت مع بيتها الجديد وتعلمت كيف تنظفه لوحدها
وعلمتني أن أكنس الساحة الأمامية للمنزل وأسكب الماء والصابون لكي أنظف خراء العصافير
نسيت بيت جدي الكبير، وأحببت بيتنا الصغير أكثر
لكن أمي التي خرجت من أسطورة إغريقية، كانت تجلس في الليل أمام تلفازها الصغير،
تراقب رشدي أباضة وهند رستم،
وتتنهد وهي تحمل أنفاسها إلى أماكن لا نعرفها، ولم نجرؤ على أن نسألها أبداً
عندما يعود أبي من عمله، نتحول إلى فراشات ملونة، وتتحول أمي إلى غزال راقص
تتعطر بعطر أبي المفضل الذي تشبه رائحته رائحة الياسمين، وتسدل شعرها الناعم على كتفيها.
كانت أمي تلتف حول نفسها وتجتهد لأن تكون كما يحب أبي،
دون مساحيق ملونة، لأن أبي يحبها هكذا،
مثل الحديقة التي يأخذنا إليها فقط من أجل أن يقول لها بأن رائحة العشب المبلول،
والورد المرشوش بالماء تشبهها أكثر من أي شيء آخر
ذات يوم عاد أبي فجأة،
تفاجأنا عندما سمعنا صوت سيارته التيوتا يقترب من باب منزلنا
كان صوت سيارته مميزاً، لأن محرك السيارة خربان، ولم يهتم أبي بإصلاحه
أسرعت أمي إلى غرفتها ورشت نفسها بعطر الياسمين،
ثم ربطت شعرها على هيئة ذيل حصان وسرحت غرتها على الجنب الأيمن من وجهها
تأخر أبي في سيارته لمدة كانت كافية لأن تغير أمي ملابس البيت التي كانت ترتديها
وتلبس "الدرع اليمني" الذي يحبه أبي، خصوصاً عندما تدخل أمي طرفه بداخل تنورتها الداخلية
عندما دخل أبي ركضنا لعناقه، كان وجهه جاداً
قالت أمي: أوه، فاجأتنا! لم أتجهز لك....
في العادة كان أبي سيقول شيئاً مثل: أنت جاهزة دائماً، أو سيضحك بصوت عال، أو سيطلق تعليقاً مضحكاً تخجل معه أمي
لكنه هذه المرة أمسك بيدها وأدخلها إلى غرفتهما وأغلق الباب!
قالت أمي بصوت عالٍ: مالَك؟
كنا أنا وإخوتي نقف خارج غرفتهما بهدوء على غير العادة
بعد فترة، خرج أبي وقال لنا بأنه سيعود حالاً
نزل على ركبتيه وطلب منا أن نجلس مع أمنا قليلاً
قال بأنها تبكي لأنها لم تودع أبوها قبل أن يدخل الجنة
دخلنا إلى أمي التي كانت تحمل بين يديها ريحانة قطفتها بسرعة عندما سمعت صوت سيارة أبي تقف أمام الباب،
كانت تبكي مثلما قال أبي، وكان رأسها منحنٍ لأسفل
احتضنها أخي وهو يطلب منها أن تفرح لأن أبوها دخل الجنة
أختي نورة، الرقيقة جداً، صارت تبكي مع أمي وهي ترجوها أن تكف عن البكاء
كنت أقف بعيداً وأنا أراقبهم، شعرت بالخوف من ضعف أمي، شعرت بالقلق من رؤيتها هكذا
لم ترفع أمي رأسها ولم تنظر إلينا،
كانت تبكي فقط، برأس منحن لأسفل وهي تحتضن يد أختي التي تحاول أن تمسح دموعها
بعد دقائق عاد أبي واحتضن أمي
استسلمت أمي بين يديه وارتفع صوت شهقاتها
ضغط أبي ظهرها بيديه وقبّلها على رأسها ثم طلب منّا أن نخرج من الغرفة
جلسنا أنا وأخي وأختي أمام باب الغرفة المفتوح ونحن نراقب أبي وهو يحتضن أمي بصمت
كانت يده تمسك بيديها الاثنتين ويده الأخرى تحتضن ظهرها بهدوء
كان يهمس في أذنها بكلمات لم نستطع سماعها،
أعتقد أنه كان يتلو عليها كلمات الصبر والرضى بقضاء الله
بعد أن خفت بكاء أمي رفع أبي رأسها وقال: غداً نسافر إلي عدن، طيب؟
قالت أمي: ومدارس العيال؟
"لا تهتمي" رد أبي بحنان بالغ وهو يقبل يد أمي
ثم ابتسم وهو يقول: ريحان، هاه؟
ابتسمت أمي بين دموعها، ووجها الأحمر يزداد احمراراً أكثر وأكثر
في اليوم التالي، ذهبنا إلى بيت جدي الكبير
مكثنا عندهم أسبوعاً كاملاً تغيبنا خلاله عن المدرسة
عندما عاد والديّ بدت أمي مختلفة قليلاً
كانت تضحك وتتكلم بشكل عاديّ لكنها بدت مختلفة بطريقة لا أعرف كيف أصفها
بعد أن هدأ حزن أمي بدأت تحكي لنا عن بطولات جدّي، أبوها
ولامت نفسها كثيراً لأنها لم تره قبل وفاته
قالت لنا بأنها وعدت والدتها بأنها سوف تزورها دائماً...
ثم حكت لنا عن الطريقة المضحكة التي توفّي بها جدي
قالت بأن دم أبوها خفيف، حتى وفاته كان دمها خفيف
أصيب جدّي بسكتة قلبية نقل على إثرها إلى المستشفى
بات في العناية المركزة أياماً كثيرة قبل أن يستعيد وعيه، ويستقر وضعه الصحي
قالت أمي بأنه تعافى بسرعة وطلب الخروج من المستشفى
وافق الأطباء على خروجه بشرط أن يلتزم بأدويته الكثيرة وأن يكف عن التدخين
وفعلاً، خرج جدي من المستشفى واستقبله أبناؤه وأحفاده بفرح وأقاموا له حفلاً صغيراً
في نفس اليوم، دخل جدي إلى الحمام ليستحم،
ويبدو أنه فقد توازنه وتزحلق وضرب رأسه في ركن أرضية الحمام، وتوفّي!
تقول أمي: هكذا توفي أبي، نجى من سكتة قلبية ثم تزحلق!
بعدها، وضعت أمي شباشب في الحمام وصارت تجبرنا على ارتدائها حتى لا نتزحلق
ظلت أمي هكذا لفترة طويلة حتى تناست الطريقة التي توفي فيها جدي
وكفت عن إجبارنا على ارتداء الشباشب
وصارت تستعملها حول المنزل
أو... كأداة للضرب
كانت وفاة جدي أبو أمي هي أول وفاة أختبرها في العائلة
ورغم أنها لم تؤثر عليّ كثيراً لأني لا أعرف جدي، ولا تربطني فيه علاقة متينة
إلا أن كلمة "موت" صارت أكثر جدية بالنسبة لي
وربما كان منظر أمي وهي تبكي الوجه الأكثر تأثيراً علي من بين كل الوجوه الأخرى للموت
صارت كلمة "موت" مرتبطة بحزن أمي
اعتادت أمي على دفن مشاعرها أمامنا
لم تكن تخاف، ولم تكن تحزن، ولم تكن تظهر أي نوع من أنواع المشاعر السلبية
كانت تغضب فقط، وكان غضبها يفوق الحد الطبيعي للغضب، أو هكذا كنت أعتقد
عندما تغضب أمي يفلت لسانها وتلهج بأدعية مدهشة لا يمكن أن يبتدعها غيرها
أدعية مثل: يجعل لك حبة بفخذك، يجعل لك زوج يكنسك، يجعل لك الماهو،
إضافة إلى مجموعة كبيرة من الشتائم والقذائف التي قليلاً ما أخطأت هدفها
ومجموعة من الموشحات والنصائح الطويلة والتي لا تنتهي...
لكنها لم تكن تحزن أمامنا، بالذات من أبي
كأنها لم تكن تريد أن تصدق أن أبي قادر على استحضار الحزن
أحياناً كنت أستيقظ على صوت أمي وهي تبكي بحزن لوحدها
أو تتنهد وتكتب في دفترها الأزرق الذي لا تسمح لأحد بقرائته
ولم أكن أجرؤ علي الاقتراب منها أو سؤالها عن سبب حزنها
شيء ما في داخلي كان يخبرني بأن أبي هو السبب
رغم إن أبي في ذاك الوقت كان مثالياً جداً،
شيء ما في داخلي كان يخبرني بأنه حطّم معظم أحلام أمي
غياب أبي الطويل عن المنزل وحكايات أمي الخارقة حوله جعلتنا نحيطه بهالة من نور
كنت أفتخر في المدرسة بأبي
كنت أحب أن أمشي بجواره وأنا أمسك يده وأقول للجميع بأنه أبي
تخيلت علاقة كاملة مختلفة عن الحقيقة قليلاً بيني وبينه،
علاقة مدهشة بين أب وابنته، فيها كم هائل من الصدق والقليل من الكذب، القليل فقط
ولأن أمي كانت بجوارنا دائماً، كنت أقذفها بكل السلبيات في العالم
أمي هي التي ترفض رغباتنا
أمي هي التي تؤخر أشياءنا
أمي هي التي تضربنا وتصرخ علينا
أمي لا تفهمنا
أمي لا تتحاور معنا
أمي لا تجيب طلباتنا
عكس أبي، الذي كان يقضي معنا ثلاثة أيام يحاول أن تكون أجمل ثلاثة أيام في الأسبوع
أحياناً كان يصرخ علينا، وأحياناً يضربنا ضرباً مبرحاً
لكنه كان يبذل جهده لإسعادنا وكنا نعرف ذلك ونشعر به
لذلك كنا نعتقد بأن أمي قاسية معنا، وبأن أبي يدللنا كثيراً
ارتباطنا العميق بأمي، بمشاعر أمي بالذات جاء بعد فترة طويلة
عندما بدأ أبي في استغلال ضعفها تجاهه وحبها له
تحول أبي من رجل حنون، إلى شخص جديد لم نكن نعرفه
إلى رجل مزاجي، أوامره حسب المزاج
الأشياء التي يغضب منها وقتية ولا تلتزم بقاعدة معينة
صارت أوامره فجأة تنطلق من هوى النفس، ولا تعتمد على أي قانون تربوي حقيقي
حتى فقدنا نحن أبناؤه صبرنا تجاهه
وبدأت أنا بالذات في التمرد عليه، وعلى قوانينه الغير منطقية
مكثنا في بيتنا الصغير في بني ياس قرابة تسع سنوات
مر خلالها العديد من العدادين لحساب تعداد المنطقة
ازداد عدد الدوائر على جدار بيتنا، وتحول لونها من أزرق لأحمر ثم أخضر
أصيبت أمي بنفس حالة الحماس التي أصيبت بها أول مرة عندما رشوا جدارنا بدائرة خضراء،
لكنها لم تتصل بأبي وفضلت على أن تبقي الأمور عمّا هي عليه إلى أن يجيء ويرى كل شيء بنفسه
لكن أمي أصيبت بصدمة خاطفة عندما خرجت إلى الخارج ورأت جدار أبو عبدالله، مكتوب عليه "قابل للهدم"
لم تتمالك أعصابها واتصلت مباشرة بأبي،
ولأول مرة استغرب أبي، ثم أخبرها بأنه لا يعرف أي شيء،
وإننا جميعاً نمتلك حق الهدم، لذلك بدأ أبي يقلق من ألوان الدوائر على جدارنا،
ووعد أمي بأنه سيتصرف في أقرب فرصة
بعد ستة أسابيع من تلك المكالمة، سكبت أختي الجديدة، والصغيرة جداً، كأس الماء الذي كانت تلعب به بين يديها على الهاتف
لم يعد صوتنا مسموعاً.
صار أبي يتصل ويطلب منا أن نضغط أرقاماً معينة يعرف من نغمتها الجواب على أسئلته
اتصل مرة وكنت أنا على الهاتف، قال " لو انت واحد من العيال اضغط واحد، لو انت ماما اضغطي 2"
ضغطت 2
قال "لو اشتقتي لي اضغطي 2"،
استغربت لأنه لم يمنح أمي حق اختيار ألاّ تشتاق له، ضغطت 1،
مباشرة قال "هاتي أمك يا قليلة الأدب" ضحكت بصوت عال وناديت أمي
استمرت مكالماتنا مع أبي بهذا الشكل حتى عاد من عمله وغير لنا جهاز الهاتف
في أحد أيام شهر أغسطس من عام 1998 عاد أبي وهو يحمل وجبة العشاء
قال لأمي عندي لك خبر سيفرحك
جلسنا أنا وإخوتي حول الطعام نتعارك على الـ "French Fries"
وأمي تضع لنا دجاج كنتاكي الذي أحضره أبي معه
كان أبي يتكلم كثيراً، كثيراً
ثم قال: وهكذا نقلوني للعمل في أبو ظبي، لن أضطر لأن أغيب عنكم أسبوعاً كاملاً بعد اليوم،
وأيضاً... سننتقل إلى أبو ظبي، وستسكنين في فيلا كبيرة لوحدك أنت وأولادك"
قالت أمي: لن تغيب عنّا بعد اليوم؟!
أجاب أبي: وسننتقل جميعاً إلى أبو ظبي...
توقفنا عن العراك...
نظرنا كلنا باتجاه أبي....
تزوجت أمي أبي عام 1983
ومنذ تلك السنة حتى ذاك العشاء،
لم تهنأ بوجود أبي بجانبها غير بضعة أيام يغيب بعدها لأسابيع طويلة
ثم يعود إليها لبضعة أيام أخرى
كان خبر ترقيته ربما أجمل خبر سمعته أمي في ذلك الوقت
اتسعت ضحكتها وازدادت حيويتها وهي تتساءل بينها وبين نفسها عن شكل حياتها وزوجها بجانبها طول الوقت
عندما ذهب أبي للمرة الأخيرة إلى عمله
جلست أمي مع إخوتي، وسمحت لهم بالنوم في غرفتها وهي تخبرهم بأننا سنبدأ بالبحث عن بيت جديد لنا
كنت أنا في غرفتنا لم أذهب للنوم معهم
شعرت بأني كبيرة على مثل تلك الأمور،
كنت أبلغ من العمر 14 عاماً ولم أكن أحب أحضان أمي
كان بيتنا الصغير في بني ياس يتألف من 3 غرف
غرفة لأمي وأبي، وغرفة لنا جميعاً نحن الأبناء،
وغرفة في الخارج جعلتها أمي صالون المنزل وحمام صغير
كان الحمام عبارة عن "تواليت" ومغسلة فقط، فزوده أبي برشاش للاستحمام
كنا سعيدين بانتقالنا من بيتنا
كنا سعيدين بأننا أخيراً سنسكن في فيلا كبيرة مثل بيت جدي
وبأن أبي سيبقى معنا ولن يضطر للذهاب للعمل
لم نكن نعرف أن هذا التغيير سيكون علامة مفصلية في حياتنا
ونقطة هامة ستحددشكل العلاقة بين أبي وأمي
للأبد...
وهذا ما حدث فعلاً
خلال الأيام القادمة بدأت أمي في البحث عن فيلا جميلة وتتسع لنا جميعاً
جلست معنا أولاً واستمعت لرغباتنا كلنا
كانت أمي حامل في ذاك الوقت، وكانت في أشهرها الأخيرة
قلت بأني أريد غرفة منفصلة لي وحدي
أخواتي الصغيرات نورة وصفية وآمال وافقن على أن يكنّ معاً في غرفة واحدة
مع أن نورة أكبر منهن كثيراً، إلا أنها وافقت على أن تكون معهن حتى لا تحرمني من الحصول على غرفة لوحدي
وسيحصل أحمد وعمر على غرفة منفصلة
نحن سبعة
أربع بنات، وثلاثة صبيان
أنا البكر، ثم نورة بعدي بأربع سنوات، ثم أخي أحمد أصغر من نورة بسنة واحدة
ثم صفية أقرب أخواتي لي، وأحبهن إلى قلبي أصغر مني بثمان سنوات،
ثم آمال عمرها الآن 18 عاماً، وعمر 15 عاماً، ثم زايد آخر العنقود
طوال تسع سنوات كنا نحن الستة، لأن أخي زايد ولد فيما بعد،
كنا كلنا مجتمعين في غرفة واحدة
اشترى لنا أبي من تلك الأسرة التي تجمع سريرين معاً، واحد في الأعلى والآخر في الأسفل
غرفتنا كانت كبيرة جداً
وتلك الأسرّة ضمنت لنا مكاناً كبيراً لطاولات الدراسة وفسحة للعب أيضاً
كان أخي أحمد ينام لوحده، ونورة كذلك
أنا وصفية كنا ننام في سرير مشترك،
آمال كانت تنام في سرير صفية، وأحياناً على سرير نورة
عمر أخي ينام عند أمي، لأنه كان صغيراً في ذاك الوقت
كنا نجتمع جميعاً في غرفتنا
نحن وأمي وإخوتي وأصدقائنا
كنا في غرفتنا أو في الصالة، لم نكن ندخل غرفة أمي إلا قليلاً
وكانت حياتنا متداخلة مع بعضنا البعض، نفعل كل شيء معاً
كل شيء
لذلك لم يكن قرار الانتقال لفيلا كبيرة سهلاً
قررت أمي أن تبحث عن منزل صغير،
وصالة كبيرة تجمعنا جميعاً،
لأنها كانت قلقة من أن الفيلا الكبيرة ستقلل من تجمعنا معاً
كما كانت تفكر في وسائل لجمعنا معاً قدر الإمكان
ففكرت بأن البيت الذي سننتقل إليه يجب أن يحتوي على حمام مشترك للبنات
وآخر للشباب يقع في منتصف البيت،
وقررت أن كل غرف النوم يجب أن تكون في طابق واحد
وأخيراً بعد بحث طويل
استقرت أمي على فيلا جميلة جداً تقع في منطقة المرور
عند دخولنا للفيلا عرفت أمي بأنها ستكون بيتاً جميلاً لنا جميعاً
كانت تتكون من 3 طوابق، ومطبخين وغرف كثيرة ومتسعة وحمامات سيراميك ملونة
كانت كما أرادت أمي،
كل غرف النوم كانت في طابق واحد،
في منتصف الغرف فسحة كبيرة حولتها أمي إلى غرفة معيشة حتى تكون قريبة منا جميعاً
في الطابق الأخير غرفتان كبيرتان جداً جداً، واحدة منها تحولت إلى غرفة لعمتي،
والأخرى كانت غرفة للعب
وغرفة صغيرة للخادمات...
بعد أن انتقلنا من بيتنا الصغير إلى بيتنا الجديد
وأصبحت لي غرفة لوحدي، كما أردت دوماً
زرقاء مثل لوني المفضل
وسريراً خشبياً جميلاً، لونت أطرافه باللون الأزرق، ما أثار حفيظة أمي،
وألصقت على جدران غرفتي رسوماتي وخربشاتي الكثيرة،
وصور"ريكي مارتن"، "ميتاليكا"، "آيرون ميدن" ، "سيستم أوف أ داون" و"جنز آند روزز"،
نعم، كنت أحب الميتال والروك كثيراً، لا أعرف كيف دخل "ريكي مارتن" في المنتصف
أعتقد أن كأس العالم "فرنسا" عام 98 كانت السبب الأكبر في ذلك
لأنه غنى أغنية المونديال "دي لا كوبا دي لا فيدا"
وقد تعلمت الإسبانية فقط حتى أفهم كلمات أغانيه
نعم، سنوات المراهقة أحياناً تكون غبية جداً....
أيام مونديال فرنسا، وأنا مجنونة كرة قدم على فكرة، كانت جميلة جداً
وقتها كنت أشجع منتخب الأرجنتين لثلاثة أسباب،
السبب الأول: باتيستوتا، والذي كنت أعتبره أجمل رجل في العالم وأفضل لاعب على وجه الأرض
السبب الثاني: يرتدون ملابس زرقاء، لوني المفضل
وستقولون أن عدداً كبيراً من المنتخبات ترتدي هذا اللون، بس ولا منتخب عندهم باتيستوتا
السبب الثالث: عندما كنت طفلة كان معظم أعمامي يشجعون منتخب الأرجنتين
الكراهية والحقد اللذان أحملهما في قلبي تجاه منتخب هولندا، وتجاه بيركامب بالذات، لا يمكن أن ينطفئا بسهولة
خرجت الأرجنتين من منتصف النهائي، وبكيت بحرقة،
خصوصاً عندما بكى المدافع الجميل أيالا...
ثم توقفت عن تشجيع المنتخب عندما استقال كارلوس روا، الحارس وقرر أن يتكهن!
انقطعت عن مشاهدة الكرة بعد أن تزوجت، زوجي لا يتابع الكرة ولا يحبها
زوجي يعشق السيارات والتعديل والخرابيط
وإلى اليوم لا أفهم ماذا تعني كلمة: "ماشاء الله على صوت هالسيارة!!!"
أخرجت كتبي الكثيرة من الصناديق وبدأت بترتيبها على الرفوف
لا يتدخل أهلي فيما أقرأ أبداً
كنت أمتلك الحرية الكاملة لقراءة ما أريد
مررت بفترة كنت خلالها أقرأ كتب غريبة عن الديانات والأساطير والفلسفة
ذات مرة رأتني أمي وأنا أقرأ الإنجيل
انصدمت... لكنها لم تقل شيئاً،
مباشرة قلت: "عندي فضول أعرف..."
بعدها جاء أبي إلى مكتبتي واطلع على بعض الكتب
قال: لماذا تقرئين هذه الكتب؟
قلت: أحب أتعلم عن الناس...
هز رأسه ولم يقل شيئاً
أعتقد أن عناوين الكتب لم تثر اهتمامه كثيراً
لم أمتلك كتب إسلامية أبداً
وكانت إحدى عماتي تصر على إهدائي كتباً دينية
كنت أخزنها في صندوق صغير خلف المكتبة
كنت أكره الكتب الإسلامية لأنها مكررة ونعرف كل مافيها
وكنت أكره كتب القصص والعبر لأني لا أصدقها
لا أصدق أن فتاة لم يستطيعوا دفنها لأنها لم تكن تصلي
وفتاة انبعثت من جثتها رائحة كريهة لأنها تسمع الأغاني
شو هالغباء؟! لها الدرجة الاستهزاء بالدين؟
عند انتقالنا من بيتنا الصغير لم أتمكن من توديع صديقي عبدالله
ولم أتمكن من الحصول على رقم هاتفه
أمي، كانت تحاول إبعادنا عن بعضنا البعض وكان الانتقال عذراً جيداً
المرة الأخيرة التي رأيته فيها كانت قبل أن يذهب إلى دورة طويلة في الجيش
أخبرته بأننا سننتقل، فأخبرني بأنه سيشتري هاتفاً نقالاً لكي نتمكن من التحدث مع بعض
لكننا انتقلنا قبل أن يعود...
بعدها، لم يخطر عبود على بالي أبداً حتى بدأت المدرسة واكتشفت نوعاً جديداً من الحياة
الحياة في المدينة،
الحياة المختلفة كثيراً عن شكل حياتنا في قريتنا الصغيرة، بني ياس
أنجبت طفلي الأول قبل 20 يوماً بالضبط
اندفع من رحمي بتاريخ 30 إبريل 2014
كنا سعيدين جداً، أنا وزوجي
كان طفلنا مثل لعبة جديدة، نغير ملابسه، نرضعه، نستيقظ من أجله
نحمله معنا في مغامراتنا الغبية بالسيارة
كل شيء كان على ما يرام حتى ارتفعت حرارته فجأة يوم الجمعة الماضي
تزوجت زوجي بعد علاقة حب عاصفة دامت لمدة أربع سنوات وقف ضدها جميع أهلي
اضررت بعدها لاتخاذ قرار صارم بالزواج رغماً عن أنف الجميع
اختلاف جنسيتي عن جنسية زوجي السوري كان واحداً من أهم أسباب رفضهم
لكن حياتنا المليئة بالحب والتفاهم الآن تجعلني أسعد امرأة في العالم
تزوجت بتاريخ 4 إبريل 2011، قبل ثلاث سنوات بالضبط
عندما اكتشفت حملي بتاريخ 28 أغسطس 2013، قال زوجي بأننا سنسافر إلى الولايات المتحدة للإنجاب
لم يكن يريد لطفلنا أن يحمل الجنسية السورية، وطبعاً لن يحصل على الإماراتية
أو ربما يحصل عليها عندما يكون عمره 18 عاماً، وربما لا
وافقت على السفر مباشرة
نحن الآن في ولاية أوريغن في غرب أمريكا
ولاية جميلة وهادئة وطبيعية
ولدت طفلي وسط عناية طبية مدهشة،
الممرضات هنا حنونات، ملائكة رحمة...
بعد أسبوعين من ولادة طفلي ارتفعت حرارته فجأة
اعتقدت أن موضوع ارتفاع درجة الحرارة بسيط جداً
لكن عندما رآه الطبيب قرر مباشرة أن يجري على جسده الصغير كل أنواع الفحوصات المحتملة
قال لي بأن طفلاً يبلغ من العمر 14 يوماً فقط وترتفع حرارته لهذه الدرجة، 38 درجة مئوية، ليس أمراً عادياً
بعد عدد كبير من الإبر التي آلمتني أكثر من طفلي، قرر الأطباء أنه مصاب بالتهاب البول
وبأنه يجب أن يبقى في المستشفى لمدة 10 أيام يتعالج خلالها بالمضادات الحيوية عن طريق المغذي
البقاء في المستشفى من أجل طفلك الرضيع
مؤلم بكل ما تحمله الكلمة من معنى
في كل مرة يركل فيها طفلي يده أو قدمه تضطر الممرضات إلى نقل المغذي من طرف لطرف آخر
وفي كل مرة حدث ذلك… كفرت بالله
كنت أبكي عندما نقلت الممرضات المغذي من يده اليمنى إلى اليسرى بعد أن جذب يده بالخطأ
فقالت لي الممرضة “كلاريس” تعالي سأريك شيئاً
وأخذتني إلى حضانة الأطفال المولودين قبل الأوان
كمية الأنابيب التي تحملها أجسادهم الصغيرة لم تكن محتملة
قالت: طفلك… أفضل حالاً بكثير، البقاء بالمستشفى محزن، أخرجي مع زوجك، تنفسي قليلاً سنعتني بطفلك هنا حتى تعودي
قلت: الحمدلله...
وأنا في غرفتي وطفلي في حضني، يرضع
فكرت بالأيام التي سترنا فيها الله
كل الأشياء التي وقف فيها معنا
كل المصائب التي سيرها وجعلها سهلة جداً
قلت: يا الله، إن مكرك شديد، حميتنا من كل شيء وانتقمت منا بطفلنا
قال زوجي: تأدبي مع الله….
الآن أنا جالسة في الغرفة رقم 416 في مستشفى “السامري الطيب” في ألباني
طفلي نائم بجانبي على السرير
محمود، حضني، بجانبي يكمل بعض أعماله على الكمبيوتر
وأنا أشرب بعض الماء البازد المليء بالثلج
لعله… يبرد القليل من حرارة جسدي…..
مرحباً...
غبت لفترة طويلة
قد يكون من واجبي أن أخبركم بأني لا أجيد التواجد لفترات طويلة
وأحياناً عندما لا أعرف ما أقول أصمت لمدة أضيع خلالها في حياتي وشؤوني
قبل أن أجد شيئاً ما يستحق أن أثرثر حوله
هذا لا يعني بالضرورة أني الآن أعرف ما أقول... أو أن ما أقول ذو أهمية تذكر
Whatever
عساكم من عوادة
كان رمضان والعيد باردان هذه السنة
حرب غزة قتلت قلبي قليلاً...
لطالما كانت لفلسطين وقضيتها مكانة هامة في حياتي
عندما خرجت مشاكل الدول العربية الأخرى شعرت بالغضب
شعرت بالحقد
العرب يقتلون بعضهم البعض
العربي يقتل أخوه العربي لأسباب سخيفة وتافهة
ثم خرجت جماعة من أحقر الجماعات في هذا العالم، تنادي باسم الدين وبكل وقاحة
تذبح، تقتل، تهدم بيوت الله
ثم تقول باستهزاء غير ممكن: "الله لم يأمرنا بقتال اليهود!"
نعم يا روح أمك؟!
آه....
حالنا الوقح
لا أشعر بأي شيء
بصدق، لا أشعر بذرة شفقة تجاه السوريين والمصريين وباقي الدول...
هم فعلوا ذلك بأنفسهم
هم تسلحوا
هم قتلوا بعضهم البعض
هم سمحوا للجبهات القتالية بالدخول لبلادهم
هم فعلوا كل ذلك بأنفسهم
هم بحثوا عن الحرية
ثم بسخافة يطالبون دول الخليج، بالذات، بالتدخل في شؤونهم الداخلية!
ونحن شو لنا علاقة فيكم؟؟؟؟؟
كأني أضرب أخي ثم أطلب من أمي أن تضربه معي
ماذا ستفعل أمي في هذه الحالة؟
1- بتصفعنا نحن الأثنين
2- بتتجاهلنا نحن الأثنين
لأننا نحن الاثنين حيوانات...!
حلوا عني بلا أكل هوا
فلسطين
ما يحدث في فلسطين تخاذل
ما يحدث هناك جبن وضعف
ما يحدث هناك خارج عن إرادتهم
خارج عن سيطرتهم
عدو
عدو حقيقي
ما يحدث هناك ظلم
لماذا يا رب؟
متى تقوم الساعة يا رب؟
متى؟
عم أكتب بعد؟هناك العديد من الأفكار التي أتمنى أن أكون قادرة على ترجمتها،
تأتيني على شكل سحابة، ثم تتلاشى إلى ضباب...
عندما كنت طفلة كنت قادرة على ترجمة كل شيء وأي شيء إلى كتابة
كانت كتابتي صادقة ونابعة من داخلي، بعد أن كبرت كونت قيوداً حول نفسي لم أستطع التخلص منها بسهولة
أحياناً أشعر بأنني أكسر كل شيء وأحياناً أخرى أتوقف في لحظة غير مناسبة،
غير مناسبة لي، ولمن يقرأني فقط لأني أقلق مما سأكتبه فيما بعد...
وعندما أكتب أفكر إن كنت سأندم لاحقاً، لكني لا أندم كثيراً
في الحقيقة لم أندم أبداً ربما لأني أريدكم أن تصدقوا أن ما أكتبه لا يعبر عني شخصياً
وإنما يعبر عن فقـد، فقـد فقط
أحياناً أشعر برغبة ملحة في كتابة شعور معين
أمسكه بيدي، أكتبه، أتشارك به،
ثم أقرأه فيما بعد وأستغرب من الطريقة التي كتبته فيها بذلك الأسلوب الاعتباطي الذي يشبهني في الحقيقة
ربما لاحظتم أني فوضوية جداً، فوضوية أكثر من اللازم، ومزاجية أيضاً
تعرفت على ناشر دفعني، بالغصب، لأن أكتب كتاباً وأنا فالحقيقة لا أريد أن أكتب لمجرد الكتابة
عندما أكتب كتاباً سأريد أن يكون هذا الكتاب تجربة لا تنسى لمن يقرأه
كتاباً يغير شيئاً في نفسك، يشعرك بالسعادة أو الكراهية المطلقة، أو يشعرك بأنك سخيف جداً
لذلك عندما أصر على أن أكتب كتاباً وأعطاني جدولاً زمنياً لكي أنهي هذا الكتاب، جدولاً لم ألتزم به
في الحقيقة، لم أر الجدول أصلاً، ولذلك لم أكتب الكتاب، وهذا الناشر شعر بأني "موهبة ضائعة"
رغم أني لا أعتبر نفسي موهوبة بالكتابة،
أنا موهوبة باللغة العربية فقط، وربما لغتي هذه هي التي تمنحني القدرة على أن أكتب
لأني لا أستطيع أن أكتب فكرة قصيرة وجميلة وملهمة... لا أعرف إن كنت ملهمة أم لا
أحياناً أشعر بأن ما أكتب يصلح للقراءة في الحمام
عندما تحتاج لأن تقرأ أي شيء وكل شيء، حتى الأشياء المكتوبة على علبة معجن الأسنان
تصبح ممتعة فجأة وتصبح نسبة الكلورايد في المعجون مهمة جداً بالنسبة لك!
الآن تعشش في مخي فكرة لكتابة قصة
رواية
أحتاج لأن تكون رواية مدهشة، ليست مدهشة فقط بل وممتعة كذلك
وأريد أن تفوز هذه الرواية بجائزة البوكر للرواية العربية
حسناً، تصل للقائمة القصيرة فقط، أو حتى الطويلة، لا يهم، المهم أن تصل لمكان ما
حتى لو وصلت إلى حمامكم وقرأتموها، وصارت سنة طباعتها أمراً مدهشاً فجأة
لأنك فالحمام، تحتاج لأن تقرأ كل شيء وأي شيء....
عندما كنت في الثانية عشرة من عمري كتبت أول قصة، متكاملة ومترابطة فكرياً، في حياتيفازت هذه القصة بالمركز الثاني على مستوى الدولة
المركز الأول كان من نصيب ولد كتب قصيدة شعر موزونة عن أبونا زايد رحمه الله
قرأتها، في ذلك الوقت فكرت بأنني لو عشت مئة سنة لن أتمكن من كتابة قصيدة موزونة بذاك المستوى
لأني أكره الوزن، وأكره السجع، وأكره السجق!
أكره السجق، أكره شكله المطاول، ورائحته ومذاقه الغريب...
عندما انتقلت إلى مدينة أبوظبي، تغيرت اهتماماتي فجأة لتتحول إلى موضة ومكياج وأولاد
رغم إني لا أهتم بهذه الأمور، أو لم أهتم بها في الحقيقة
إلا أن اهتمام البنات في مدينة أبوظبي كان "متحضراً"
حتى الأغاني التي يسمعونها كانت "أجنبية"
وكن يتكلمن بلهجة غريبة، لهجة تختلط فيها العربية بالانجليزية
وكانت طريقة لفظهن للكلمات تختلف عن المكان الذي خرجت منه
واحتجت لوقت طويل، وقت طويل جداً لكي أتفهم هذا الاختلاف، وأتحول إلى نسخة مطابقة لهن
نسخة مقبولة بين الزميلات اللاتي لم أشعر ولا للحظة بأني أنتمي لهن ولمجتمعهن ولطريقتهن في الحياة
شعرت بحاجة غريبة لأن أنضم لهن، رغم إني في داخلي رفضتهن تماماً وشعرت بمستوى سخافتهن
كذبت كثيراً
كذبت لدرجة لم أعد أجيد فيها الصدق أبداً
لم أعد أعرف الفرق بين الصدق والحقيقة
كذبت لمستوى قاس، قاس علي، وقاس على نفسي التي لم تعد تعرف من أكون فالحقيقة
فقدت كل شيء
فقدت الكثير من إيمانياتي
فقدت شخصيتي
عندما أنظر للوراء وأتذكر كل تلك الأيام التي خرجت من حياتي
أستغرب من كمية القصص التي اخترعتها والتي ربما لو كتبتها لكنت أفضل كاتبة على الإطلاق
كاتبة خيال علمي ربما
وعندما أتذكر الطريقة التي تعامل فيها الآخرون مع كذباتي، أتخيل كم كنت حمقاء في نظرهم
لا أعتقد أنهم صدقوني، ولا للحظة
عندما كبرت وصرت فالجامعة التقيت ببعضهن مصادفة
بعض البنات الاتي كن معي أثناء فترة الدراسة في المرحلة الاعدادية
حرصت هؤلاء البنات على منح جميع من حولي صورة مميزة عني
صورة مليئة بالكذب والنفاق
صورة تشبهني كثيراً عندما كنت في تلك المرحلة من عمري....
vBulletin® v3.8.7, Copyright ©2000-2025,