مشاهدة النسخة كاملة : حكاية عقيق
في عيون (عقيق) تغزل الشعراء وجدلت معاني اللغة وخادعت التوريات لعلهم يصلون لدقة التكوين وغدر النظرة حين تكون بريئة وجارحة مثل خنجر مطعم بالجوهر العسلي المكثف نائماً في دعة الخدر اللذيذ في انسان عينها فإن رشقتك للحظة ، ترنحت كلك، لا سندٌ ولا نسب سيعفو عن دم قلبك المسفوح على عتباتها، ستبيت ليلك تستنبت خيالاتٍ متنوعة في تشكيل باقي الوجه الذي حجبه عنك اللثام ، تقف عند الشفتين متلظياً بين ملتهبٍ وبارد سُكري ، تنهض بك الوجنتين في وردٍ منثور في صحن فضة مجلية ويقف الانف محتجاً على الهتك…
هكذا وُلدت عقيق لا استطاعتها الداية الأولى في مطلع هلالها رضيعة تُولد بلا بكاء، متسعة العينين ، ساطيتهما،تبحث في الفضاءِ الملتاع من قيظ السنبلة والمُحمل برائحة التمر المنثور في الحقول القريبة والحُصر التي تحتضنه،شعرها الاسود يصل الى كتفيها وعلى كتفها الايسر شامة على شكل ِ فص عقيق يلمع بين حمرة الوصل واسود المنع وكان اسمها عقيق…
بذلت الدايات حيلهن في محاولات ٍ فاشلة لحملها على البكاء ،لم تفعل ، همست عجوزهن هذه (بنت جنان) لن تعيش لهم…
تعثرت مبروكة في طوي الارض ركضاً لسيدتها النجيبة كي تحظى ببشارة السلامة بعد مخاضٍ تناوب على كنتها سبع ليالٍ وفي الوصول لمحت وجه السيدة مبيضاً وهي تتعصب بقماشٍ اخضر مطرز بالذهب وتحمل في يدها صرة مفتوحة تعد حباتٍ تناثرت منها في حضنها وتتمتم باوراد ٍ لا تفقه منها مبروكة الا النغم ولم ترددها النجيبة مذ رحلة السيد الاخيرة الى ارض الهند.
بادرت مبروكة بالسلام على الخلوة كما عودتها السيدة ثم جثت عند ركبتها اليسرى ،مدت يدها العنبرية ولامست حرير جلبابها فاومأت لها السيدة بأنها تعرف البُشرى، حل الصمت الذي لن يفض غشائه الرقيق الا صوت النحيبة ومكثتا برهة طويلة لم يُسمع فيها الا طقطقة حبٍ وهمهمةٌ مبهمة ، ما ان فرغت من ما كانت تفعل حتى لوحت بيدها اليمنى وقالت كلمة وحيدة: جمر.
انتفضت مبروكة وهبت لإشعال المبخرة المتوسطة المبخرة ، اخذت تقلب الفحم وتساير ارواح اللهب في سعيها لاحلال اللهب في جسده، وما ان تهيأ تماما للأخذ نهضت النجيبة وفي يدها اربعين حبة فلفل اسود من ما تبقى مما وهبته اياها والدتها من قبل حين خطبها السيد وحان وقت انتقالها من يمين الخليج الى يساره وكان آخر شيء وضعته في يدها قائلة لها هذا التابل ليس للبطن ،انه لما ستعرفينه في التعيين من نجمٍ بوقته وعرفته لكن هذا حديث آخر
اخذت النجيبة الحبات وهمست فيهن ثم نادت إسماً لكل حبة وألقت بها من جهاتِ المبخرة لا على التعيين وكلما اخطأالتصويب اسماً دونته في ورقةٍ لديها وبعد ان فرغت
صيرت الغطاء على المبخرة وقالت للمبروكة
(هذا المبخر قرينك ان فُتش فُتشتِ وإن كُسر كُسرتِ فإن اردت النجاة لا تغفلي عنه فقد عقدت روحه بروحك)
جفلت المبروكة وقفزت الى الخلف فبادرتها النجيبة بخلع قلادة ذهبية معلقة في البسملة والبستها اياها وقالت ( هذه بشارتك وستكون في قلبك بصيرة فإن حاول احدهم مس خلوتي ستحرقك البسملة وتوقظك من نعاسك المُعتاد ولا تجزعي ما اخترتكِ الا لصدقٍ فيك اعرفه وولاء منك احسه )
امرت النجيبة بناتها بالتهيؤ لزيارة عقيقة الوقت وبدء نوء السعد وكانت النظرة الاولى لوجه السيدة مكشوفا منذ أربعين عاما
يتبع
زرعت النجيبة الضغينة في قلب العمتين للطفلة التي ما تجاوز عمرها الساعات، اخذتا تتهامسان وتقارنان ما حدث لاولادهما ولهما في البكور راحت الواحدة تُذكر الأخرى بأن عقيق تحمل سلسال النسب وتظهر اسم القبيلة ردت عليها الثانية ان عقيق انثى ولا يصح في العُرف ان ينهض الطقس لانثى.
عينا امهما سبيل كشف. &وكانتا تجولان في وجهي ابنتيها ، تلمح بوادر ٍ لحظوظ عقيق من سيدات العائلة وهاتان الاقرب في نبل الدم
خرجن السيدات الى الدرب الماءي قرب النهر الناضب في يمين القلعة وعبرن العاملات يمهدن الطرق لهن وعلى جانبي الدرب تجمعن بعض فلاحات سمعنا عن خروج النجيبة في غروب الشمس فاردن التماس رؤية وجهها الذي لم يلمحه احد الا وكثر خيره وتزوجت بناته وتضاعف حصاده لكنا لا تكشف عن وجهها الا لحدثٍ عظيم ولم يكن نساء القرية في علمٍ يتيح لهن تصنيف ميلاد عقيق ابنة بكرها عبدالله ولا اي مرتبة يحتل ، كل ما يحدث في بيت النجيبة لا ياخذ اهميته او شانه من سواها هي من ترفع وتحط وهي من تسمح وتتغاضى وهي من تهب وتمنع
وكانت مكشوفة الوجه واليدين فعلت الزغارد وتعالت ضحكات الفتيات وسخنت صدورهن في خيالات القرين المتاح في ما حول وسقط في وعي الفلاحات موسم حنطة وتمر وسمن كثير ودرٍ وسواه من امور الترف التي لم يعتدنها الا في نادر الوقت
زادت على كشفها النجيبة بأن نثرت بيديها هي الدراهم الفضية على السيدات وحمل بعدها سبعة رجال اقوياء موائد ووولائم عقيقةً ل عقيق حتى تدسمت ارض القرية كلها وقيل تلك ليلة لم يبت فيها جائع او محزون ولم يصلي فيها احد لم يدعو لعقيق وجدتها وان الناس جميعا تشاركن حلماً واحداً قال العارفون في الحلم الذي كان نصه المتفق فيه
(رؤية النهر الناضب يفيض من جديد ويمتد الى قلب القلعة فلا يميز الرائي اهو يصل للقلب ام ينبع منه وان الريحان. في كل المواسم تعرش وسكن العتبات والنوافذ وان حمامات بيض كانت تذرع سماء القرية وتظلل على الزرع عن حُرقة الشمس)
قالوا
( ستعيد عقيق المولودة في بزوغ نجم سهيل وحدها في الناحية لم يولد معها لا ادمي ولا دابة في هذه الارض امجاد القرية التي بادت منذ مئات السنين وسيكون خصب وترف وحياة عز ما دامت عقيق ترعانا ونرعاها )
بعد هذا الحلم نالت عقيق مناصريها وحماتها كما استحقت حاسديها ومبغيضيها وكانت للتو ابنة سبع ساعات حين حملتها النجيبة الى البدر الوليد تقرنه لها وتقرنها به وبدأت بتحنيكها بالتمرة ِ المباركة ثم بادرت بالتاذين في اذنها اليسار جهة القلب.
قد يتبع
كلما حاولت السيدة اقامة الاذان في يسرى اذني عقيق تلعثم لسانها وانغلق خلقها وانتابتها غصة ، حوقلت في سر صدرها واخذت تخاتل السيدات حولها وتوهمهن بانها تؤذن في همسٍ اعادت الكرة مرتين وسبع ولم تستجب اذن عقيق لصوت التمبير ولا هيبة الشهادة
إحمر وجه السيدة قلن النسوة من فرط نشوة الفرح لكن ابنتها الكبرى من طول نظرٍ وعشرة لوجه والدتها تعرفت على هاجس الدهشة في ارتعاشة وجنتيّ النجيبة والتي لا يهتز لها جفن ولا تتغير لها هيئة الا لأمرٍ جلل
ظلت عقيق في حضن جدتها التي منحتها ابهامها ترضعه ولا يعلمن النسوة كيف صبرت الطفلة دون صدر امها وحليبه كل هذا الوقت وهي المولودة للتو وكلما نوت جدتها لامها باخذ الطفلة وقبل ان تنعقد النية بلسان الطلب ترمقها النجيبة بعينٍ قاتمة تلمع مثل نصلٍ خارج نص الحجب
ما ان تعشت النسوة وباركن وتبخرن حتى نطقت مبروكة (ما بعد العود قعود)
لملمت النسوة بناتهن وفضولهن ووقفن ليصافحن النجيبة وهي لا تمن على يدٍ بلمس بل تضع يمينها في طرف شالها الاخضر وتمس اليد الممدودة بالكاد
لم يتجرأ احد قط على سؤالها في شان امتناعها عن لمس السيدات هي وحدها تعرف كم يحملن من ضر وشر في اطراف اصابعهن وفي نظراتهن وهي تعلم كم غيمة سوداء استجلبن نحسها لنسلها وسيد بيتها من قبل فتعلمت الا تثق في اللمس وان لا تنصت للحديث ولا تلتفت للصوت
بقت العمتان فامرتهما امهما بالذهاب لزوجيهما حيث انها قررت المبيت في بيت ولدها الوحيد احتفاءاً بوليدته والفتت بلا كلام للجدة الاخرى مسلطة عليها زمة الشفة العليا ونظرة العين حتى تنهدت أم الكنة عالياً وهبت قائمة متجاهلة تضرع عيني ابنتها وقالت بدعة
( لم يُتح لأي من نسائنا ان تُشرف مثل السيدة النجيبة على نفاسها فلا بد أنكِ محظوظة يا ابنتي ارتاحي الآن وسازورك صباحاً)
بقت النجيبة ومبروكة التي هيئت للكنة ماء اللبان والمر المُبخر والعود المربوط بقشر قهوةٍ يمنية سوداء وعصيدة تمر بالفلفل الاسود واصناف اخر كما يستقضي الحال واخذتها لخلوتها تاركة النجيبة وحدها مع عقيق تهرول بها الدهشة عند سماعها لحديث بلغةٍ لا تعرفها بين سيدتها وصوت آخر لا تميزه وهي الاكيدة ان السيدة وحدها مع وليدة لا تتحدث وانها قد اغلقت الباب بعد ذهاب الجدة الأخرى بالرتاج الثقيل وانه لا احد قادر على اقتحام مجلس سيدتها
وبعد ان غفت الكنة تسللت مبروكة للمجلس الذي فيه السيدة وحاولت الدخول من الباب الوحيد للمجلس وكان موصدا ، مدت يدها لتدفعه ووضعت يدها الثقيلة على مقبض الباب فاصابها ما يشبه البرق صعقها صعقة خفيفة ورمى بها الى جانب المجلس مغشيٌ عليها
في بوادر الضوء والمؤذن يصدح بالفجر عادت مبروكة الى وعيها، هبت واقفة ونظرت الى باب المجلس فإذا هو مُشرع ، تسللت الى فرجة الباب ووجدت عبدالله سيدها يجلس أمام امه النجيبة ويستمع لهمسها هازاً راسه كل برهة وعقيق في حضن النجيبة ترنو بنظرها بالتناوب بين وجه جدتها وتلتفت لابيها كلما هز رأسه.
مبروكة في موقف التعجب مزروعة في فرجة الباب معلقٌ بصرها بالصغيرة حتى أتاها صوت السيدة تناديها ان ادخلي ولا تقفي بالباب فدخلت مطاطاة راسها ، هش لها عبدالله كالمعتاد ونادها (يمه) تحبباً كما كان يفعل في طفولته ثم هب ليقبل راسها والنجيبة تنتظر ان يفرغ ابنها من هزله ثم امرته بالذهاب للسلام على زوجته ومن ثم الصلاة وخرج عبدالله مبتسماً.
اقتربت مبروكة من النجيبة وقالت لها
(سيدتي لم تقربي طعاما منذ البارحة ولم ترضع الطفلة كذلك الا يجب ان ترتاحي وآخذ عقيق لامها)
تجاهلت السيدة حديث مبروكة وبادرتها
( احضري ثياباً جديدة لعقيق واخبري والدتها بانني ساقيم معها حتى تبلغ اربعينها ثم ستنتقل معي الى دار السادة في تمام الاربعين هي وعقيق وولدي واكدي عليها ان لا تراجعني في ما ذهبت اليه وان لا تستجدي البقاء لان عقيق لن تتربى الا في حضني فان ارادت بيتها فلتمكث فيه وزوجها ويتركون لي البكر ويستعيضون بغيرها والا فلا مناص من الإنتقال الي منزلي)
وهكذا لم تناول النجيبة عقيق لوالدتها الا في ساعة الارضاع وحسب ولم تسمح لاي بشرٍ آخر بلمس الطفلة او تنظيفها او الاطلاع على جسدها سواها كانت تسهر بها وتناغيها وتحممها وتغير ثيابها كل الوقت حتى خافت مبروكة وارتعبت العمات والخالات وسيدات الاسرة من ما تخفيه النجيبة في التعلق بعقيق وما الذي يجعلها تنقطع للعناية بها وتضعها في يسار قبلتها في تهجد ليلها ووقت صلاتها وحمامها الخاص ولا تسمح لاي مخلوق قرب او بعد بودٍ او بأجر ان يقرب منها
يتبع
انتقلت النجيبة بالطفلة عقيق الى بيتها ولازمتها كما الظل ، لا يهنأ لها بال الا وهي في مرمى البصر منها حتى ان بنتي النجيبة ظلتا في موقع الدهشة زمناً ،وما ان بدات عقيق الجلوس حتى منعت النجيبة عنها الزوار باستثناء مبروكة وعبدالله والدعقيق وسلمى والدتها فقط والتي فطمتها في الاربعين ولزمت بيت زوجها بعد نهرٍ ناضب وشارعين وتركت الفتاة للجدة ولم تشعر بشيءٍ من حسرة فهي في الخامسة عشر من عمرها ولن تُحسن العناية بعقيق على كل حال وفضلت ان تبقى مع زوجها في خصوصية المكان وعزلته بعيداً عن سيطرة النجيبة واسرارها الكثيرة المربكة
في بدر الشهر السادس من عمر عقيق قررت العمتان زيارة والدتهما وارسلا لها هدية عظيمة ومكتوب من الرق المذهب يطلب الاذن بالحضور لها وبعد القبول والبركة اتيا بعد ظهر قائظ ودخلا لمجلس السيدة ولاحظتا حالاً المنز المرتفع على ما يشبه صارية سفينة والمغطى بلفائف حريرٍ اخضر مقصب بالمعوذتين وحروف طلسمية متداخلة ،تحته مبخرة لا تنطفيء تفوح بارواح الصندل والعود يتداخل دخانهما ويتصاعد ليكون مثل صحنٍ غيمي شفاف حول السرير الصغير ولا يتخلله يقف عند اطرافه كما حارس لهواءه.
بعد القهوةِ والسلام وتبادل الاحوال والاخبار بادرت الابنة الكبيرة ليل امها النجيبة بسؤال مستقيم لا لوع فيه ولا مخاتلة
( اماه ،سيدتي ) حنت رأسها واكملت ( لنا من الاطفال مجتمعون اربعة عشر ولابناءكِ الآخرين مثلنا او اكثر ، ما الذي يميز عقيق عنهم وهي الانثى الصغيرة بنت الغريبة البعيدة ما السر الذي يجعلك توقفين حياتك عليها ولا تظهرينها حتى لنا نحن عماتها)
حل الصمت المهيب حتى اوجست العمة الصغيرة خيفة وتكثف حولهما هدوءاً عجيباً مظلماً بعث بالنعاس والصداع في عيني العمة الكبيرة ليل وكأنما مر يومٍ وغادرت ليلته قبل ان تتحدث النجيبة قائلة
( الأسرار يا ليل عبء على حاملها كما القضول قتل بطيء لروح متبنيه اما الطمع فخطيئة كُبرى تُثقل نفس متعاطيه حتى لا يستلذ بشيء ٍ عنده او لديه لان هناك دائماً من يملك اكثر او افضل او اجمل ، ولانني اخاف عليكما من وطأة السر وعبء حفظه منعته ، لا عنكما وحسب بل عن نفسي انا فلا تسألا عنه ولا تطمعا في منزلةٍ ليست لكما ولا لنسلكما ما دامت الدنيا ولا في فناءها لكم الا ما هو لكم وسياتيكم فلا تحاصروا حظوظكما بالامنيات ، ما دام فيّ رمق لحياةٍ استطيعها سيكون لعقيق هذا الشان فإن اردتما الراحة تحاها الامر ولا تكترثا وتنعما بوجودكما في وقتٍ تعيش عقيق فيه وهذا لو تعلما حظٌ عظيم)
ونفضت جلبابها ووقفت فتعثرتا واقفتان واذنت لهما مؤشرة بيدها للباب فخرحتا وهما لا تعرفان ما الذي حدث ليغضبها هكذا…
يتبع
حاولت العمات الاخذ بالنصيحة انما غلبتهما الغيرة وعمى بصيرتهما الغضب فاخذتا تتلصصا على البيت الكبير وتزورا امهما كثيرا وتدسا في يد مبروكة العطايا والهبات التي وبدون ان تعرفا كانت تذهب للنجيبة وتضع كل شيء بين يديها من مالٍ واخبار وهدايا والسيدة تستمع للاخبار بغير ما اهتمام وتترك لمبروكة المنح كلها
وبلغت عقيق شهرها التاسع حين استيقظ اهل القلعة على مطرٍ غزير لم تنله الناحية منذ زمن ، لم تشفع لهم قرابين ولا صلوات في جفاف ارضهم كل الثلاثين سنة التي مرت عليهم بمرارةٍ واسى وتحول فيها الكثير منهم من اصحاب اراضي الى بحارة او صيادين حيث لا يفصلهم عن الخليج الا ساحل رملي ضيق وبقايا بناء غامض مسور لا يعرف احد من بناه ولم كل هذه الاقفال عليه
اتى المطر متقطعا وكثيفاً في مواقع الآبار وعلى النهر الناضب فاضت الغيوم وتلاقت في صخب حتى تراءى للمارةِ ان الارض انشقت والسماء انفتحت ولم يعد يميز الرائي اتمطر المساء ام تفيض الأرض
في خضم كل هذا وحدها مبروكة عرفت ان النجيبة في بدر تاسع اشهر عمر عقيق اخذت الطفلة الى البئر الرئيس في القرية وبيديها الفضيتان سحبت دلو الماء الذي احتوى قطراتٍ قليلة وانها غمست رجل الطفلة اليسرى في الدلو وصبت الماء ثانية الى البئر ووحدها مبروكة تعرف ان موجة المطر في غير موسم اتت بعد هذا الطقس بثلاث ليالٍ لا غير مع انها لا تعرف لم تذكرت تذا الطقس الذي ادهشها عند اول طرقٍ لحبات المطر الرقيق على نافذتها
استمرت الامطار حتى غسلت الارض وطهرت الاسطح وعادت القلعة مثل عروسٍ في جلوتها الاولى فاستبشر الناس وقالوا هذه مواسم تعيد لنا الرفاه الذي كان واخذوا الشيوخ يتهامسون عن الخير الذي عم منذ طلوع النجيبة مكشوفة الوجه واليدين في ميلاد عقيق ومنحوا بركتهم لتفاسير الحلم وعودة النهر وقرنوا هذا وذاك بعقيق وفأل ولادتها
ي منتصف السنبلة ، تحديدا في بزوغ نجم سهيل وبداية بشائر الرياح الخفيفة القادمة بعطرها تتهادى من الشمال اتمت عقيق عامها الاول دون ان يرى وجهها العامة فقط جدتها النجيبة ووالديها ، لم تصدق سيدات العائلة مبروكة حين سالوها عن الشبه في ملامح عقيق وهل بوجهها ما يعيبه لاخفائه هكذا
احدى العجائز قالت وهل لوجه السيدة النجيبة سوى وسم الجمال النادر مسغبة حتى تخفيه حتى عن قرينها في النهارات ومنذ قدومها صبية وهي لم تخلع برقعها امامنا الا في ولادة بكرها عبدالله ولبرهة الشهيق والشهقة التي اخذتنا في رؤيتها ثم عادت الى عهد اللثام ولم تخلعه الا في ولادة عقيق
ردت عليها الاخرى نعم صحيح وقد منعت عبداالله من الزواج واختارت له من بين عشرات الفتيات زوجته الآن مما جعل كل اخوته واخواته يسبقنه في الزواج والنسل ولم تعترض على اختيارات اولادها وبناتهاابداطالما جُدل النسب في الاجداد بدم ابيهم واسمه لم يهمها مال او جمال ولم تُسكن احد لديها قط ولا حتى بكرها كما لم ينم في خصرها طفل سوى عقيق
في تمام العام استيقظ الناس على صوت ماءٍ يتدفق خفيفاً ويصب ، كان المطر ياتيهم بانتظام منذ الدفق الاول منذ ثلاثة اشهر لم يمنعه صيف ولم يعرفوا القيظ هذا العام لكن هذا ليس بصوت مطر ، صوت ماء لا شك لكنهم لم يتعرفوا على نوعه ولا مصدره
دون العارفون في تاريخ القلعة ما يلي
( تناثر الناس في الانحاء في غبش الفجر بلا قناديل متحدون ببصيرةالاجتماع على امرٍ ، ينير دروبهم بدرٌ يغيب وشمس ٍ متثائبة ، تفرقوا في الجهات الاربع على شوقٍ وفضول وبعض خوف ووجل آمرون صغارهم ونساءهم بالمكوث في المنازل حيث ان الماء على قدر نفعه يؤذي ان خرج عن نصه وتتابع ، ولم يجدوا ما يُظهر للصوت معنى ولا رأوا ماءً وظلوا هكذا في بحثٍ وقلق حتى تعالت الشمس في وسط السماء واذن المؤذن بصلاة الظهر حين صرخ مجنون القرية هنا هنا)
مجنون القرية صريع هوى لسيدة ٍ لا يعلم اسمها احد سواه ولطالما اغراه الشباب بالمال وهددوه بالعصي لا هم نالوا بوحاً منه ولا هو استرد عقله الا لحظة نطق الاسم يبزغ له عقل في كل طرف ويذوذ عنها اذا شتموها ويمارس كل ما يمنحه الجنون من حرية في التشهير بهم وبما يعرف عنهم من رزايا فقد اتفقت عامة الناس ان يفعلوا كل مشين في حضرة المجنون ظناً منهم انه لا يفقه
عند صرخة المجنون تحرك مختار القلعة صوب الصوت فقال له شيخ المسجد فلنصلي اولاً لكن الشباب لم يطيعوه وتجاهله المختار ايضاً وذهبوا للمجنون في وسط الدرب الذي يربط القلعة بالقرية مكان النهر الناضب
ما ان اشرفوا ومنحتهم الشمس انعكاسات نورها الساطية حتى غشت اعينهم غمامة كما يشبه سراب الماء فلما تبخرت النظرة الاولى وهب سرب حمام طائراً جهة النور تبين لهم نبعٌ تنبثق منه نافورة في قامة ولدٍ في التاسعة تقريبا والماء يفيض منها على ما حول برقةٍ وسلاسة لا يتسبب في شق الارض او زعزعة اركان المكان ، يفور ويهدا فاقتربوا اكثر ومد المختار يده ليتذوق الماء ووجده حلواً ورائقاً كما كان النهر في ذاكرته مطعما بزهر البرتقال الذي ينمو في ارض القرية كل الزمان وفيما هم في صمت الدهشة وميزان العجب يميل بهم لاحتمالاتٍ شتى التفتوا
كان نحيب المجنون يعلوا وهو يحتضن الأرض ويقبلها كما استطاع ، جروه فتية القرية وهم يسالونه في صوتٍ واحد ان ماذا حل بك فمد يداً مرتعشة مؤشرا على الدائرة حول النبع والتي لم يصلها الماء بعد فنظروا ليجدوا اثر قدم طفل صغير في عامه الاول او ما يقرب يطوف ويحيط بالنبع في سبع دوائر مكتملة وفي نهاية الدائرة السابعة احكم غلقها اثر رجلٍ عارية لشخصٍ ما بالغ ربما صبي او امراة
ثم لا اثر يدل على قدوم او انصراف انقطع السبيل بالأثرين في ختام الدوائر …
افتراضي
يقول العارفون
(اختلف العامة في إرجاع فضل انبثاق النبع بعد جفاف سنينٍ عجاف، البعض قال لا بد ان ل عقيق يد في ذلك واثر اقدام الطفل دليل وقالوا أخرون بل ربما نبع الماء تدفق ونحن نيام واُحضرت عقيق كي يُنسب لها فضل ليست تستحقه وكعادة البشر لم يتفقوا على منهجٍ يسلكونه في تفاسير ما حدث)
فيما اخذ الناس يجادلون بعضهم في سبب الماء صرخ بهم المجنون
( ألا تعرفون النعم حين تغمركم ، ما اهمية السبب والمسبب في سمائه ، انهلوا من بركات الزلال واقتصدوا فيه واحملوا منه لمرضاكم وصغاركم ،للكون اسرار لا يعرفها الا قلباً حي ، القلوب الميتة وحدها تنشغل بالظاهر عن الباطن، حيييي)
توجست القرية خيفة على مجنونها الذي ترك داره الخربة في اطراف القرية وتوسد صرته ونام عند النبع ،حاولوا ان يروضوا الشارد فيه ويثنونه عن ما يفعل لكنه ابى فتفرق الناس كلٌ لعمله وصلاته
في ذات الوقت كانتا مبروكة واختها صباح داية ليل بنت النجيبة البكر تسترقان السمع وتستشفان النظر من بعيد وتعملان بصيرتهما المدربة في شفاه المختار واهل الناحية وبعد ان تفرق الناس واستكفتا من جمع مناوشات الحديث هرولت كلٌ الى سيدتها وربة نعمتها لنقل ما حدث في ما حول
اما السيدة النجيبة فاخذها قلق غامض وطلبت الماء والسدر والطين لتحمم عقيق ،ولما كانت مبروكة تسخن الماء لحمام الطفلة التفتت لها النجيبة قائلة
( هل منعتُ عنكِ زادٍ او زينة او مال او خزينة كل وقتي هنا يا مبروكة؟)
رعشة عاتية عبرت عمود مبروكة الفقري وخفقة عالية هزت صدرها ودوى صداها في اذنيها وهي في الرجفةِ والخوف همست في لجلجةٍ وتأتأة
(حاشا لله يا سيدتي)
اخفضت صوتها النجيبة في نبرة باردة ومرعبة (اذاً لم تبيعين الدجل على نساء القرية وكيف تستخلصين ماء حمام عقيق للعاقرات وطالبات النسل واستمالة القرين)
قفزت مبروكة الى الخلف خطوة واخذت تحلف انها لم تفعل
فقالت لها السيدة اذن انظري حولك ولمن اوكلتِ إناء الماء وقد قلتُ لكِ من قبل ولاءكِ وصدقك قربك لكنهما لن يجعلاني اتهاون في شرٍ تحضرينه الى سكن عقيق وستكون حياتك ثمناً لاي شكٍ بما بالك باليقين
قد يتبع
بدا الناس من مختلف البلدان يتوافدون على خبر الازدهار الذي عم ارض القلعة،بعضهم اتى طلباً للرزق حيث تتوفر الاراضي الخصبة يحتاج الملاك ايادٍ للفلاحة وللحصاد واذا توفرت الثمار اتى المال فعمر الناس البيوت وبنوا ما تهدم منها وذلك يحتاج الى صناع ومعلمين حتى ان الصاغة كثروا في الناحية وتناقلت سيدات القرى المجاورة انهن التقين احد الباعة الجوالين الذي اخبرهن ان زينته الصناعية لم تلق رواجاً حيث لم تخلو يد سيدة ولا فتاة من الذهب المسبوك سلاسل وجدائل كلٌ ومنزلته
الا ان بعضهم اتوا للبركة والتموا حول ديوان البيت الكبير يمسحون عتباته بجباههم وتيممون بغبار جدرانه حتى ضاقت بصخبهم النجيبة فأمرت بإخلائهم الى اطراف القلعة وهناك ابتنوا لهم ما يشبه التكية وسموها مقام عقيق
منعت النجيبة تداول الاسم وخافت منه حيث لا يكون مقام الولاية الا لفاني وعقيق في الحولين تخطو مطمئنة لعمرٍ مديد ولاسم الطفلة روح حارس لا يرضى بهذا التعدي ، اسقطت التسمية الطفلة في حمى متواصلة ، ترتفع حرارتها عند مفارقة كيس الثلج لرأسها مباشرة ، جربت النجيبة كل ما تعرف من وصفات ولم تنفع .فارسلت لهم رجال اشداء ارعبوهم في محاولة لإجبارهم على تغيير الاسم ، لم يقبلوا حتى التفاوض وقد اصبحوا ماخوذين بالمكان وصاحبته المُتخيلة وبدأوا برسم صورٍ على ما وافق هواهم لعينٍ ثالثة في جبين طفلة ذات وجه مدور ووضعوا في وسطها جوهرة تعكس الضوء وتركزه حتى اذا سطعت الشمس اصابت من ينظر لها مباشرة بالعمى
هكذا اجبروا الناس ان يخفضوا رؤوسهم عند مقام عقيق ويكتفون بالتبرك بها ونثر الامنيات واحضار الهبات والذهاب وعندما يلتفتون وهم مبعدون ويرون هبتهم قد اختفت يعتقدون ان الامنية ستتحقق!
بعد مداولات وهذه المرة بالحيلة والدراهم لا بالشراسة والقوة اعادوا تسمية المقام مضيفين الف ولام التعريف الى عقيق فتغير الإسم وارتضت ارواح الاسم هذا الاتفاق وارتفعت الحُمى عن عقيق
استمرت الحياة وتدفق الناس وخفت اسم عقيق قليلاً رغم وجود التكية التي يزورها النساء دون الرجال ، واصبح الذهاب لها مرهوناً بطلبٍ او امنية او حاجة وفي هذه الاثناء وعقيق في الثالثة من العمر ابتدأت النجيبة تسوق لها المعلمين من كل جهات الارض وترسل المراسيل وتبذل المال والوقت ووضعت لها جدولاً بكل كنوز المعارف من الفلك الى علم الارض وعينت لها استاذا استحضرته من بين النهرين لدراسة اللغة والبديع والبلاغة والخطابة وكان يظن انه قادم لتعليم امير سيرث عرشاً ما فلما وحدها طفلة للتو تسبح في بحر الرابعة من العمر استنكر لكن النجيبة قالت له ان تعلمت عقيق القراءة في تمام الرابعة فلك وزنك دراهم فضية ووزنها ذهباً
في البدء غره المال ، بعد قضاء ساعة واحدة مع عقيق والحديث اليها لمعرفة خريطة عقلها ومن وراء حجاب حيث لا يُسمح لمخلوق سوى النجيبة رؤيتها ، كان للعالم راي اخر حول تعليم عقيق
لم يسبق للعارف معلم اللغة ان التقى بشخصٍ له هذه الذهنية،وقد بلغ من العمر وذرع من الخرائط ما يجعله لا يلقي الأحكام عشوائياً، في اللقاء الاول بعقيق دخل الى غرفتها المعدة سلفاً للدرس ،ادهشته بساطتها وكمية الكتب المصفوفة ابجديا في دوائر تطوف بالمكان وتعطي الرائي لها لبرهة احساساً بدوارٍ مالح ، وانتبه الى ان الغرفة ذاتها اسطوانية في مبنى مربع، لا زوايا حادة في اي قطعة اثاث او جدار او زينة فقط الكتب عُفي عن زواياها وراحت في الحدة الجارحة تناوش الراحة المُستجلبة جرّاء مرونة المكان الطاغية، في وسط الغرفة ما بين الحاجز ومكتب المعلم مبخرة اكبر من الوسط على شكل ثمرة جوز ضخمة تتكيء على حاملٍ فيروزي والثمرة تتشكل من مرمرٍ حُر اخضر معرق بألوانٍ ارضية متدرجة ومن هذه الالوان وروح جوهر الفيروز تشكلت الوان الفرش والحصر والستائر التي لا يعرف ان كانت لها نوافذ فللضوء ِ مصادر شتى مشنوقة على شكل سلسلة تحوط بالاسطوانة العظيمة وتدور بلا توقف
يستقبل حواسك عند الخطو الاول لباب عتيق عطر مسكٍ معتق مختلط برائحة طفلٍ يلعب في صابون الرق ويشكل منه قوارب في ماءٍ دافيء ونسمة من ورد الجوري تلسع سقف الحلق وتختفي ثم تعود في خطوةٍ وتهجرك في اخرى
وتحدثت عقيق وكان المعلم قد استفسر عن عمرها من الخدم والناس ، تحدثت بصوتِ طفلة رقيق لكن المفردات وطريقة الحديث ليست حتى قريبة من عمرها كما يعرف المعلم، في رايه يظل لكل عمر ٍ صوت ولغة وبدات بالسلام عليه كما لم يرحب به احد في حياته ليست وحدها الكلمات بل النبرة والتأكيد على حرفٍ والتخفيف على آخر مما جعل الجمل تأتي في صوابٍ تام وتنغرز في القلب حافرة لها مكان الصدق وخاضعة لها الحنايا بالمحبة والولاء
خرج المعلم بعد ساعةٍ من التعرف والاستماع الى عقيق وهو لا يقايض تعليمها باموال العالم فقد اشعلت فيه فضول الدارس ولهفة المدرس المميز لصياغة جوهر هذا العقل المختلف
قد يتبع
اصبح المعلمون يجتمعون كل حين كي يناقشوا فنون التعليم وماذا سيستطيعون منح عقيق بعد ، لم يظل كتابٍ يعرفونه الا واطلعوها عليه وبعد ان اتمت علوم البالغين وهي بعد في التاسعة وقد أمضت خمسة اعوام ونيف وهي في عالم ٍ سحري بالنسبة لها وهي السحر بالنسبة لمعلميها ومريدي مقامها واهل القرية والوافدين وقد شاعت اخبارها في البلاد وتناقلوا سيرتها المبحرين في العلم واصبحوا بلا طلب يتوافدون للحديث معها وامتحانها وتبيان الحق من الباطل فيما يقال
كانت عقيق قد رُزقت باخٍ لها اسموه الجوهر واتوا به الى النجيبة ذات مساء عندما كان عمر الطفلة عامين وثلاثة اشهر واصبح الاب ياتي بالطفل ليزور اخته ويتعرف بها وقد دللوا جوهر كثيراً بعد ان ابتعدت النجيبة ببكرهم عقيق وخاصةً انه اتى ذكراً فكانت الام تلازمه وتلبي طلباته كاملة ويحمله خادم وقت اللعب حتى لا يتسخ طرف ثوبه
في زيارة الجوهر لاخته حاول ان يلعب معها مثل الاطفال الذي يعرف ، لكنها لا تعرف اللعب ولم تتعود عليه ، طوال حياتها تعاشر النجيبة وتتعامل مع الكبار فقط فلم تكن هناك لغة مشتركة بينهم حتى اتى يوم بعد ان انهت دروسها ودخل عليها غرفة الدرس ثم اخذ يدور ويتفق الأشياء حتى وضع يده على كتابٍ للحسن البصري في الاخلاق وكان مخطوطة نادرة واخذ الطفل يرمي به من يدٍ ليد واحياناً الى الأرض وهي تنهيه عن فعل ذلك ولم ينته فما كان منها الا ان قامت واخذته من يديه ورفعت عنه الكتاب فضربها على وجهها ضربة مباشرة نزف جرائها انف الطفلة وشعرت بدوار ،في وقت ترنحها دخلت النجيبة ورات المشهد ، سالت الجوهر تلجلج كثيرا وخاف ، امرته بالخروج من الغرفة بهدوء واخذت عقيق خلف الحاجز وداوتها برفع رأسها ونادت بطلب بعض الثلج وبعد ان تاكدت ان عقيق بخير اغلقت عليها باب غرفة الدرس وامرت مبروكة بالوقوف الى الباب وخرجت الى ابنها وابنه جوهر اللذين كانا يقفان بين بابي غرفة الدرس وباب آخر مفضي الى ديوان الضيوف
توجهت النجيبة بالخطاب لإبنها عبدالله
( اما انت فلك ان تراها كل ثلاثة ايامٍ ساعة من الزمن او اقل وامها بمعيتك اما هذا الصبي فقد حُجبت عنه اخته ولن يرى وجهها مثله مثل الغريب )
هم عبدالله بالحديث
نهرته قائلة
( ما قد يتوافر عليه تبريرك لا يناسب الحال يا ولدي ولست اظلمك او اكره ولدك كل ما في الأمر انني موكلة بحماية الطفلة منذ زمنٍ لا اعلمه وولدك خطر عليها ليس الآن في غيبة الجهالة وحسب بل انها الاقدار يا ولدي وسنحاول ان ندعو اصدق لعلنا نبدلها فخذه وارحل به ولن يتأثر ان لم تذكروا له شيء من هذا انما ان غذيتم نفسه بما يشعل لهيبها الاسود فستحرق الجميع فأنتم وما ترومون)
ودخلت الى عقيق واقفلت الباب وراءها
يتبع
تعاقبت السنون على القرية وعقيق راية فألها الحِسن وجهة تبديل حال المكان. المبتعثة لهم من غيب القدرة الكلية الى الارض كي لا ينام جائع على فراش حزن ولا يحمل هم معيشة أسرته والد وفي مثل هذه الاحوال تختلف الناس كما لا بد تفعل في كل الزمان بين مصدق وموالي وبين حاسدٍ ومشكك وبين كاره ٍ وخبيث وبين من لا يفكر الا في قوت يومه ولا يهمه خارج جدا بيته في خيرٍ او شر
اصبح عمر عقيق ثلاثة عشر عاماً ، ارادت النجيبة القيام بحفلٍ لبلوغها مبالغ النساء وتكليفها بما يُكلفن به ، وقد ابتدأت عقيق الصوم طوعاً وزهدا ً منذ التاسعة او قبلها قليلاً وعقيق طفلة لا تُقبل على الطعام كثيرا فبعض من خبز التاوة وقليل من الملح والماء يكفيها يوما بأكمله مما جعلها خفيفة تكاد تطفو من دقةٍ في جسدها رغم طولها البين والذي يتداولون الفضول في شكلها الخارجي يتحينون الفرص لنظرة عابرة لعقيق في تنقلها النادر وما قد يسربه لهم خدم الدار اذا رأوها تخرج من ديوان النجيبة لغرفة الدرس او العكس
ختمت عقيق العلوم المتبعة آنذاك كأي فتى فلم تعلمها النجيبة العلم المتاح لنساء ذلك الزمان او تلك المنطقة وعرفها وعاداتها بل علمتها ما قد يتعلمه الأمراء استعداداًلوراثة ممالك عظيمة ، وكلما آنس المعلمون اتقاد ذكائها وتشربها لشتى انواع المعارف بسلاسة وسهولة كانها تعرف مسبقا وروحها حاضرة لما هو في العالم من حكمة وكأنما المدرسون ينفضون غبار العبور من عالم الى عالم عن روحها لتتكشف لهم طاقاتٍ لم يروها من قبل حتى انهم في اجتماعاتهم يناقشون عقيق ك حالة لا كانثى او انسان وهم يحترمونها لا لمنصبٍ لها او المال الذي ينالونه في رحابها بل لعقلها ورزانتها وما يشبه الكمال في هيئة شخص ما ولا زالوا في دهشةٍ منها وبها بتعاقب السنين
في حفلٍ التكليف كالعادة اُولمت الولائم ووُزعت الحلويات والأموال على عامة الناس وسألت النجيبة مختار المكان ان كان للعامة اماني يتمنونها او اغراض يحتاجونها
بعد تردد همس المختار بوجل وهو ينظر الى امام المسجد والقاضي يطلب السند
(يقول الناس سيدتي ان كانوا في هذا العمر قد تعذر عليهم القرب من عقيق او السلام عليها فهل لهم بسماع صوتها تتحدث اليهم فيم قد يفيدهًم ربما وهل تستطيع الحديث اليهم فقط عن ما سيؤول اليه المكان وهل ترغب في التسيد عليهم وإمساك الزمام بعد ابيها او ان الجوهر من سيكون سيد المكان)
عند ذكر التسيد انتفضت النجيبة ورفعت يدها لتسكت المختار وقالت للغدِ شمسٌ تظهر المخفي ام الحديث لكم فسارى
يتبع
ظهرت عقيق في جلوتها محمولة في هودجٍ مصنوع من الخيزران المجدول بالريحان والرازقي في غير موسمهما، الهودج غرفة صغيرة جداً تتسع لسيدتين من حجمٍ صغير فكانت عقيق في الوسط وليس حولها احد، لم يكن الهودج مبهرجاً فقط فص فيروز محاط بالفضة المجلية يتوسط الاطار العلوي وستارة شفافة بيضاء تتخذ مكان الرؤيا توارب ولا تمنع ولا تكشف يحتار الرائي في رفرفتها ويتمنى البعض لو تمر ريح الشمال فترفعها قليلا كي يتسنى للعامة رؤية عقيق او عينيها الساطيتان كما سمع الناس ، الأكيد انها ترتدي لثاماً اخضر وتقدمت الموكب النحيبة تتكيء على عصا لها رأس افعى الحكمة وبها عيون لامعة من اصل الياقوت وترتدي كذلك الحجاب واللثام
من رأى السيدتان في علوٍ وعلو عرف ان ما عقيق عليه مأخوذٌ في الشكل من جدتها وفي الروح من عشرة النجيبة ودمها الذي يبدو تغلب على كل النصابات الباقية في قوانين النسب وما قد يرثه الحفيد من الصلة بجدٍ او جدة
سار الموكب حول القرية والهودج يحمله اربعة رجال لا يكادون يشعرون منه بثقلٍ او عبء كأنما يطفو في المكان ، من مر بحدود القرية ذلك اليوم اخبر البلاد كلها بالصمت المهيب الذي عم قرية الجبال السبع وانه لم يجرؤ اي شخص على الهمس ولم يرفرف طير او يغرد في مهابة حضرة عقيق ، كان الجو محملاً بالترقب والتوتر ونبضات القلوب تتعالى شوقاً ورغبة في سماع جرس الصوت وما قد تتحدث به عقيق وهي التي للتو ودعت تمام الثالثة عشر من العمر وتخطو في الرابعة عشر هذا السن المرتبك بين الطفولة والانوثة ، هذه الطفلة ما الذي قد تقوله وهم لا يعرفونه وكيف سيؤثر هذا عليهم
كل ما علمه الناس بوعيهم قبل عقلهم انهم ان سمعوا الخطاب لن يعودوا مثلما كانوا
توقف الموكب وسط ساحة القرية وقد كانوا قد اعدوا المكان لجلستها الا ان الرجال انزلوا الهودج في الأرض ووقفوا ولم تخرج عقيق وبعد انتظار بدا ثقيلا ومكثفاً
قالت النجيبة
(ستحدثكم عقيق كما اردتم وكما اختارت ، لم اسألها ماذا ستقول ولا هي قالت، حين تتحدث عقيق تلتفت الشمس وتتوقف الارض ، سمة الكون احتواء جواهره ، وانتم ايها المحبين ان اردتم العلم فاستمعوا بقلوبكم واتركوا العقل فانه غادر في مثل هذه الأمور
ومن لن يجد في ذاته الاولى القدرة على الإنصات فليرحل نحن لا نريد مستمعون )
استغرب الناس من بعض رقةٍ زينت صوت النجيبة وبعض قلق لكن شوقهم لحديث عقيق منعهم من الحديث لبعضهم والتفت الحشد المشاهد صوب الصوت الغرائبي وهو يبتدئهم بالسلام
يتبع
تعاقبت السنون على القرية وعقيق راية فألها الحِسن وجهة تبديل حال المكان. المبتعثة لهم من غيب القدرة الكلية الى الارض كي لا ينام جائع على فراش حزن ولا يحمل هم معيشة أسرته والد وفي مثل هذه الاحوال تختلف الناس كما لا بد تفعل في كل الزمان بين مصدق وموالي وبين حاسدٍ ومشكك وبين كاره ٍ وخبيث وبين من لا يفكر الا في قوت يومه ولا يهمه خارج جدا بيته في خيرٍ او شر
اصبح عمر عقيق ثلاثة عشر عاماً ، ارادت النجيبة القيام بحفلٍ لبلوغها مبالغ النساء وتكليفها بما يُكلفن به ، وقد ابتدأت عقيق الصوم طوعاً وزهدا ً منذ التاسعة او قبلها قليلاً وعقيق طفلة لا تُقبل على الطعام كثيرا فبعض من خبز التاوة وقليل من الملح والماء يكفيها يوما بأكمله مما جعلها خفيفة تكاد تطفو من دقةٍ في جسدها رغم طولها البين والذي يتداولون الفضول في شكلها الخارجي يتحينون الفرص لنظرة عابرة لعقيق في تنقلها النادر وما قد يسربه لهم خدم الدار اذا رأوها تخرج من ديوان النجيبة لغرفة الدرس او العكس
ختمت عقيق العلوم المتبعة آنذاك كأي فتى فلم تعلمها النجيبة العلم المتاح لنساء ذلك الزمان او تلك المنطقة وعرفها وعاداتها بل علمتها ما قد يتعلمه الأمراء استعداداًلوراثة ممالك عظيمة ، وكلما آنس المعلمون اتقاد ذكائها وتشربها لشتى انواع المعارف بسلاسة وسهولة كانها تعرف مسبقا وروحها حاضرة لما هو في العالم من حكمة وكأنما المدرسون ينفضون غبار العبور من عالم الى عالم عن روحها لتتكشف لهم طاقاتٍ لم يروها من قبل حتى انهم في اجتماعاتهم يناقشون عقيق ك حالة لا كانثى او انسان وهم يحترمونها لا لمنصبٍ لها او المال الذي ينالونه في رحابها بل لعقلها ورزانتها وما يشبه الكمال في هيئة شخص ما ولا زالوا في دهشةٍ منها وبها بتعاقب السنين
في حفلٍ التكليف كالعادة اُولمت الولائم ووُزعت الحلويات والأموال على عامة الناس وسألت النجيبة مختار المكان ان كان للعامة اماني يتمنونها او اغراض يحتاجونها
بعد تردد همس المختار بوجل وهو ينظر الى امام المسجد والقاضي يطلب السند
(يقول الناس سيدتي ان كانوا في هذا العمر قد تعذر عليهم القرب من عقيق او السلام عليها فهل لهم بسماع صوتها تتحدث اليهم فيم قد يفيدهًم ربما وهل تستطيع الحديث اليهم فقط عن ما سيؤول اليه المكان وهل ترغب في التسيد عليهم وإمساك الزمام بعد ابيها او ان الجوهر من سيكون سيد المكان)
عند ذكر التسيد انتفضت النجيبة ورفعت يدها لتسكت المختار وقالت للغدِ شمسٌ تظهر المخفي ام الحديث لكم فسارى
ظهرت عقيق في جلوتها محمولة في هودجٍ مصنوع من الخيزران المجدول بالريحان والرازقي في غير موسمهما، الهودج غرفة صغيرة جداً تتسع لسيدتين من حجمٍ صغير فكانت عقيق في الوسط وليس حولها احد، لم يكن الهودج مبهرجاً فقط فص فيروز محاط بالفضة المجلية يتوسط الاطار العلوي وستارة شفافة بيضاء تتخذ مكان الرؤيا توارب ولا تمنع ولا تكشف يحتار الرائي في رفرفتها ويتمنى البعض لو تمر ريح الشمال فترفعها قليلا كي يتسنى للعامة رؤية عقيق او عينيها الساطيتان كما سمع الناس ، الأكيد انها ترتدي لثاماً اخضر وتقدمت الموكب النحيبة تتكيء على عصا لها رأس افعى الحكمة وبها عيون لامعة من اصل الياقوت وترتدي كذلك الحجاب واللثام
من رأى السيدتان في علوٍ وعلو عرف ان ما عقيق عليه مأخوذٌ في الشكل من جدتها وفي الروح من عشرة النجيبة ودمها الذي يبدو تغلب على كل النصابات الباقية في قوانين النسب وما قد يرثه الحفيد من الصلة بجدٍ او جدة
سار الموكب حول القرية والهودج يحمله اربعة رجال لا يكادون يشعرون منه بثقلٍ او عبء كأنما يطفو في المكان ، من مر بحدود القرية ذلك اليوم اخبر البلاد كلها بالصمت المهيب الذي عم قرية الجبال السبع وانه لم يجرؤ اي شخص على الهمس ولم يرفرف طير او يغرد في مهابة حضرة عقيق ، كان الجو محملاً بالترقب والتوتر ونبضات القلوب تتعالى شوقاً ورغبة في سماع جرس الصوت وما قد تتحدث به عقيق وهي التي للتو ودعت تمام الثالثة عشر من العمر وتخطو في الرابعة عشر هذا السن المرتبك بين الطفولة والانوثة ، هذه الطفلة ما الذي قد تقوله وهم لا يعرفونه وكيف سيؤثر هذا عليهم
كل ما علمه الناس بوعيهم قبل عقلهم انهم ان سمعوا الخطاب لن يعودوا مثلما كانوا
توقف الموكب وسط ساحة القرية وقد كانوا قد اعدوا المكان لجلستها الا ان الرجال انزلوا الهودج في الأرض ووقفوا ولم تخرج عقيق وبعد انتظار بدا ثقيلا ومكثفاً
قالت النجيبة
(ستحدثكم عقيق كما اردتم وكما اختارت ، لم اسألها ماذا ستقول ولا هي قالت، حين تتحدث عقيق تلتفت الشمس وتتوقف الارض ، سمة الكون احتواء جواهره ، وانتم ايها المحبين ان اردتم العلم فاستمعوا بقلوبكم واتركوا العقل فانه غادر في مثل هذه الأمور
ومن لن يجد في ذاته الاولى القدرة على الإنصات فليرحل نحن لا نريد مستمعون )
استغرب الناس من بعض رقةٍ زينت صوت النجيبة وبعض قلق لكن شوقهم لحديث عقيق منعهم من الحديث لبعضهم والتفت الحشد المشاهد صوب الصوت الغرائبي وهو يبتدئهم بالسلام
يتبع
( السلام عليكم قومي وعصابة راسي ومسرى آمالي ومجرى دمي ، اما بعد فقد طلبتم مني حديثاً لا على وجه التعيين استوعب معناه عدا عن وعي الطالب بمقصد المطلوب ، لا حيلة لي في نسبٍ او جاه وهبتني اياها الحياة، انما لي في ذاتي ما حرصت على تعلمه والتنور به في ظلمة النفس التي خُلقت من كدرٍ مُصفى ، في ما عرفت دروب بها قبسٌ من نور ٍ لا يتسنى إلا لمن جد في الطلب بقلبه وتخلى عن نزعاتِ طمعه، لذا جئتُ أجيبكم عن السؤال الذي لو انني مكانكم ما التفتُ له ولا إهتممت به
لن أتسيد عليكم ما حييت مختارة، ستكتمل السيادة لوالدي ثم لأخي الجوهر ما استطاعاها وهذا ليس منحة مني بل ما استحقاه بقانون العرف وحكم الاقدمية وكل منهما بكر لوارثٍ ذكر من سلسال ٍ لا تتذكرون تاريخكم بدونه وهذه ثانيةً ليست تزكية مني بل لزوم ما لا يلزم من التوضيح والتصريح دونا عن التلميح الذي يمنعني إباءي عنه
سمعتُ ان الحيرة تلعب في عقولكم من بعض مجريات حدثت وانكم نسبتم لي فضل لا استحقه وهو رزق من الكون لكم وانني ان كنت في رأيكم سبباً او ذات حظوة وُلدت في حدودكم فهذا يحتمل الخطأ إحتماله للصواب
للشعوب مراحل ، يقعون في الجفاف فيموت زرعهم ويجف ضرعهم وتهلك مطاياهم وتقل مياههم فتزيد امراضهم وهي سلسلة من الاحداث يربط بينها الجهل والتبذير حين اليُسر وعدم إحتساب نكبات الزمان حسبة عاقلة
ويقعون في الوفرة فتزدهر الأسواق وتخضر الحقول وتغرد الطيور وتكثر الأعراس
يتناوب الزمانان على البشر عبر التاريخ كل الوقت لا هو تعلم ولا تغير الحال
ربما يكون هذا من اسباب بقائي بينكم ، ان اخبركم انه لن يدوم حال وأنني لست مخولةٌ بضمانٍ الهي وانكم ستصلون الى ذات النتيجة طالما انتهجتم ذات الدرب ولا يزال هناك متسع لعقلٍ ان تعقلتم)
لم يأتِ خطاب عقيق على هوى العامة، بعضهم لم يفهمه والآخر لا يعرف لم ترفض السيادة ولا يعرفون معنى انها تظن انها اختارت المكوث هنا وهي المولودة في هذي الارض بلا إختيار كما كل الناس
لم يلمحوا لها طرفاً ولا حتى تبينوا ملمحاً وحيداً يتحاكون فيه ، قالوا ان لها صوت فتى ما بين الطفولة والمراهقة لا صوت فتاة بعضهم تجرا وهمس ماذا لو كانت عقيق في مكانٍ وسط بين الانثى والذكر الا يفسر هذا كل تصرفات النجيبة
لكن المعجزات التي صاحبت ولادة عقيق بغض التظر عن جنسها اكانت محض صدف
بعد الظهور الذي يكاد يقع في هامش خيبة الامل لعامة الناس تناقلوا الإشاعات على انها أخبار حتى ان بعض من اصبحوا اثرياء خلال الثلاثة عشر عاماً المنصرمة منذ ولادة عقيق سيروا المراسيل كي يبحثوا عن الدايتين اللتين وقفتا على ولادة عقيق ليتاكدوا من جنسها وليجدوا ان الدايتان قد غادرتا البلاد بعد ولادة عقيق بقليل وقبل تمام اسبوعها الأول ولا احد يعرف كيف ولماذا ومتى ولم ينتبه احد قبل الآن ان الدايتان هاجرتا
سرت الحكايا نارٌ في هشيم حتى ذات ليلة تحمل محاقاً في سماءٍ مكفهرة سمعت السيدة بالامر وعقيق في حضرة جدتها وما ان اتمت الناقلة الخبر حتى شهقت عقيق وراء حجابها وحل صمتٌ مخيف استأذنت على اثره الناقلة بالاشارة وهبت راكضة وهي تسمع دقات سبحة النجيبة بقوة في صدى صمت المكان ولم تقف الا بباب ببيتها حيث حوقلت ودخلت قافلة الباب وراءها بالرتاج المحكم
اما النجيبة فتحركت ببطء تتكيء على عصاها وتشق ستار الحجاب لتجد عقيق مغشي عليها في ارض الخلوة.
يقول العارفون ان عقيق كانت فتاة جميلة ، عيناها واسعتان مثل صحراء ممتدة وإنسانا عينيها مثل نبعي ماءٍ جاري ، من سطوة لمعتهما تحسبها على وشك البكاء ، وان لها حاجبان من فتنةٍ مقوسة كانما زججتهما ورسمتهما سيدة من الجان ، كما انهم قالوا انها ان اطالت النظر لمخلوق غر فقد عقله ، وان جدتها النجيبة في صباها تبارت بالنظر مع احد اشجع الرجال في حاشية زوجها واصابته في مقتل اما ارتكاز اللثام على انفها فيوضح شموخاً فيه ودقة ومسافة اللثام تشي بوجنتين مرتفعتين في اباء ، وينسدل اللثام ليكشف عن ذقنٍ لطيف محدد بعزم كما ان لها في العلم باع كبير ولها من الحكمة على صغر سنها ما يُدهش
هكذا وبعد ان وجدالناس الدايتان وتأكدا من جنس عقيق ، وصل وصفها وذاعت صفتها بين العالمين كما لم يخفى عليهم حظوتها لدى اهل الأرض وميراثها ونسبها النبيل وفألها و( معجزاتها) ولم يخل الامر من بهرجة الخيالات وزيادة الصور
وبما ان عقيق أوضحت ان لا مطمع لها في حكم او سلطة وبلوغها الرابعة عشر فقد توافد عليها الخاطبين من ابناء الأمراء والملوك والسلاطين وكبار التجار واصحاب المناصب من شتى بقاع الممالك المحيطة بمملكتهم
تكاثر الخطاب وتكرر الرفض من عقيق حتى بدأ علية القوم يشعرون انهم مُحتقرون وانها تترك اولادهم اسرى في انتظار ردا ثم ترفض بل وتُرجع الهدايا بالرفض شفاهة على لسان خادمة لها ورغم ان ابيها قد اكرم وفادة الجميع منهم كلٌ ومنزلته وعاملهم بكل احترام الا ان هذا لم يمنع غيظ البعض و غضبهم واعتبروا عقيق مغرورة وانه لا حكم لأحدٍ عليها وابتدأوا بمضايقة أييها وأخيها في المصالح المشتركة والنجيبة ترد ابي عقيق عنها كل مرة
في ليلةٍ عاصفة افاقت مبروكة على صرخة السيدة وهي تردد يا الله يا الله
هرعت لها ناولتها بعض الماء تمتمت بسورة الاخلاص ثلاثاً ونفثت عن يسارها ثلاث ثم سألت سيدتها عن الأمر فقالت السيدة
كنتُ وعقيق في قافلة نتجه لحج بيت الله بمكة وفي الطريق وقبل مشارف الجبل الأول هبت عاصفة وتلاطمت بنا الرمال وماجت الارض وكدنا نغرق بل غرق بعضنا وانا ابحث عن عقيق ولا اراها حتى لمحت يدها التي عرفتها من خاتمي االفيروز الذي منحتها تحاول شق الأرض لتخرج منها وتمد يدها للعون واردت الذهاب لها لكن رجلي كانتا مغروستان في الرمل الناعم وكنت. استغيث بالله واستيقظت ، اعوذ بالله من الحلم وما يحمله مبروكة اشعلي المبخرة وناوليني مسبحتي وافرشي سجادتي وهيئي لوضوءي للقد حُرمت النوم منذ الليلة في سواد الوقت
يتبع
صبح الصباح في بداية الخريف وكان نوء القوس يقترب من سماء البلدة مُحملاً برياحٍ خفيفة باردة ، بدات الأشجار تتعرى من اوراقها ويبرد النبع ويحلو النوم في الصباحات
الا ان ديوان النجيبة اشتعل بالتسبيح وبخور اللبان وارواح المستكة تدور في الانحاء ، صوت به طلاوة يتلو سورة يس في طرف المجلس وعقيق تتوجس خيفة على جدتها التي مذ استفاقت من حلمها الرملي وهي تراقص الحُمى وترفض الزاد ، تحتضن كتابا مهلهلاً من كثرة ما قُرِأ وتطلب الحناء الممزوج بماء الورد الدافيء وتمسك يد عقيق وتخط على كل مفصلٍ حرف ، كلما تعرشت الخطوط طمست الحروف بورق السدر واعادتها ثانية في دوائر مٌحكمة على كل اصبع يد رتلت كهيعص من أول سورة مريم ثم في اليد اليُسرى حاءٌللحفظ وميم للملازمة وس للسيادة وع للعلو وق مقفولة على نقطها غير مفسرة للواردين
استمرت حالة الفزع والحمى في جسد النجيبة سبعة ايام لا يغمض لها جفن وتتناوبا على رعايتها مبروكة وعقيق حتى اذا انقضى اليوم السابع بعد صلاة الفجر وهي على سجادتها تصلي ومن يراها يظنها تُطيل الركوع وتستجدي الرحمن فإذا هي قد اسلمت الروح في دعةٍ واصبع السبابة منه يرتفع بالشهادة
عرفت ذلك مبروكة حين وجدت ان رأس سيدتها مال الى اليمين وشارف على السقوط وعرفت ذلك عقيق من قبضةٍ اخذت بتلابيب روحها وخرقت شغاف قلبها ثم سمعت صرخة مبروكة فركضت الى جدتها وألزمت مبروكة بالصمت وامرتها بالمسك والسدر والكفن وبيديها المحنيتان بالاذكار والطلاسم غسلت جسد جدتها بدموعها الصامته بلا نشيج ولا نعي وعندما فرغت من ذلك عطرتها بالعود والمسك وخطت على صدر الكفن بماء الزعفران الم نشرح كاملة وغطت وجهها وارسلت لوالدها مندوباً يناديه ليزف والدته الى قبرها راضية مرضية وينادي اخوته ويعلن الحدادثلاثة ايام في ارض البلاد
عرف الحزن درباً لقلب عقيق، لأول مرة منذ ولادتها تتعرف على طعم الفقد ، الفقد الذي لا يشبه اي شيءٍ آخر ، المٌ في القلب وخوف مُريب لا تعرف كنهه
استدلت على معنى الوحدة والحياة بدون سند لأول مرة حين أتت والدتها وجدتها لوالدتها لتاخذناها لبيت والدها ، ارادت الاعتراض والبقاء في بيتها لكن والدها اتى مع اخيها الجوهر ولم يسألها حتى لم ارادت البقاء هنا امر الخادمات بلملمة ما تبقى من حاجيات النجيبة بعد ان اخذت عقيق حسب الوصية بعض الأشياء والكتاب المهلهل ملفوفاً في عباءة القصب الخاصة بعرس السيدة النجيبة وتم نقل عقيق الو بيت والدها مشياً في الغسق برفقة مبروكة ورجل من حراس والدها ، هودجها القلق ومطيتها الحسرة ولباسها السواد ، لم يكن هناك احد في هذا البرد يسير فيما حول ، البرد فقط يتسيد المشهد ويتسلل الى عظامها مؤكدا لعقيق ان مسيرة شقاءها قد بدأت الآن…
انقضت ايام الحداد ونادى السيد عبدالله ابو عقيق ابنته التي لم يكن لها اباً حقاً كل هذه السنينن واتت عقيق تلبي النداء بصحبة مبروكة فانزعج الأب وامر مبروكة بالخروج ، التفت الى عقيق فإذا هي واقفة بلثامها على يمينه فقال لها بلهجة الآمر اتتحجبين وجهك عنا يا عقيق ، ازيحي هذا اللثام واجلسي وجلست عقيق دون كشف وجهها ودون رد عقدت يديها في حضنها وانتظرت
طال الصمت والأب يبدو مرتبكاً ، انتظرت عقيق بصبرٍ ان يتحدث بما يريد وحين بادر بالكلام صرخ بصوتٍ اجفلها نادوا الجوهر ووالدته
بعد برهة حضرت الأم يتبعها الشاب حسن الطلعة في منتصف المسافة بين المراهقة والشباب يميل للطول في قامته وكانما يبدو لمن لا يرفه بأنه في السابعة عشر وحالما دخل المجلس انثنى على رأس ابيه يقبلها ثم تناول يده ووضعها على جبينه ثم لثمها وبصوتٍ يفضح صغر سنه قال (أأمرني سيدي)
امرهم السيد بالجلوس وتنحنح قليلا ثم. قال
( عقيق يا ابنتي انك الان في عرفنا فتاة في عمر الزواج ولم يتبق لك الا عام لتكملي السادسة عشر وكلما تقادم بك السن قل حظك وانقطع نصيبك وقد خطبكِ منا علية القوم وملوكهم وأثرياءهم ولا يزال بعضهم ينتظرون ردك وانني انصحك بالإختيار الآن ما دمتِ قادرة عليه ولدى والدتك اسامي ومناصب وأصول كل من لا يزالون ينتظرون واولويتهم واهمية مصاهرتهم لرخاء البلدة ولتعزيز مكانتنا بين البلاد فاختاري الرأس ان احببت او عضيده ولك فسحة من سبعة ايام للتفكير و تقليب الامر في رأسك ولديك واالدتك تفهمك شأن النساء وتدبر أمرك فأرجو ان تطيعيني وتراعي ابوتي لك ما دمت معكِ في طور الرجاء، وان اردت ان تعرفي عن الخاطبين اكثر فدونك الجوهر يعرفهم ويجالسهم ويلاعبهم في المبارزة والخطابة ويعلم عنهم ما لن نعلمه نحن فاسستعيني به واستخيري وعودي لي)
لم ترد عقيق على ابيها ولم تنبس بحرف رغم غمز والدتها لها بل ولكزها لعقيق الا ان عقيق بعد صمت مهيب وقفت وقالت ( هل استطيع الانصراف للشأني الآن يا سيدي)
قال الجوهر لكنك لم تجيبي الوالد
قالت وهي لا تزال تنظر في عيني ابيها (ايمكن ان انصرف الأن)
اومأ الاب بما لا يُعرف معناه وخرجت عقيق بهدوء من المجلس ووالدتها ترتجف من الغيظ وااخيها واقف في دهشة اما الوالد فحوقل ثم قال لوالدتها
(تقربي منها فهي ابنتك مهما حدث وحاولي اقناعها بحكمة او انظري عماتها يساندنك ان عجزت ِ والا ……. ) لم يتمم كلامه هب واقفا وهو لا يزال في همهمة وحوقلة وخرج من المجلس
انعقد مجلس سيدات البلدة زوجة السيد التي هي والدة عقيق وعماتها ، اثناء التحضير لفتح الحديث مع عقيق كانت العمات يحثن الكنة على استخدام سلطة الأم بالنصح تارة والتحذير اخرى والابتزاز العاطفي احيانا أُخر الا ان الوالدة فاجئتهما بقولها
( نعم انا والدة عقيق لكنني لست متأكدة انني امها ، لا اشعر بها كإبنة لي كأنما هي في الهيبة امتداداً للنجيبة بل تفوقها، نظرة منها تلجمني ولا استطيع ان أامرها كما ان اخيكم لو اطال النظر اليها ولم يحجبه عنها اللثام لما استطاع قول شيء مما قاله ثم انها تصمت كل الوقت وان سألتها سؤال عادي تتأنى في االإجابة بصوتٍ خافت وواضح وذي صدى في آن يبثث في الخوف لا لان به نبرة غضب او حدة بل لان به ما يشبه الصبر المر، يترك صوتها الحزين منذ توفت السيدة صدى مرارة الفقد والصبر عليه وتبدو كانها اصبحت في ذل بعد عز هذا ما أشعر به ولا احس الا به منها، زاد على ذلك اننا نريد تزويجها وأظنها تعتقد اننا نريد الخلاص منها وفي الحقيقة نحن لا نعرف كيف نتعامل معها)
استخفت العمات بحديث الكنة ولم يمنحنه الإهتمام وارسلا الخادمة تستعجل عقيق وقبل ان تخرج اقبلت عقيق بلثامها والقت السلام ثم لثمت رأس والدتها وجلست بالقرب منها فأستبشرت السيدات وبادرنها بالحديث عن الزواج ومنافعه للفتاة واخذن يسردن اسامي ومناصب ومنااقب الخاطبين حتى اذا انتهى حديثهن بعد ساعتين واكثر وعقيق صامته سالنها هل تختار احدٍ بعينه او يختار والدها او ماذا ترى فصمتت حتى مللن سكوتها ثم قالت اريد ان اتحدث الى كل خاطب على حدة بلا مرافق عدا مبروكة ثم اقرر جوابي
صُعقن السيدات من الطلب الغير مسبوق وحاولن ثنيها عنه. قالوا لها ان كانت تريد رؤيتهم سيحضرهم الجوهر الى حديقة الدار وتطل هي عليهم
قالت
( لا غوى لي في الشكل ولا غاية اريدالحديث مع كل رجلٍ راساً براس ثم اقرر ان اردت الزواج اولا)
هبت واقفة واستاذنت ثم خرجت دون ان يأذن لها احد فقد صعقتهن الدهشة
اضطرت العائلة لإيجاد طريقة مستحدثة يسنون بها عرفاً لم يكن متوافراً آنذاك فليس للمرأة ان تطلب النظر الى الخطيب نظرة اولى بشكل سافر ، على النسوة ان تحتال كي ترى ما هي مقبلة عليه فكيف والحال هنا ان تجلس الى الخطيب وتتحدث له
في البدء استنكر الخاطبون الطلب خاصة انهم ينحدرون من عوائل كبيرة وذات هيمنة وسلطان في الانحاء انما نظرا لأن ما هو معروف عن عقيق ان لا يوجد بين نساء الناحية من يبزها جمالا واخلاقا وعلما ونسبا رضخوا للأمر وانتابتهم الحيرة وتمكن منهم الإرتباك فما الذي من الممكن ان تتحدث لهم فيه عقيق وهم اصحاب سيف ورياضة وليسوا اصحاب فكر وقلم
اتت الموافقة وابتدات عقيق اللقاءات تسألهم سبعة اسئلة وتحذرهم من تداولها بينهم او افشاءها لايٍ كان ، وهبتهم مهلة ثلاثة ايام للرد على ان تختار من يجب الأسئلة كما يناسبها
الملغز في الأمر انها طلبت اليهم استشارة معلميهم وعامة الناس ان امكن دون افشاء الأسئلة اي ان يستعينوا بمن ارادوا او اي كتاب يجدونه لكن في غموض وتورية
وكانت الأسئلة كالتالي
من انت؟
ما اقرب شيء اليك؟
ايهما ابعد الأرض او السماء؟
ما الذي يوجد في البر ولا يوجد في البحر؟
ماذا يبكيك؟
لو فقدت سلطانك ومالك ما الذي تملكه بعدهما؟
لم اخترتني من دون النساء عروساً لك؟
امهلت عقيق ثلاثة رجال ٍ متنفذين وورثة لممالك وسلاطين سبعة ايام لياتوا بالرد شفاهة لا مكتوبا ولا في يد خادم بل كلٍ ياتي بنفسه ولسانه ويجيبها وسوف تقرر من سيكون زوجها وذلك بعد انتخابها لهولاء الثلاثة فقط ورفضها لباقي الخاطبين
لم يعرف الناس ولا حتى اهل الخاطبين او اهلها ما دار بينها وبين خاطبيها وبقى الترقب والتوتر معلقان في سماء البلدة حتى الوفاء بالعهد والعودة بالاجوبة او اتخاذ الخيار الآخر وهو الانسحاب
انقضت الأيام السبعة وأتى فجر الثامن بلا خبر. شارفت الشمس على المغيب حين حضر ابن سلطان الجبل بالاجوبة مكتوبة فيي رق ِ عتيق ومختومة بفص ياقوت اطاره. ذهب مصهور ، استأذن بالدخول ،اذنت له عقيق ووقفت مبروكة بباب الديوان والجوهر حاضرا مع صاحبه ، مد يده ابن السلطان ليسلمها اللفافة فقالت له
( لا ، قل لي شفاهةً ما اجوبة الاسئلة السبعة )
تلعثم الفتى البالغ العشرين ربيعا وفتح اللفافة مرتبكا ً فبادرته عقيق بمخمل صوتها الطري
( الا تستطيع الاجابة دون الرجوع للرق )
زاد اضطراب الفتى ثم وبصوتّ خافت قال لها ( انتِ اقترحتِ علينا الإستشارة فلم تستنكرينها الآن)
قالت له (نعم قلت استعينوا ولم اقل انسخوا ، ما هو مكتوب هنا رايك وشانك او رأي سواك )
قال ( المهم ان تكون الإجابة صحيحة)
قالت ( انا اُجيد القراءة ، اترك لي الرق وانتظر سبعا لأرد على طلبك)
تنفس الصعداء وترك الرق وذهب
ثم اتى بعده وريث الممالك الشرقية ودخل على عقيق وبعد السلام قال سليني اجب
قالت من انت
قال انا ابن من لا تغيب الشمس عن مملكته
أعادت ومن انت
قال انا وريث ااعظم مملكة في التاريخ
أعادت عقيق السؤال بصبر من انت
قال انا الذي لا يُبارى في نسب ولا يُجابه في حرب
قالت لم نعرف من انت
قال انا فلان بن فلان ابن فلان حتى سابع جد من الملوك
قالت هذا اسمك وذاك فعلك وقبلهما ارثك انما من انت
هب غاضبا وصرخ ( ان كنتِ قد قررتِ رفضي لغرور فيكًّ،،،،، او سوء طالع لذويك فليس لكِ ان تهيني الملك العظيم وابنه ولستِ ممن لم تنجب مثلها النساء مقارنة بي ولولا حب ولادي لجمع الفرائد ما استجبت لعتهٍ وتيه انتِ فيه ،. وبما انني دخلتُ في هذا السباق واتيت لك مختارا بالجواب فلا بد من الإيجاب والموافقة وهذا انذار اخير والا…)
وتقدم صوب عقيق خطوتين سريعتين بغضب
وهنا هب الجوهر صارخا ( اصطبر والزم الحكمة التي تليق بابن ملك ولا تتعدى حدودك)
قال وريث الملوك (سنرى الحدود اذا تبقى لديكم ما قد تدعونه حدودا)
ولى خارجا مثل ريحِ عاتية والجوهر يرتجف من الغيظ ويبدو على عيني عقيق الشرود
لحق الجوهر بوريث الممالك الشرقية وقال له دون علم اخته عقيق انه ان انتظر سبعة ايام سيحظى رد فأنذره الوريث انه لن يقبل أي رد بل يجب ان يكون ايجابا وقبولا ووعده الجوهر ومن هنا بدأت المعضلة التي تسبب بها رغبة الشاب الغرير الجوهر بمراضاة غضب آني لم يكن ليُلتفت له لولا ان وعد الرجال في ذلك الزمان كان بمثابة عهد الدم لا يمنع منه المُعَاهد والموعود الا لموت الذي وعده
أرسلت عقيق الرفض لوريث مملكة الجبل ولم تهتم بالرد على وريث الممالك الشرقية ولم يحفل الجوهر بعدد الأيام حتى كان صباح اليوم الثامن وكان في نوء شؤم وموعد خماسين وغبار كثيف يحيط بالناحية وإذا بثلاثة فرسان ٍ يشقون عنان الصباح المغبر بخيولٍ سوداء خرجت عن نص الخماسين تلمع مثل ابنوس حر لا أثر فيها طول طريق ولا نال من حسنها غبار
وصلوا الى ديوان حكم البلدة وطلبوا مقابلة المسؤول بخطابٍ ممهور من ملك الممالك الشرقية دخل به صاحب الباب الى عبدالله ابي عقيق وكان نص الخطاب
( بعد السلام المحمود والاحترام الواجب وتبييت حُسن الظن وحفظ الزاد والملح بيننا وجيرة حسنة جاورتمونا اياها سبعون عام
نبعث بخطابنا هذا نطلب الأذن بالقدوم لطلب كريمتكم عقيق لإبننا وولي عهدنا حسان زينة الشباب وتقديم المهر والهدية والعهود والنيشان هذا بعد ان تمنحونا الموافقة التي وعدتمونا بعد سبعة أيام وانتظرناها حتى منتصف ليل البارحة في تمام اكتمال السبعة ايام ولياليها وقلنا لعل ما يمنعكم عنا قلة مواردكم ووعر الطريق ورياح الخماسين وهذا لانكم لنا الآن بمثابة النسب والرحم لأولادنا ان شاء الله ،فإن جاوبتمونا كما وعدتم ولي عهدنا اتينا لكم محملون بما لا تستطيعون استيعابه واما… ان كان هناك (اما) فأنتظروا فعلنا فنحن قوم لا نقول بل نفعل ،هذا والحمدلله ان منحكم نعمة العقل ومنع عنكم نقمة الجهل ومثلكم خبير بما بين السطور
قلت قولي هذا وقد تم
ولله الامر من قبل ومن بعد)
وجد عبدالله رجفة في أوصاله ونبض يتزايد في قلبه حتى خشي ان يفضحه شحوب فتعذر بالغضب وصرخ يطلب الجوهر وعقيق بعد ان قابل الفرسان وأكرم وفادتهم وذبح لهم ثم طلب منهم الذهاب للإغتسال والراحة حتى يجهز الرد كتابةً
دخل الجوهر وفي أثره عقيق فسألهما الاب من حينه وهنا شهق الجوهر واستنكر على نفسه نسيانه والتفت الى أخته يترجاها ان توافق وهي صامته وحاول ان يسرد مزايا حسان فقاطعه أبوه وسال عقيق ان ما رأيك
فقالت
( لا تلتقي الاثافي الا على النار ، ونحن وحسان حجرا رحا سنطحن بيننا السنين وتطحننا ، لا أصلح له زوجة وأنا فص العقيق وهو حجر يقدح النار غضبه ويغلي دمه لكلمةٍ عابرة ولستُ ارضى بخطابه لي ولا بخطبته ولن أكن له وفيّ عرق نابض وهذا ختام الحديث) وصمتت
تفصد العرق على جبين الجوهر ودخل اباها في حوقلةٍ طويلة ثم قال لها
( يا ابنتي انك ان رفضته ، فقد احكمتِ على البلدة بحربٍ ودم ودمار ، ألا يستحق الناس ان تعيدي النظر في حكمك فالرجل شاب وللشباب احكام وانتِ قادرة على ترويضه وتطويعه وسيكون لك كما تريدين انا اثق بذلك فما قولك)
ردت
(سامحني يا والدي ان نفسي لا تقبله ولن ارضى به لو كان آخر رجل على وجه البسيطة)
تسللت عقيق الى بيت جدتها السيدة النجيبة مع مبروكة وطرقت باب ديوان العلم تطلب استاذها الاول الذي ظل يرعى مكتبتها ويسكن مدرستها بعد ان قضى بجوارها كل سنين عمرها وتعلق بعقيق والمكان وتجاوز هبة المال الى عشق الصحبة ورفقة الكتب وحرية الدرس
اندهش المعلم الأول وقام للباب فوجد عقيق بعينيها الحادتين ،استأذنت في الدخول وأذن لها وجلست بحجابها وحجبها برهة من الوقت ، تشاركا الصمت الحميم والمفهوم بينهما ولما استشعرت عقيق طمأنينة في دواخلها قالت للمعلم
( قد كنت لي نِعم المعلم وتعديت المنزلة الى الصديق وتعليت في الرتب الى مقام والدٍ رقيق وناصح امين وقد جئت اسألك مشورة لست فيها بشحيح علي)
اخبرته بما دار بينها وبين ابيها او كما تشير اليه امير الناحية وسألته ان كانت ستحمل وزر دمار البلدة وهلاكها فقال لها
(لطالما اقتتلوا البشر على ناقة او ممر او قطعة ارضٍ خراب بُغية التسلط والسيطرة وان لم تكوني سبباً سيكون هناك عذر لهم في زمنٍ ما وفي وقتٍ ما فإن وجدتِ للرجل في داخلك مكانة ومكان فلا بأس وان وجدتِ له البغض والنفور فلا تتجملي عليهم
بقبول يُنزلكِ منزلة لا تليق بك وانت العقيق التي تأتي ولا تؤتى وتنتخب ولا تُغتصب وتمنح ولا تُؤخذ
وعلى صغر سنك المتعارف عليه وغر تجربتك كما يعرفونها الا ان في روحك قبس حكمة وفي عقلك ما يزن رجالاً محنكين فإن اردتِ ساعدتك على الهرب وانا على يقين انني بهذا احز عنقي بسيفي واقضي علي بيدي لكنك ان اتخذت الليل ستاراً واتفقتِ وأخيك ان يتحمل فضيحة هروبك وقد يقول الناس انكِ ما فررتِ الا لعارِ او فضيحة تمنعك من الزواج وقد يتهمونني في عرضك ولا بد ان تحتسبي وتفهمي كل الإحتمالات التي تتراوح ما بين النفي وهو هين او الاسر والتنكيل وهو الاصعب وبينهما القتل ففكري في بعض هذا النهار وعودي لي في غروب الشمس ان وافقتني الراي وان خالفتني فلا تاتي وحسب)
جلست عقيق قليلا في هدوء ثم قامت للباب بعد ان القت السلام على معلمها ومرت من فرجةٍ جانبية الى ديوان جدتها وكان المعلم ينظر لها ويعلم انه لن يراها بعد الآن
وقفت للمبخرة اشعلت الفحم بيديها مرت بارواح الجاوي والمستكة وفاحت روائح اللبان في مراراتها في الأنحاء ثم عادلت المر بمعتق العود الأصلي واخذت تنظر الى عطره لزيتي يتراقص على الجمر في غواية وعقدت طرف شال جدتها على العطر ووعدٍ قطعته لها قبل مماتها
ودعت المكان بنظرة متمهلة ترفقت بالأشياء حولها وغادرت متجهة الى اطراف البلدة في اتجاه التكية مبروكة تلهث خلفها حائرة
وصلت عقيق الى اطراف التكية وانعطفت الى اليسار ، لم ترها مبروكة وقد اخذ الليل يرخي سدوله على الناحية ، وهنا افترقتا ذهبت مبروكة الى التكية مباشرة بينما اخذت عقيق منعطف اليسار الى ما يشبه عش طيرٍ عظيم ونادت بصوت خفيض
( يا اهل الارض ، هذا يوم رد الامانات ، جئنا نطلب حقنا فيها)
وطرقت الباب طرقتين متتاليتين وقرات سورة التوحيد ثم طرقت الثالثة ففُتح شقا ً على قياس خطوتها ،ذلفت فيه عقيق وانغلق عليها، وقفت قليلا تحملق في الظلام حتى تعودت عيناها عليه ورات ممرين امامها ، خلعت خاتم الفيروز وربطته بطرف شالها الموروث عن النجيبة وخلعت عن كتفيها الشال ، لوحت به سبع دوائر ، القت به فسقط الخاتم وتدحرج جهة اليسار ، تكشف لها قبس ضوء آخر الممر، خطت ثلاث خطوات تجاه الخاتم وانحنت لتأخذه وهي تعتذر من الفص الحرلإضطرارها لرميه هكذا فالتمع عرق ممتد في الفص وضم رقة خنصرها الايمن واصبح براقا مضيئاً بذاته كانما له لهب ازرق
مضت عقيق بعد ان ارتدت شالها واحكمت عقال حجابها تمشي الهوينا في الممر المختار وهي تتلمس الجدارين اللذين يضمان الممر وتسمع ما تظن انه صوت ماء خافت وبعيد
بعد برهة ليست قصيرة لم تستطع لمس الجدارين فقد تباعدا ولم تستدل عليهما على امتداد ذراعيها ، تنفست بعمق وشعرت ببرد خفيف ولم تعرف ان كان ناتج عن خوف ألم بها من حيث لا تدرك او هبة من نسيم لفحتها ، لكنها استمرت تمشي وكي تقيس الوقت في الظلمة اخذت تقرأ يس بصوتٍ مسموع يؤنس طريقها ويجعلها تعرف المسافة وعند انتهاء (مبين) الأخيرة وصلت الى قاعة كبيرة في مركزها نافورة لا بناء حولها تنبع ما بين صخرتين من حجرٍ اخضر لامع تحسبه زمرد لولا قتامة في جنس الحجر وسمك ٌفي قطعه ونحته نتيجة جريان روح الماء المُهذِبِة حواليه
واما سقف القاعة فعالي لا يكاد البصر يصل لمنتهاه والسقف ذاته من بلور شفاف يكشف عن سماء يحتلها قمر يسعى الى بدر تمامه بعد ليلةٍ او اثنتين ،مضيء وبض مثل وجه عذراء في أوجها وتتراقص حوله نجوم في كوكبات متغيرات كل مجموعة ترسم رمزا عصياً الا على أهل العلم
تقدمت عقيق نحو النافورة والقت السلام فارتفع الماء وقفزت قطرات الى شفتيها ،شربت عقيق القطرات وارتوت من سلسبيل عذب لم تذق مثله من قبل ، حمدت الله وشكرت النافورة واخذت من جيبها مسبحة قديمة مكونة من ثلاث وثلاثين حجر يسر اسود معقود على خيط حرير عتيق ما مسح حد الحجر ولا صقله صانع بل اخترقته دودة القز بذاتها وانتخبته كي تنظم حريرها قيدا لليسر وختمته بموتها في عقدة مربوطة على الحجر الأول عود من بدء وكانت السبحة خشنة مدببة الأطراف جواهرها حين اهداها عراف الى النجيبة على ان تصقل حجرها بالتسبيح فإن اهملتها ستهجرها السبحة هكذا قال وهذا ما فعلت النجيبة اكتفت بها وأدمت اصابعها في التسبيح بها حتى استدار الحجر واستطاب الملمس
اخذت عقيق المسبحة وغمرتهافي النافورة وهي تسال هل قبلتها يا صاحب النبع…؟
وبينما عقيق تنتظر إجابةٍ ما ، وقد اتت لهذا المكان عن دراية وبوصية ٍ متكررة من جدتها النجيبة صباح يوم منيتها وبعد ان جرح قلبها الحلم الذي بعثر امانها وقد استدعتها للخلوة تودعها وتستودعها الله ثم انها امرت السيدات حولها بالخروج من الخلوة واخذت يدي عقيق بين يديها وقالت لها
( بعد ان افارق هذا الفضاء ، سأكون في النور والسلام كما وُعدت فلا تقلقي علي، اما انتِ يا ابنتي فقد تواجهين ما تظنينه صعباً وهو على الله يسير فإن أُغلقت دونك السبل وضاقت الأرض عليكِ فأخرجي لهذا المكان المرسوم على الخريطة هنا واشارت الى رقعة رقٍ بجانبها، واعلمي ان هذا المكان لن ينكشف لمخلوق سوى من يتختم بهذا الخاتم الذي وهبتك فلا تخلعيه في حلٍ ولا ترحال ثم انه لن يظهر نفسه الا لو كنتِ وحيدة لا يتبعك إنس ولا يخاويكِ جان، واعلمي ان قدرة الله فوق كل شيء وان قدره ماضٍ فيكِ كما في كل ما حولك في هذا العالم ، وبذات القدرة منح الله بعض المخلوقات اسراراً وحملهم امانتها واوصاهم ان لا يمنحون هذه البركات الا لمستحق ، وقد صادفت من نعمة الله في حياتي بعضهم وثاءب ان لي لديهم مكانة الصاحب في قلب صاحبه على الخير والشر لا يخذله ولا يبيعه ، وكي يعرفون انكِ اناي الصغيرة وانكِ سر خلود اسمي بين العالمين وابنة روحي فيجب ان اترك لديك اثراً عني يعرفونه ، ووضعت النجيبة المسبحة في يد عقيق وأخبرتها بقصتها وأعطتها بعض دلائل واشارات لتتعرف على ما هي مقبلة عليه اذا احتاجته
ثم انها حذرتها من البوح لأحدٍ بما دار بينهما الآن وايضا بعد ان تأخذ مرامها ان اراد الله وقالت لها ما اُمرنا بالتكتم على طلب الحاجات عبثاً يا ابنتي لكل صلاة روح تتصعد الى السماء تسبح وتطلب حاجاتها فإن عرفوا عنها شياطين الأرض أو حمقاها لا فرق كبير تعلقوا بتلابيبها وحاولوا اسقاطها )
هذا ما تذكرته عقيق وهي تنتظر ما لا تعرف
في هذه الأثناء انفتح شق على يسار عقيق وسمعت حفيف ثوب وحركة واستدارت ولا تزال يدها معلقة في النافورة والماء يعانق الحبات ويراقصها وكان الضوء والظل يتناوبان على تقبيل وجه القادم من الضوء لظلٍ تمكث فيه عقيق التي لم تتبين ملامح الشخص ولا تستطيع التقرب منه حتى تُقبل المسبحة وعندما وصل القادم الى مسقط ضوء القمر تعالت دقات قلب عقيق وشهقت شهقة عالية ثم صرخت …
اقترب الرجل من عقيق وهي تجاهد الظلام لتتبين وتتأكد من ملامحه ، انه هو او توأمه، ذات الملامح انما ليسا نفس الشخص ، ولما همت بالسؤال همس الرجل
( نعم يا ابنتي، انا مجنون القرية ما تطلقون علي هناك وانا صانع النبع هنا وحارسه، وانا خالك لجدتك ، اخ السيدة النجيبة رحمها الله ، جئت معها من وراء الخليج مختبئاً في صندوق عرسها ، عينتني والدتي على ابنتها في الغربة وصي ولبست عليّ السواد امام العباد في بلادنا ، كنتُ حجر الظهر للنجيبة وخاتم الجلب، وكنت الشقيق المشفق والأخ الحنون والعزوة الحامية ولولا شبهاً بيننا واضح في صبانا لما صدق جدك روايتنا ولظن فينا الظنون، علمني ورباني وهذبني مثل ابنٍ له ، كفلني واوصاني بأن اكفل ما يهم محبوبته في غياباته وكان ما كان وتُوفي رحمه الله ولم اشأ ان اكون طوع بنان لأحد فأدعيت الجنون ووجدت في ذلك راحة وحرية وفسحة وسهولة حركة ، لم يكن احداً ليهتم بجهة سيري ولا بكتابٍ احمله او عربات صخر اكسرها من الجبل القربب وآتي بها هنا الى صحراء الغرب كما نسميها واخذت احفر نبعين منذ سبعة وعشرين عاما او يزيد ولم اعد اهتم بقياس مدى التوغل في الأرض بحثا عن ماءٍ بعينه به طعم من معدن الفضة وتسري فيه ومضات ضوء زرقاء ملتهبة فإن اغتسلت به في البرد كان دافئاً وان اتيته في القيظ اصبح العذب البارد من زلال صافي وان طلبته للشرب وبك داء شافاه بإذن الله وان لمس جرحٍ او قرح شفاه بقوة اسم الرحيم وقد ملكنا خرائطه ونعرف انه هنا لكنه لا يُنال الا طواعية ، يكشف عن نفسه او لا يفعل وقالوا في كتبنا ان هذا النبع اختفى منذ وفاة نبي الله سليمان وفي اثر الفوضى التي عمت آنذاك وانه تفتق وانكشف لبعض الصفوة في نخبة الزمن وامروه بالبقاء ساكنا حتى تأتي فتاة مختارة لها اسم مشتق من جبل النور القائم في طِوى وعندما تعرفت جدتك النجيبة على العلامات وتاكدت من صدق النبوءة حجبتكِ وحددت خطوك ففي كل بلد وراقون يتناقلون حرفة التدوين ويجرحون معاطف الأسرار ويخلعونها على الملوك والسلاطين طمعاً في سلطة او خوفاً من بدد وان سمع عنك احد تقاتل العالمين ليحظوا بك ، لذا وبعد ان فهمتِ كل شيء يجب ان تثقي بي وتتبعيني اخرج بكِ عنهم وليكن ما هو كائن)
كانت عقيق تحبس انفاسها مصغية بكل حواسها لجانب آخر من حكايتها ما عرفته الا اللحظة وتساءلت ماذا يخبيء اها بعد جراب الزمان وبينما هي مطرقة تتأمل اخذ بيدها المجنون كما لا زالت تدعوه في داخلها وادخلها الى غرفة متوسطة وقال لها نامي قليلا واستريحي فإن استيقظت وفي يدك رد فنادني وان لم يكن فعودي لما كنت فيه ولا تقلقي سيخبيء نفسه الطريق ويخفي ذاته النبع وانا معهما اينما حلا
قد يتبع
غفت عقيق بعد ان تجددت وصلت الفجر ومن ثم تبعته بصلاة من ركعتين تطلب فيهما اشارة الفأل ودرب الخروج من خندق الحيرة التي تناوبتها واستنكرتها لإن النجيبة لم تذكر لها الاخ ولا قرنته بالمجنون ىلم تر في حياتها علامة واحدة تدل على كا يجمعهما ، انما تطابق باقي الأمر والخريطة والخاتم والنبع ثلاث اثافي تُركز المعنى وتشعل حس الإقدام لديها هي التي تعلمت كيف تطيع حدسها وتتبعه
في الغفوة زارتها السيدة ، ضمت راس عقيق الى صدرها وقرأت عليها (الم نشرح) ومسحت على رجليها ممرة المسك والصندل وخطت بماء الزعفران المحمر على كاحل قدمها اليمنى مثل خلخال يعانق الخطوة حروف تتجمع في صحن الكاف من الكمال والهاء من الهداية والياء من اليُمن والعين من علو والصاد من الصبر
وهمست في أذنها بصوتها المهيب ( لا تحزن فإن الله معنا)
فزت عقيق مضطربة ، لم يكن حلما هذا الذي كانت فيه ، كانما خطفتها يد الى عالم آخر له طقس لم تره من قبل ونور يضيء المكان من دواخل البشر فيه واصوات تترنم في دعةٍ وهدوء ، اتاها النبأ اذاً هذا ما فكرت فيه فزال ارتباكها، تحدثت الى انعكاسها في الماء وهي تنثره على وجهها المشرق ، ثم قالت بصوت مسموع فرح
يا خال اُذن لنا بالمسير في الدرب الذي اخترنا
لديها اليقين بأن رحيلها واجب يلزمها تحقيقه وانه الصحيح من الدروب ، تعرف ايضا انها اختارت الطريق الوعر البعيد المتعب ، هدفها حتى البارحة كان التحرر من عُرف القبيلة وحكم ابيها عليها بالزواج ممن لا تريد، لكنها الآن وقد انفتح لها الجدار وخرجت الى نور القمر الساعي الى اكتماله ، لا صحبة لها الا خال لم تعرف عنه الا ما قاله ، متفائلة بحلم او نبوءة اتتها بأنها ستصل الى ما تبتغيه ، لا مال ولا زاد عارية عن النسب الحامي والعزوة التي لم تتكيء عليها عندما بُذلت لها وتخلت عنها طواعية ، كل ثيابها ما ترتديه وكل متاعها خاتم فيروز وعباءة جدتها وعصا وضعها في يدها الخال في اول خطوة وقال لها عندذاك
( لسنا وحدنا، لن نكون ، هذه العصا لا تفارقيها ولن تفارقك، ان حدث لي شر من هوام الليل او وحوش النهار او جنس البشر لوحي بها ثلاثاً وستنجين معها بإذن اللطيف الخبير) ثم دخل الى صمت متلثما ً يهم امامها ولا يلتفت وهي تتبع خطوه
قبل ان ينتصف النهار ، وجدا واحة صغيرة ، استظلا تحت نخيلها وشربا من نبعها ووجدا قرب النبع قربتين من جلدٍ محروق ، منقوش على جوانبهما كلمة (الواهب) ، اخذهما الخال وتفرس فيهما حتى رأى ما اراد ، ثم عسلهما وملئهما بالماء ، وربطهما الى حزامه ، وبينما هي تراقبه لمحت رجلا يتقدم نحوهما فقفزت الى الوراء متوفزة، حتى اقترب فاستشعرت طمأنينة ، اندهشت لهدوء الخال حين وضع الغريب يده على كتفه وأدار جسده له ، كأنه ينتظره ، تعانق الرجلان بلا حديث وابتسما لبعضهما وأومأ لها الرجل يقرأها السلام ثم نادى بلغة غريبة وبلحن مختلف وهو يلتفت الى الوراء فاقترب ثلاثة من الرجال وجارية يمسكون بعنان ثلاثة احصنه طيعة ، تزودوا بالماء وبعض الرطب والنبق من نخيل الواحة وسدرتها وكان قد اتى العصر
اقتربت الجارية والذي عرفت عن نفسها بإسم (سلمى) من عقيق واستاذنتها ان تإخذ بيمناها ، تناولت اليد التي تتمسك بالعصا واركزتها في الرمل الحر الذهبي ثم اخذت تدور حولها وتُدير معها العصا وي بين اصابع عقيق ، ثم اوقفتها ورفعتها عن الإرض فوجدوا سهما يشير الى الشمال
ترأسهم الخال ووضع عقيق خلفه وسلمى خلفها والغريب في آخر الصف يمشون في الجهة التي عينتها العصا والرجال يمتطون الخيول ويدورون حول القافلة الصغيرة
استمروا في المسير حتى غابت الشمس ، جمعوا بعض الحطب واشعلوا نارا وجلسوا حولها في صمت ، كل غارق في افكاره حتى سمعوا صوت آدمي يصرخ ويستغيث
طلب الخال من رفيقه ان يتفقد الصوت ويغيث المستغيث ، أخذ الرفيق معه احد الرجال وذهبوا جهة الصوت ، غابوا بعضاً من الوقت ، عادوا ومعهم امرأة وولد صغير في سنينه الأولى محمولاً على ظهرها وشيخ كبير يسنده الرجلين ، اجلسوهم حول النار ودثروهم بما وجدوا ، اطعموهم بعض النبق المتبقي وقليل من الماء ولما استراحوا قليلا
قال لهم الخال (آنسوا ليلنا بحكايتكم وسر خروجكم الى الصحراء )
كانت لهم هيئة من عبر في حياة مترفة وهينة ، لم تنل الصحراء منهم بعد ، تنهد الشيخ ، صمت قليلاً ثم قال
( كنت شيخ قبيلة تسكن اطراف الجبل الخامس ، ورثت المشيخة كابر عن كابر ، ما اجتهدت لها ولا تغيرت فيها، وكنت اظن المجد خالد والسلطان مقيم فينا ، نزرع ونأكل ، ارضنا خصبة ولنا سيل يكفينا الظما ، وفي ارضنا عرق ذهب كريم يجود كلما عازنا المال ، وكنا عوائل محدودة العدد ، ارسلنا الشبيبة للتعلم في الجانب الآخر وعادوا بأنواع الحرف والعلوم فأزدهرنا وطاب عيشنا حتى آمنا ان حظنا وافر وبقاؤنا مضمون ، زاد فينا الترف وتمرغنا في نعمة الوفرة سبع سنوات حتى لم يتبق لنا ما نطمع فيه او نطمح اليه ، لي من الدنيا زوجة حبيبة استنجبتها هذه الإبنة التي تصاحبني وتوفاها الله ، زهدت في الزواج وعشت حياتي منقطعا لإبنتي ، سعيد بما حولي، يحبني اهل مشيختي واقيم بينهم في عدل ومحبة ، حتى زارني نخاس في العام المنصرم في وقت الحصاد، لديه ثلاث جواري ملاح وعرضهن علي ، دخلت في خاطري اقلهن جمالاً واكثرهن هدوءا ً واكبرهن سناً لأنني احسست بها مختلفة وكانت نظرتها لي تحمل مودة فائضة ، طلبت ان اتحدث اليها على انفراد فأخذت لبي بصوتها وجرسه وكلامها الذي سمعته بقلبي ، مختصر الحديث، اشتريتها بما طلب وجازيته فوقها ، وعشنا اربعين يوما لم تخطر لي على بال ، لم أكن لأتخيل انني في الارض ، اعتبرتها كائن ارسله لي المولى من ارض النعيم ، ثم عتقتها وتزوجتها رغم معارضة ابنتي وزوجها ومن حولي ، وبعد وقت قصير بدأت المصاعب في بلدتنا، اول الأمر اتتنا جيوش من الافاعي لا نعرف كيف ولا لماذا ، بدأت تقتل الناس وتقرصهم في نومهم ، لم يبق بيت الا واقام العزاء في حبيب او قريب، قالت لي حاشيتي، هذه المرأة شؤم ووبال، عارضتهم وامرتهم ان يجتهدوا في اعمالهم ويجدوا جحر الأفاعي ويدمرون بدلاً عن التمسك بخرافات واساطير لا تحل ولا تربط ، بعد ايام وجدو جحرا قد امتلأ ببيض الافاعي السامة ودمروه وحرقوه ىقتلوا الافعى الام الكبرى وارتاحت العامة قليلا حتى بدأ وباء آخر ، اصبحت الارض مسكونة بالآفات، وانتشر الفساد في الثمر كما النار في الهشيم وبدأ مخزوننا ينقص ، توافق ذلك وتاخر قوافلنا في الوصول بما نستورده من الجانب الآخر من الجبل ، ولم يعد من خرج من الفرسان للبحث عنها ، تضورنا من الجوع وانحسرت ايام الرخاء سريعا، تململ الناس وبدأوا بالثورة على الوضع وطالبوني بتطليق المرأة وحرقها واتهموها بالسحر وهي صامتة لا تجيب احدا ولا تتحدث حتى معي ، وبعد ان انتشر مرض غريب يبدأ بالحمى ثم يذهب بعقل الرجال واصاب زوج ابنتي ورئيس جيشي ، تجرأت وسألتها ، استمهلتني في الرد ودخلت الى غرفتها وعندما خرجت ، رأيت امرأة مختلفة لا تشبه من احببت واصطفيت ، توجهت لي وانا في الفجاءة وقالت،( سيأتون لسلبك كل شيء عاجلاً فان كنت تريد النجاة سأسمح لك بالخروج بما ترتدي انت وابنتك وحفيدك وسأكذب على سيدي واقول انني قتلتكم فإن لم ترد الموت حقا لا تعود ولا تربي حفيدك كوريث لما تظن انك تملك، تذكر انك ولدت بلا ميزة سوى ميراثك وانك ما تعبت فيه ولا له فتخلى عنه وفز بحياتك) لم افكر ، هرعت لابنتي الحزينة وولدها الذي امرضه فقد والده واخذتهما معي ومشينا كل الوقت حتى انتهى ما اختلسته من طعام وشراب وبدأ الطفل يغيب عن وعيه وآنسنا ناركم فصحنا نستعطي الله الغوث مما نحن فيه، هذي حكايتي فإن اردتم رافقناكم ، لن اعطلكم او اعيقكم، نطلب الصحبة للعزوة والأمان فإن اصبحنا عبئاً علينا تخلوا عنا في اقرب واحة ، فقط ارجوكم دعونا معكم نحتمي بكم من مجهول هذا الليل )
قالت عقيق لنفسها ( لم تعد تفاجئني هذه الحكايا ولا اريد فقد ايماني بقلوب الناس ايضاً لذا لا بد للخال ان يقبلهم بيننا وان تاخرنا بهم قليلا)
بادر الخال بالرد وقال( اهلا بكم بيننا ، سنصحبكم معنا بلا شرط ، ما يكفينا يكفيكم)
وهكذا غفت القافلة الصغيرة وتناوبوا على الحراسة حتى باغتهم الفجر وقاموا له وبدأوا في السير جهة الشمال يتتبعون خريطة تتغير قي ايديهم وترسل السهام يمينا ويساراً ووصلوا الى مشارف بلدة صغيرة بعد مسيرة نهار وقبل الغروب بقليل ووقفوا ببابها ينتظرون الاذن لهم بالدخول
يتبع
خرج على قافلة العقيق بعض حراس المدينة عند افتتاح بابها في فجر ذاك اليوم وبعد التمحيص والتفتيش أدخلوهم الى البلدة، قايض الخال احجاراً كريمة يخبئها في حزامه بالطعام ، ذهبت عقيق والنسوة الى سوق البلدة ليطلعن على المكان ، ثم تلاقوا في ركن السوق وجلسوا ينتظرون الخال الذي اخذ الشيخ كما طلب منه الى دار الأمير الذي كانت تربطه به مودة ، أُذن للشيخ بالدخول وانتظر الخال في باب الديوان ،بعد قليل خرج له الشيخ مستبشراً ، شكره كثيراً ووضع في يده صرة مال رفضها الخال بتهذيب شديد متعللاً بأنهم قوم لا يأخذون اجراً على اغاثة الملهوف وذهب من حينه يحضر الابنة والحفيد ويصطحب بقية القافلة خاصته فدخلت ابنة الشيخ وولدها الى جهة السيدات ووقف باقي الصحبة بالباب يودعون الشيخ كي يكملوا مسيرهم
وبينما هم في حديث معتاد في الوداعات ، اقبل عليهم فارس يمتطي فرساً ادهم بري خاضع ليد لجامه ، ترجل الرجل عن فرسه وربطها في عمود مدخل القصر ، وهم بالدخول حين صهلت الفرس ، التفت الرجل كانما يعرف ماذا تريد ونظر الى يمينه ، التقت عينيه بعيني عقيق ولم يك يظهر من عقيق الا عينيها ، احس برعشةٍ غريبة في قلبه ، اتضحت في عينيه تلك الرجفة التي هزت جسده الممشوق ، اسبلت عقيق رموشها الطويلة الداكنة خفراً وهي تشعر للمرة الاولى بميل نحو قرين محتمل ، واخذت تتساءل
(كيف يكون لي ذلك وانا الشريدة بعد تمكن ، وهل يكون الوقت مؤاتياً ونحن في ارتحال ، نسكن في مقام الصبر ، حتى تصلنا اشارة الوصول الى دار النور والسلام )
اثناء تفكيرها انتبهت الى انها بقلبها عرفت اين سيصلون وعلام يبحثون رفم انهم لم يتداولون بينهم هدف ولم يخرجوا الا لنصرة عقيق وحمايتها من الزواج ممن لا تريده ، يحملون عبء ذنب ارضهم واهلهم هناك ولا يدرون ان هم دخلوا في اهوال حرب او تم العفو عنهم ، فلا خبر اتى ، ولا روح حضرت من هناك تطمئنهم فكيف لقلبها المهموم بكل هذا ان ينبض هكذا لغريب يترجل عن فرسه لا تعرف عنه شيئاً ولم ترى ملامحه بوضوح حتى
وبينما هي في صد ورد ، غارقة في شرودها ، اقبلت عليها جارية مليحة وقراتها السلام ثم قالت لها ان سيدة البلدة وزوجة اميرها تريد ان تتعرف على سيدات القافلة وان الامير قد أمر القافلة ان تمكث في ضيافته الليلة فأن ارادوا متابعة المسير في فجر اليوم الثاني فلهم ما ارادوا وإلا فللضيف ثلاثة ايام بلياليها لا يُسئل فيها عن شيء
عبثاً حاول الخال ان يعتذر ولم يكن من اللائق الرفض كما ان عقيق رأت في نفسها الرغبة في البقاء يعتريها الفضول نحو هذا الفارس الذي شعرت بالاطمئنان له وهكذا قبلوا المبيت والعشاء ، اكرموهم فوق الوصف ، وعاملوهم بما يتناسب وكرم الأمراءالأصيلون وبعد ان فرغوا جلست النسوة الى زوجة الأمير وجلس الخال ورجاله الى الأمير وبدأوا يتجاذبون اطراف الحديث
بعد ان انتهى بهم السمر وتجاوز الوقت منتصف الليل ، ارسلت زوجة الأمير الى زوجها ما يخبره بأن من وفدوا عليه هم عقيق وبعض تابعيها ، وكانت عقيق مشهورة في انحاء البلاد بثقافتها وحسن تعليمهاوحكمتها وحسن ٌ مُتخيل حيث انها لم تكشف حجابا ولا تخلت عن لثاماً كل سني عمرها ، الا ان بعض جواري الاميرة لمحوا وجهها عند التجدد لصلاة العشاء وهم يصبون لها الماء وأسروا للاميرة بما لمسوه من ملامح دقيقة ووجه قمري وبشرة طفل بضة مشربة بياضها ناصع خلاب وحمرة خديها تنافس الجوري وتنبض بالعافية والشباب ولها عبير مسك أبيض كلما تحركت حمله الهواء لما حوله ، عبيرٌ أليف لبدنٍ طاهر عفيف وعفيّ
لم تستطع الأميرة كبح جماح فضولها وسألت الفتاة مباشرة واجابتها العقيق
(لم نتخف لخزي نخفيه ، او مطمع نستلبه، ولا عمداً فعلنا،اخذنا الطريق الى الشمال حسب البشارة التي وُعدنا بها، ان تصل بنا الدروب الى مكان قريب من السماءمتصلٌ بها ، فيما بين بين ارضنا هذه وأرض لا خوف فيها ولا حزن ، لا جبر فيها ولا قسوة، اردنا النور والسلام واتبعنا قلوبنا وتدرجنا
بدأنا بالتخلي عن الزاائل وأقمنا في مقام الزهد في ما يطمح له الناس، وحملنا يأسنا الى مقام الفقر حتى وهبنا الله ما يسره من ماء وثمر ، تجاورنا ومخلوقاته التي لا تحمل هم زادها ، ومكثنا في التوكل مقامنا الدائم ، يكفلنا من لا يغفل عنا ، نسير في مقام الصبر حتى نصل اذا حملتنا مشيئة له وحده بين الكاف والنون)
ادهش الاميرة ما قالت عقيق ولم تعرف ما الذي قد يُقال الآن وبينما هي تتفكر في حيرتها ، وصلها رد الامير قائلاً
(كريم وفد على كريم ، احسني اليها ، وعامليها مثل ابنة او افضل واسأليها ان كانت تريد الإستقرار في حمانا ، فإن أخي الأصغر (راصد) يريدها زوجة له بلا شرط، واخبريها ان وافقت فلنا عند اعداء ابيها حظوة وقدر لا يردون لنا حكم ولا يمنعونا من حد ونحن بإذن النصير سننصرهم ونحقن دماء قبيلتها ونكون عزوتها وسند ظهرها هي ومن تبعها)
فتحت الأميرة باب الحديث عن الزواج وعن الإمير الصغير فردت عقيق
( من بعد امتناني لكم و شكري اياكم وتقديري لحسن ضيافتكم وكرمكم الجم ، لا بد لي ان اتحدث للخاطب واسئله بعض الاسئلة، ان اجاب كما اتمنى لقريني سأقبل لكن الشرط الأول ان يرتحل معي ويترك بيت امارته ، فإن كان على أهبة الاستعداد لتوديع عرشاً ورثه ليمضي معي في سفرٍ لا يعرف اين يصل به حتماً فسألاقيه واختبره وله ان يختبرني وان لم يرد الرحيل فلا يجب ان ندخل في اي اختبارات)
ارسلت الأميرة جواب عقيق ، قال الإمير سننام الليلة وللصباح عيون نرى فيها الأصلح
لاقى شرط عقيق هوى في قلب امير البلدة ، تنازل اخيه يعني خلافة ابنه بلا حرب ولا دم، وسيكون له ان يحاول امام شعبه اثناء الامير الصغير عن اللحاق بعقيق ، لكن ماذا لو لم يرد الأخ ذلك ، قال لنفسه دعنا لا نستبق الأمور ولعله يلحق بها ويتبع دروبها وعلى الارجح سيفعل ، فهو رغم فروسيته وشجاعته الفذه الا انه فتى غريب الطبع يأنس بالصحراء وعشرة الوحوش ويمكث في العزلة اكثر مما يقضيه بين الناس ، لم يجتهد لإكتساب ولاء المشايخ ولا ذوي الشأن والثروة في البلدة ، انقطع لكتبه العجيبة ، لا يهمه من القوافل القادمة الا تلك الأوراق الصفراء يتزود بها ويوصي التجار ان يأتوه بها من الهند والسند وبلاد النهرين، لم يترك لغة لم يتعلمهاحتى قالوا انه يتحدث والطير الجارح والحمام النائح ويعرف مفاتيح الكواسر وما زحف في الأرض وما اختبأ فيها ، وهذا الشأن كله لم يقلق أخيه ولم يهييء أخيه للإمارة فالناس تهاب الحديث اليه وهو الصامت دوماً وقد ينقضي اليوم كله وهو في السكوت لا ينبس ببنت شفه ، لا يرفع بصره ولا يجذبه احاديث الرجال المعتادة.
عند الضحى نادى الأمير على اخيه ، اتى الأخ بثيابه البسيطة ، يغنيه عن الزينة شبابه الغض ووسامة في وجه تسر الناظر اليه وطول ليس لاحدٍ من جيله وقوة في عضده وهيبة في طلته وبعد ان قبل تحية اخيه الاصغر واجلسه على يمينه في حضرة. وزير البلدة الاول وقاضي قضاتها وأعيانها ثم قال بصوت مسموع واضح
( تقدمنا بخطبة الفتاة التي رغبت ان تتزوجها ، وكان لها شرط لا اقبله) تنحنح الأمير وترك مساحة صمت للتساؤل والفضول ولما لم يرفع اخيه رأسه بل بدا عليه الإنصات بهدوء كأنما هو واثق ان الشر. لن يحول بينه وبين بغيته
أكمل الحديث (طلبت اليك طلبين ، اولهما ان ترحل بمعيتها متخليا عن حقك في خلافتي ، وثانيهما ان تراك وتختبرك بنفسها …… ما ردك ) ثم استدرك الأمير بعد ان علت همهمة القوم (لا يجب ان ترد الآن فضيوفنا سيكونون بين ظهرانينا حتى بعد غد …)
لكن الأمير الصغير رد بهدوء صافي كأنما يعرف الشرط ويوافق عليه ( لا بأس فلتختبرني متى شاءت ، ولتعين موعدا ومكاناً نلتقي فيه ، اما الإمارة فيشهد الله أني لست بساعٍ لها ولا اظنني استحقها ما هي الا مثل متاع ورثته ، لم يخترني فيه الناس ولم يكلفني به احدهم ، ولست مخولا ً لإقامة العدل فيهم او الحكم فيما بينهم ، هذا الأمر متروك لهم )
انزعج الأمير من اخيه وطريقة الرد لكنه حاول ان يتجاهل ما تبطن في كلامه وطلب حالا من وزيره الأول اعداد الوثائق اللازمة لتنازل اخيه
قال القاضي (لربما لم يجتز الإختبار فلنؤجل ذلك يا رعاك الله الى ما بعد التأكد من قبول الفتاة به)
رفع الامير يده حانقاً وقال ( لقد باع ملك ابيه لحظة ان قبل شرط الفتاة وفضلها علينا)
حدثت بعض البلبة في المكان والناس تتهامس بينها حتى قال (راصد) الامير الصغير
( انا موافق على ما أراد اخي حتى وان لم تقبل بي العقيق، وان لم ارحل معها كزوج سأرحل مع القافلة كرفيق سفر وابحث عن ما يبحثون عنه فلا تختلفوا فيما انا راضٍ به ومقبل عليه ومرتاح له )
وهكذا تنازل راصد عن ميراثه كله بهدوء واصطفى خيله الادهم وخاتم لأمه أهدته اياه قبل وفاتها وعباءة البسها اياه والده في يوم ميلاده السادس عشر
سمعت عقيق من الجواري بهذه الأخبار، شعرت بالسعادة لذلك رغم اندهاشها وتعجبها من نفسها ، لم يسبق لها ان انحازت دون تفكير وتفكر لاحد خاطبيها على كثرهم ، لاول مرة تنظر عقيق الى نفسها وتنتابها الحيرة ، واخذت تتساءل والنوم يجافيها ، اهذا ما يسمونه العشق؟!
يتبع
اتى الموعد المنشود ، اخذ الخال بيد راصد الى عقيق ، ترك الباب موارباً ووقف به، كانت عقيق واقفة بحجابها في إستقبال الأمير الصغير يخفق قلبها للمرة الأولى خوفاً من تخييبه لظنها ، واجدة في نفسها ميل للفتى ، تمنت في تهجدها كل ليل البارحة ان تأتيها بشارة ما ، رؤيا من السيدة النجيبة تدفعها له، تبارك خطوها نحوه، تخبرها ان تثق في قلبها ، أليس هناك بعض الأمور التي لا نطيع العقل وحده فيها، ولو ان عقلها هنا لا يرفض الفتى بل يحيد عن الحياد وهذا ما أخافها
بعد ان ادى التحية بما يليق برجل مهذب ، وردت عليه بصوت متماسك لم يعكس رجفة قلبها بينما ارتبك هو في حضرتها ، وتنفس اريج عبقها الذي لم يتعرف عليه من قبل الا حولها، ومنى نفسه بأنها ستكون له
استأذنته بادبٍ جم بأن تبدأ وأشار لها برأسه ان نعم
قالت له
من أنت؟
قال
عابر في زمانٍ عابر
سألته
ما اقرب شيء اليك؟
رد
من وهبني هذه الروح
قالت
ايهما ابعد الأرض ام السماء؟
قال: الأرض أبعد من السماء
سألت : ما الذي يوجد في البر ولا يوجد في البحر؟
قال: العقيق انتَ وتنفس عميقا فصمتت برهة تلملم شتات روحها
ثم سألت:ماذا يبكيك؟
قال: خوفي مني
قالت: لو فقدت مالك وسلطانك وتخليت عن كل شيء ما الذي ستملكه بعدهم؟
قال: ما ملكته لا افقده ، انما تخليت عن ما قد يملكني
قالت: لم اخترتني دون النساء قرينة لك؟
قال: لقد بُشرت بعينيك في رؤياي وتعرفت اليهما في لحظة وعيي وأدركت في لقائنا الأول اننا خُلقنا لنترافق في هذا الدرب ، قدري ان اكون سند ظهرك وفارس يذوذ عنكِ ، كنت ناقصاً ابحث عن اكتمالي في عزلة من الناس حتى رأيتك ، اكتملتُ في وجودك، وان لم تقبلي الاقتران بي فلا قدر آخر ينتظرني الا اللحاق بكِ في الطريق الذي ولدتِ له ، وربما وُلدنا جميعا لذات الغاية التي عينتها في داخلك سهلة وواضحة واستغرقتني عمري كله كي اتعرف عليها وعرفتها الآن ولن اتخلى عنها.
حل الصمت وارادت وهي تحادث نفسها ان تزف اليه القبول بنفسها ، لكن منعها الحياء وخشيت ان يفضح فرحها صوتها فقالت له بصوت خفيض سمعه في قلبه:
سيأتيك خالي بجوابي بعد قليل فلا تبتعد
هبت واقفة ، ووقف قبالتها متبسماً وخاتم الحُسن في وجهه يشع بالنور فارخت بصرها ولم تعرف اين تذهب وهو ينظر اليها ورغم حجابها الا انها شعرت انها قد كُشفت له وهو لم يطلب ان يراها كما يحق للخاطب كل ما فعله انه واصل التبسم في هدوء واستأذن خارجاً بظهره حتى لا يصد عنها لحظة ذهابه
وقف بالباب وقال للخال بعد تحية تشي بغبطته : انا انتظرك في طرف القصر كي تبلغني رد عقيق الغالية مهما كان ، وأود ان ارجوك ان تقبلني معكم وان لم توافق عقيق فان فعلت سوف اباشر الاستعداد للرحيل بمعيتكم ، وافق الخال وذهب راصد ينتظر وقد دخل الخال على عقيق وأغلق الباب دونه
في آخر النهار ، ذهب الخال جهة راصد وبشره بالقبول ، وان عقيق وكلته ليزوجها راصد، اخبر رصد اخيه بما اثلج صدره حيث تإكد للأمير ان اخيه حقاً سيترك الإمارة ويرحل بعد ان وقع التنازل الرسمي أمر القاضي بعقد النكاح وشهد عليه هو ووزير البلدة الرئيس ، وأراد ان يقيم حفلاً كبيراً يطعم فيه الشعب والعابرين فرفضت عقيق وطلبت الإشهار بوليمة تُنذر للفقراء ومن تقطعت بهم السبل عند باب المدينة
زارت الأميرة زوجة الأمير عقيق واهدتها كيساً من الفصوص الثمينة وألبستها حلة عرس بهية بعد ان زينتها وأمرت بجناحٍ في القصر للعريسين ليقضوا فيه ليلتهم الأولى ويقيمون لثلاثة ليالٍ بينهم حتى اذا انتهت الثلاثة ايام لهم الحرية في الرحيل ووافق الخال وهكذا دخل راصد على عقيق في مخدعها ورأى وجهها بدر التمام للمرة الأولى وذلك بعد ان أصبحت حلاً له
تسمر راصد في المدخل وهو الذي اقبل بشوقٍ يقدمه وحياءٍ لم يستطع معه رفع عينيه لها ، شعر بها تقف في وسط الغرفة وفي يدها مبخرة تفوح بغمامات العود الملتاع على جمر الإنتظار ورائحة الورد الجوي والريحان تملأ المكان ، نادته عقيق بصوت خافت تهمس بإسمه (راصد)
وكأنه يسمع اسمه للمرة الأولى ، هز ندائها دواخله وارتجف قلبه وشهق ، كاد ان يتعثر ويقع ، ونظر لها من مكانه وبينهما مقدار ذراعين ونيف وتوقف الهواء ، حتى دخان المبخرة التفت واحاطهما على البعد، وجد نفسه يحدق بها في دهشة المأخوذ ، يتفحص ملامحها ولا يبعد عينيه عنها كأنما وجب عليه ان يحفظ كل ملمح ويحفره في روحه نقشاً ابدياً لا تنال منه السنين ، هذه الصورة المتجلية في حلمه العابر ووهمه المستمر تتجسد اللحظة في هذه الفتاة الرقيقة ، الشفافة مثل رسمٍ على ماءٍ مقدس ، بهذه العظام المستدقة اللطيفة في استدارة الوجه القمري في تمام لا ينقص والشفتين النابضتين بدفق الورد الدافيء يفضحان تسارع انفاسها والانف الصغير المنمق مثل حلية صغيرة سبحان ن صاغها والخدين فضة مجلية منثورة بأوراق الزهر العطر الاحمر واما العينين ، فصان من عقيق حر في بياضٍ صافي ، سهمان لو صُوبتا على وحشٍ متجبر لنخ وسلم لهما ، والشعر خميلة كستناء تظلل الناظر وتشقيه في آن ، منسدلا على حقين من عاجٍ يقع في الحيرة من ينظر لهما ويشعر بالظمأ من يلمحهما
طال بينهما النظر وقوفاً حتى انتبه راصد من سكره بعد حين ، دخل اليها ، رشته بعطر الورد ودارت حوله بالمبخرة وعوذته من عينها وكل عينٍ راته وناولته الاناء ليتجدد ويصلي ركعتي شكر لله وهكذا فعلت ، قضيا تلك الليلة في السمر وتبادل الاحاديث وبعض عناق على استحياء ثم خلدا للنوم دون ان يشعرا بعد الفجر وهما يحتضنان بعضهما كأنما يتعرفان على جسديهما كلٌ في حضرة الآخر، لا يستعجلا الوصال بل يتوقا ليكونا قانتين في محراب العشق جسداً واحداً يكملان ويكتملان ببعضهما حتى تكون الالفة وتتناغم القلوب وتتصل الاوتار
بينما كان العروسان في مخدعهما والناس تحتفل بهما اتى العسس بخبرٍ اسروا به الى الأمير ان هناك فرسان على مشارف باب البلدة يتقصون اثر بعض الهاربين ممن يخرج من البلدة ويستطلعون الاخبار
عجلٌ وعلى وجل نادى الأمير الخال واطلعه على ما نُقل له ، ارسل من حينه جارية تحمل كتاباً الى عقيق كتب فيه
(حان يا ابنة اختي الرحيل ، لا بد لنا من فراق ارض البلدة الى ارض الله الواسعة ولتتفرسي في الخريطة وتستشيري العصا وخاتمك ليدلك قلبك على جهة نأمن اليها ونسعى فيها الى مرامنا)
ايقظت عقيق راصد واستعجلته ثم قامت بطقسها وتهيأت ، في صحبة قرينها على ظهر الأدهم والفرسان الثلاثة والخال يتبعونهم بعد ان تزودوا بالقليل الذي لا يثقلهم حمله ولا يعوقهم نقله
وهكذا وقبل إنبلاج الفجر خرجوا من باب سري شرق االبلدة متاح للأمير فقط في حال احتاج الفرار بحياته من حصار او حرب ، كشفه لهم الامير ولم يكن يعرفه حتى راصد واخذهم اليه في عتمة خمائل متشابكة تشكل ظلالاً تحمي من سار فيها ، ولما اصبحوا جميعاً خارج السور سمعواصرير البوابة تُقفل دونهم ودار الفرسان الثلاثة دورة كاملة للتأكد ان احدا لم يرى مخرجهم ولا عاين باب نجاة الأمير ، ومشوا بلا توقف وفي صمت حتى توسطت الشمس السماء وابتعدوا مسافة معقولة ، رأوا شيخاً وولدين يسحبان دلوا من الماء ويصبونه في الرمل حول بئرٍ عتيقة فتوجهوا نحو الشيخ يبتغون دليلا وصحبة وبعض الماء
رحب بهم الشيخ ولكنه منع عنهم الماء واستمهلهم عليه ، ثم قام على شرق البئر يبني حوله ما يشبه الحوض ، والولدان يساعدانه وهو يعمل ويتمتم بشيءٍ لا يسمعونه بما يكفي للفهم ،، استراحوا حول البئر وغفا بعضهم بينما ينتظرون السماح من الشيخ ليتزودوا بالماء ويشربوا وخيولهم والشيخ على كبر سنه لا يتوانى ولا يتوقف عن ما هو فيه
يتبع
vBulletin® v3.8.7, Copyright ©2000-2025,