المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : وجهُ الرياض ..!


نبيل الفيفي
05-31-2020, 02:46 PM
ثمة قلق شفيف يشوب هذه الصباحات ، قلق تتجرعه المدن الصاخبة إن أُجبرت على الهدوء ؛ تمامًا كوجه جندي تحفز للقتل و لم يخبره أحد أن الحرب قد انتهت و أن السّاسة اجتمعوا ليلًا واقتسموا ولاءه و تضحياته ؛ لحظة الذهول التي ينتعل فيها رأسه باحثًا في وجوه من قتلهم ، عن أي وجهٍ من المفترض تذكره قبل أن ينام ليشعر بلذة الانتصار الزائف .
ما أكذب هذه الصباحات و الرياض تلوك باستهتار راقصةٍ - حُليّها الفرح و حاليها عنبٌ مسكر رائحته الندم - رجلًا يحاول إغراق المدينة بالغزل و الابتسامات القديمة و عيناه تتحاشى جثث الخطى المتراكمة على الأرصفة منذ زمن ، يقف بين فترة و أخرى .. يلتفت يمنةً و يسرة .. لا يرى أحدًا ... يرتعب ، تخونه قواه يحاول التماسك فتركله الفكرة .. .. يصارعها ليقف و يكمل هذا الهراء الذي اسمه الواجب ! ليكنس الوقت و يهيّء مساحة لينصّب نفسه "إشارة قف " و هو ينظر لازدحام السير المفاجئ و كأن الأرض أصابها تلبك معوي و لفظت كل هذه البشر ..
عويل سياراتهم تزمجر بالانحاء ...
غضب إطاراتهم تزيد حنق الطريق
... لا يراهم يذهبون لشيء و لا يسعون خلف أمرٍ يتحتم عليهم الخروج من منازلهم فجرًا في يوم كهذا و كأن عيناه ؛ المدى و انبعاثهم ؛ الريح يولدون من طرفها و يبتلعهم طرفها الآخر .
هذا الحزن الأبيض على المدن ليس للتوّ ! هذا الشعور القديم خفيف على روحي لا يؤلمها و لكنه يشغل حيّزًا كان باستطاعتي ملأه بصوت أمي ..
في مرحلة ما تنسلخ من نفسك و تراقبها من بعيد تراها كيف كانت ذا قالبٍ مرصوص باتساقٍ متقن و كيف كنت سترى العالم لو أنك حاربت بإخلاصٍ و لم تغرك محطات الانتظار و تلويحات العابرين و رسائلك التي لم تصل ، لم أكن لأعرف كنه هذا الحزن العفيف لو لم تقايضني مدينة كالرياض بغناء النساء و القصائد المسكوبة على أجسادهن حيث سلبتني رائحة الطين و ملامح أمي المرسومة في يدي حيث أنّ القرى أمثالنا لا تملك ما هو أغلى من الحنّاء و الطين و لهذه القناعة جذورٌ أطلت على صدري منذ زمن غير أنّي كنت فارغًا تمامًا إلا من الوقت ، الوقت الذي تسرب من بين أصابعي و أنا أنزف ملحًا أزرقًا كلما تعثرت بزيّ أحدهم العسكري ..
يسألني عن هويّتي !
و ما اسمي ؟!
و من أين جئت ؟!
و إلى أين سأمضي ؟!
كانت تدهشني أسئلته العفوية و أسبح فيها باحثًا عن صوت أبي بارتباكٍ لأعاتبه وهو الذي قال : أنت امتدادٌ سمرة أرضها ، و تجاعيد جبينك خُطى من فيها ، و رائحتك صوت نسائها ، و مساماتك تنضح بعرق رجالها ، فقط لا تنسى أنك منها و كل البشر سيعرفون أنك القرية ..
حسنًا ! لماذا لم يعرفني هذا المسكين ! و كيف تجاهل قوافل جدي عندما صافحته ؟ و لم تخبره من أين أنا ؟ لماذا لم يرَ أبي في ندبة وجهي ؟
... بينما يصرفني عنه و أنا أبحث عن هذه الإجابات لأرتطم بغيره و غيره و غيره ! إلى أن اكتشفت متأخرًا أن الرياض كانت تخنقني بطرقها ، بشوارعها ، بأزقتها حتى صرت أحدها ؛ طريقًا لعابرين كانوا في ذاكرتي و أغريتهم و رحلوا ! ، بَنت على صدري أحلامها اللامتناهية ، غرست في صوتي النشاز ، و أحالتني محطّة انتظارٍ مهجورة .
أووه عفوًا حبيبتي !
مرّ عقدٌ من الحنين و أنا أكتب الرسائل عن كل شيءٍ و أعنيكِ ! و أخونك و لا أبعثها إليكِ ، انتظر بادرة صلح مع الليل ؛ هذا الليل الذي يكرهني ، الذي لا يجيءُ بك و لا أستطيع الانفكاك عنك ، في هذا العمر يكون من المرهق جدًا أن تكون كمجلس كريمٍ لا يزوره أحد و يتغلغل في صدره حزن المكان و هيبة النار و رائحة القهوة ! أو تشعر كأنك يدُ غريب يتمشى في مدينة يجهلها تتعرق في جيبه لحاجتها للصفاح الطويل ..
أو تعلمين لماذا هذا الخراب كله ؟! و لماذا شاخت الكتابة و لم يعد لدينا خيارٌ بالتراجع ؟!
فقط لأنها اغتيلت الرسائل و شرّدت الطوابع و مات ساعي البريد و بقيتي و ظلّت فيّ الرياض .









رُبمـا !

نادرة عبدالحي
05-31-2020, 03:42 PM
الكاتب القادر على منح العمل الأدبي مشاهد وصورة وتشبيهات رائعة ، مميرة
هو الكاتب الذي ينجح بتقريب القارئ لأدبه ،
تشبيه حيوي غير جامد نستطيع أن نراه بوضوح ،
وكأن الأرض كانت تبتلع البشر فأصابها تلبك معوي ولفظت هذه البشر
بسبب التلبك المُعوي ،

كأن الأرض أصابها تلبك معوي و لفظت كل هذه البشر ..

ومشهد أخر لوقت يتسرب من بين الاصابع / ومشهد اخر بنفس الوقت نراه ينزف ملحاً أرزقاً في

حالة تعثره بزي عسكري ،

الوقت الذي تسرب من بين أصابعي و أنا أنزف ملحًا أزرقًا كلما تعثرت بزيّ أحدهم العسكري ..

الكاتب نبيل الفيفي فرح يُعانق النور لهذا الحضور الكريم والنبيل
سلم البنان / ننتظر القادم بشوق ،

سيرين
05-31-2020, 09:04 PM
وجه تتسلقه الحياة ويكسوه الجمال بعدما اصبح من معطياتهما
إرث فوضوي تزاحمت به الصور الابداعية وكانت اشبه بالكمال
قلم متفرد ذو عمق فلسفي ومحبرة ارهقت قارئها صعودا اليها
كم كان المكوث هنا متعة
دمت استثنائي الابداع نبيل الفيفي
مودتي والياسمين

\..:icon20:

قايـد الحربي
05-31-2020, 09:16 PM
:
:

ياااا نبيل الفيفي ..
يانبيل الحرف و نبيذه .
:
بدون "ربما" أؤكد لك بأنّ من تسكنه الرياض لا يغادرها
ومن يسكنها لا تغادره .. هي أشبه بمرضٍ تتمنّى أن لا تشفى منه ،
هي اللعوب المؤمنة / الوسطى المتطرفة ..
فتا(ت) ليل : شامسة !.
:
نبيل
حضورك رتّب هذا المساء والمكان ،
فلا تتركنا للفوضى من بعدك ..
شكراً تليق بك .

إغفاءة حلم
06-01-2020, 09:31 AM
نحن تناقضاتنا
تلك التي لا ينفي حقيقتنا اختلافها
نحن نبرة العناب الناصعة
في كف القلب المخضبة بالحب ..
ونبرة العناب الشاحبة والمتقشرة
في كف القلب التي خطف الفقد ضحكة خضابها ..


تصطاد اللحظة في تمامها يانبيل ..
لتدونها بدراً مشعاً يسرق انتباه الدهشة ...
بدراً لا يحتاج أكثر من حبيبة تشرع سماء نافذتها
ليطل في معية ملامحها ..
وشجرة ليل دانية قصائد نجومها لسلال رسائلك ..

د. لينا شيخو
06-01-2020, 03:12 PM
سرد رائع
هكذا تتراءى لنا المدن
دمتَ لرياضك أيها النبيل !

عوض احمد
06-02-2020, 01:31 AM
ما شاء الله عليك وعلى احساسك
يا نبيل يا أصيل يا جميل
احترامي وتقديري

نبيل الفيفي
06-03-2020, 05:14 PM
نادرة أحببت النص بعدكم ، أعني أحببته جدًا .





.. !

نبيل الفيفي
06-03-2020, 08:26 PM
سيرين ، و الحضور العذب .


..!

نبيل الفيفي
06-03-2020, 08:27 PM
و أنا الذي تمنيت منذ زمن أن أتقاطع معك في حرف .




..!

نبيل الفيفي
06-07-2020, 08:50 PM
العمرُ : لحظة .

ممتنٌ ، وهذه أيضًا :34:

نبيل الفيفي
06-07-2020, 09:03 PM
لا توجد مدينة مسالمة وفيها رجلٌ لا يجد قوت قلبه .

هذه لك :34:




..!

فيصل خليل
06-07-2020, 10:09 PM
الرياض بدون الزحمة لا تحلو
ك ربيع بدون ورد

نص جميل لمدينة القلوب

دمت بخير وعافية

ساره عبدالمنعم
06-12-2020, 08:13 PM
جميل جداً...

نبيل الفيفي
06-17-2020, 10:20 PM
ما شاء الله عليك وعلى احساسك
يا نبيل يا أصيل يا جميل
احترامي وتقديري

ليتني يا عزيزي ، ليتني

نبيل الفيفي
06-17-2020, 10:23 PM
الرياض بدون الزحمة لا تحلو
ك ربيع بدون ورد

نص جميل لمدينة القلوب

دمت بخير وعافية


" أحب كرهي لها "

.. المرور العذب .




..!

نبيل الفيفي
06-17-2020, 10:25 PM
جميل جداً...

ترينني من خلالك .




..!

عَلاَمَ
06-22-2020, 04:08 AM
.


يا لهذا القَلق
الذي يُجبر الرّوح على التواجد
مُحدداً مَأسَاتُها، مُذيلاً بُعدهَا بالتعَاطُف..!
ثُم يأمُرهَا .. بإن لا تثق.
كي لاتغرق في الضَباب، كي لاتُصارع الظُلمة وتختفي.
هكذا الرّوح..
تَتقلص، وتنكمش وهي تُجابه المَقاس الذي سَترتديه!.


،

شكرًا لحضرتك