تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : الشيــخ والمـثـقـف


عبود حمام
09-23-2007, 10:20 PM
الشيــخ والمـثـقـف

انور محمد

من الكفر والتجديف أن يتحوّل المثقف هكذا وبضربة واحدة من صوت يعبّر عن ضمير الأمة، إلى سوط؛ إلى جلاّد لها.
في المسرح اليوناني ثمّة جوقة صوتها وليس (سوطها) كان يعبّر عن روح الطبيعة، وكانت الجوقة التي هي بمثابة الضمير الشعبي في المسرحية، تتجسّد في هيئة (ساطور أو ساتير)، ساطور هو كائن/كائنات بين الآلهة والبشر والحيوانات. بل هي كائنات أشبه ما تكون بالجّن، إنّما اليونانيون كانوا يعتبرونها آلهة للغابات والجبال، بصفتها سواطير كانت تمثل آلهة (بكراً) للطبيعة، وتحوّلت اليوم في المسرح المعاصر إلى «سيخ معاش» يستخدمه الجزّارون في فرم وتقطيع لحم الضأن والبعير والعجول.
هذا السيخ/ الساطور ـ أيضاً صار المثقف يستخدمه مثل سوط يجلد به أمّته، وكأنّ المثقف قد ألغى عقله. عطّل العمليات الفكرية فيه، واستعاض عنه بتشغيل غرائزه، فصار النقد الذي يمارسه، والذي هو فعل (أخلاقي) فعل إنساني الهوى؛ صار حبل مشنقة لأمّته. فلم يعد يرضى أن يكون بشراً، ولا إلهاً، ولا جنيّاً، ولا ساطوراً. ماذا يريد إذاً أن يكون؟؟ فوق الأمة! فوق كل هذه.
برأيي؛ على المثقف هذا أن ينسحب من الباب ذاته الذي دخل منه علينا، وبتلك المهابة التي ورّطنا معه فحرقنا بيارق، ونكّسنا رايات، وسقّطنا من سقّطنا، وعيّشنا من عيّشنا. حتى اكتشفنا أنّه كان يحمّل علينا كرسيه وصولجانه وتيجانه ونياشينه.
ما يرعبنا أنّنا لا نتعلّم. ففي «الكوميديا الإنسانية» لبلزاك نرى مجتمع النبلاء الفرنسي يسقط، ينهار حجراً إثر حجر. ونرى بلزاك كيف ينتصر للعلاقات البرجوازية الوليدة. (إنغلز) حينها اعتبر أنّ بلزاك كتب في كوميدياه هذه عملاً عظيماً، هو أشبه بأغنية حزينة، هجا فيها النبلاء بسخرية مريرة، مع أنّه كان متعاطفاً معهم. إلا أنّه لمّا تحدّث عن أعدائه السياسيين أبطال (دير سان ماري) فقد تحدّث عنهم بإعجاب. بل تحدّث عنهم كأبطال.
نحن لا نريد من المثقف في حالنا العربي ـ لا أن يهجو النبلاء، ولا أن يعجب بخصومه السياسيين كونهم صنعوا النصر لأمّتهم ـ انتصارات كاذبة. هنا بلزاك يطرح مسألة خطيرة وهي أنّ الفنان «المثقف» انتصر على «السياسي» الذي فيه و أراح ضميره. أما مثقفنا فلا ينسحب. بل يصرّ على اللعب فينا فما يزال يربح. يا أخي (كرمال الله) انسحب، كلّ الأوراق صارت مكشوفة. فأنت إذا لم تكن تسعى للاعتراف بأخطائك، بإثمك. فدعنا نعترف بجريمتنا ونغتسل كي نتطهّر وننام مرتاحي البال.
من قبل فعلها من هو أكبر منك حجماً ووزناً ومساحة. من قبل فعلها (ابن خلدون) وخان أمته أمام (تيمورلنك)، وإلى الآن لم نستطع أن نغفر له هذه الجريمة، رغم أنّنا غفرنا للقائد العسكري هزائمه، وللسياسي مؤامراته، ولبائع الحليب والمازوت غشهما لنا بإضافة الماء إليهما. بل إنّنا (مرّقناها) لهم ولم نسجّلها في دفتر الحسابات ـ إلا المثقف فغشّه وخيانته لأمّته لا تمحى.
فإبن خلدون ما نزال نراه خائناً، رغم أهميّته كمثقف ومفكر عضوي، زرع أوّل بذور المعرفة المادية في ذاك العمق التاريخي لنا كأمّة. وآخر من تشفّى به كان المسرحي سعد الله ونوس في مسرحيته (منمنمات تاريخية). تشفّى به كخائن. لكن يبدو أنّ جرثومة الضعة والعبودية مهما خبّأها المثقف ـ بمعنى أنّ ثقافته إذا لم تستطع أن تثقفها فيرى نفسه سيّداً حراً، فسرعان ما تظهر ونراه وقد ضعف وسقط وهرّ. طيّب لماذا تشقّ طريقك مثل البلد وزر ونثق بك، ونعبئ لك المازوت، ونبدّل لك الزيوت، ونصلّح لك الأعطال في المحرّك والجنازير، وإذا بك تتحوّل إلى (طرطيرة) بدها دفش حتى تمشي.
أين ذهبت الثقافة؟ ثمّ في مثل هذه الحالة بمن يجب أن نثق، وخلف من يمكن أن نمشي؟ أمتنا تتعرّض لحرب إبادة وعلى الوجهين البارد والساخن. فمثلما فعل الوافدون إلى أميركا مع كولومبس الذي اكتشفها بالإسطرلاب العربي، و أبادوا الهنود الحمر، يفعل هؤلاء الوافدون بنا على إننا (الهنود العرب). ماذا يضرّ المثقف إذا تصالح مع رجل الدين.
أنا لا أنكر أنّ سطوة المستبدّ العربي في أيّ عتلة من مؤسسات السلطة قد أعاقت أو أفشلت الكثير من المشاريع التحررية والنهضوية بما فيها الوحدة العربية، و أنّها لمّا صادرت الحوار ـ التحاور، وتداول السلطة، قد سمحت بظهور حركات دينية سلفية خاصّة في سوريا ومصر والجزائر. وأحزاب معارضة في اليسار واليمين والفوق والتحت. وسنرى أنّ هذه الحركات والأحزاب بعضها أو أغلبها اشتغل بغيرة على القومي أو على الوطني، حتى لو كان الدين في جانب منها دافعاً ومحرّضاً.
ربّما يعترض هذا المثقف على هذا الرأي ويعتبر بأنّنا صرنا (نخلط). طيّب لنفرز، لنفصل الإسلام، نقصيه عن المفهوم القومي. ثمّ ألم نقصه، ألم نحيّده؟.. كلّ الحكومات العربية مشاريعها ذات بعد وطني وقومي، ولم نسمع منذ الاستقلالات وحتى الآن عن حكومة أو دولة عربية أنّ مشاريعها كانت دينية، حتى تلك التي ما تزال تقطع يد السارق وتجلد أو ترجم الزاني. ماذا حصل؟
لقد كثر «الهنود العرب» وعلى طول التاريخ ـ تاريخ المجتمع المدني، ومنذ انهيار الخلافة الراشدية كانت العلاقة بين الدين والدولة علاقة متوتّرة مضطربة، فالإمام (مالك) خلع كتفه من التسويط، لأنه أفتى بأنّ يمين المكره غير ملزمة، وكذلك أبو حنيفة في زمن مروان بن عبد الملك سيط ـ سُوّط لأنّه رفض تسنّم القضاء، وكذلك الإمام أحمد بن حنبل سُوّط. وهذا فصل حقيقي بين الدين والدولة. دولة كانت في معظم حالاتها تزيّف وتزيّن علاقاتها بالدين. حتى إنّ هذه (التزييفية) تنسحب على دول أوربا وليس على دولنا العربية. أليست العلمنة هي محاولة للفصل، أو لتعليق الدولة على شمّاعة الدين؟ ثمّ ألم تكن الدولة عندما تضعف وتصل إلى نهاياتها، وحتى تقوى ـ كانت تستقوي بالدين؟ أكثر من ذلك؛ ألم يدخل نابليون إلى مصر، يحتلّها. ببيان بدأه بكلمة (بسم الله الرحمن الرحيم)؟؟ ألم يستعمل نابليون بونابرت هذه البسملة كحبّة مخدّر، يهدّئ فيها نقمة، ثورة الشعب؟ ومن ثمّ لمّا وقع الاحتلال ألم يشهر نابليون أنيابه؟
أميركا ترمينا بالقنابل، تبيدنا. فهل إذا صددنا القنابل وتركناهــا تزحف، تزحط من فوق رؤوسنا نكــون إرهابـيين؟ وهل الدعوة إلى قوميــة عربيـة هــي دعـوة إلى تقوية الإرهاب؟
تريدون أن تقصوا الإسلام عن مفهومه القومي، يا أخي إذا استطعتم فافعلوا ـ لكن كيف تنزعونه وهو يجري في دم الملايين المملينة فوق هذه الأرض العربية. الدين بالنسبة للعرب مثل الهواء، وحتى بالنسبة لكلّ البشر مهما كانت أعراقهم؛ هو كالماء والهواء والنار. وحده مهما كان مصدره سماوياً أم وضعياً الذي يمنح أو يعيد للآدمي آدميته. المثقف قد يغيّر لباسه، ويغيّر طوائفه، ويغيّر ألوانه، ويغيّر مسبحته، ويغيّر عنانه. إلا غيرته على أمته، إلا غيرته على قوميته وليس (كوميته).
أميركا تروّج للإرهاب، وهي مرحلة ما بعد العولمة. إذ صار علينا أن نختلق اليوم أزمة ـ مشكلة فكرية. إذ كنّا وما نزال نطرح مشكلة الحداثة وما قبلها وما بعدها. أنا الآن أقترح أن نتجاوز الحداثة والعولمة، ونشتغل بموضة الإرهاب، ودولة ما قبل الإرهاب وما بعد الإرهاب. شغلة نتلهّى بها، خاصّة أننا كفصيل مثقّف صار ينتج «النميمة» بدل (الفكر) هل صار ولاؤنا للإرهاب هو ولاء لوثن جديد، لإله جديد، لدين جديد، لمعتقد جديد؟ أين الولاء للأوطان وليس الولاء للأديان أو للقوم، باعتبار أنّ الوطن هو الرحم الأوّل والرحم الأخير. هل هو التخريف أم هو التحريف؟ ألهذه الدرجة صارت الدولة الإرهابية التي تختلق الإرهاب، هي مصدر الخير والسلام والحب والحريّة والحياة الكريمة..؟ ماذا نقول لشهداء فلسطين، ولشهداء العراق، ولشهداء حرب تموز .2006 صور جثثهم ـ أجسادهم وهي مدمّاة من الرصاص الإسرائيلي والأميركي ونراها في الفضائيات ألا تحرّك ضميرنا ووجداننا؟ لا أحد يمكنه أن يلغي العقل. آمن بالله أو آمن بما تشاء، فما الذي يمنع إيمانك من التمدّد على الحياة، من اختراق حجابها الفلسفي وسبر أسرارها الكونية. العلم ـ البحث العلمي فرض على الكائن الإنساني في كلّ الأديان ضعفَ إيمانكَ أو قويَ، لكن أن تضلّنا، أو أن تضلّلنا فكرياً فتعطي أميركا حقّ ممارسة الإرهاب بالاستيلاء على دول وشعوب في أيّ مكان فوق هذه «الدويرة» الأرضية فهذا ما لا يقبله الإيمان.
مشكلة المثقف العربي أنّه يتفرّج على الثقافة ولا يتثقّف، وها هي أميركا تمارس ثقافتها علينا في فلسطين وفي العراق. تفرجينا «بروفة» ولا نتثقّف. وها هي أميركا تمارس ثقافتها حتى نصير شعباً لاجئاً ـ نصير أمّة لاجئة عند أمم أنجزت مشاريعها القومية بنجاح.. فنختلف ونصمت ونفرجي العالم ثقافتنا، إرهابنا ـ رهابنا الذي نفكّ فيه ليس سروالنا ؛ بل نسيج وحدة الأمّة والقبيلة والعشيرة والعائلة والطائفة، ونتحوّل إلى كلّ شيء إلا أن نكون عرباً، نكون بشراً.
طيّب ـ مثقفنا له مشكلة مع السلطة السياسية سواء أكانت دوافعه خاصة مثل أنّ عنده طموحات «سلطوية» أو دوافعه عامة بصفته نبياً غير مرسل، وعنده مطالب لتحقيق العدل، العدالة، الديموقراطية، وتوزيع وتنظيم السلطات المدنية بما يضمن حرية المعتقد والتفكير والتعبير وتداول السلطة. طيّب لماذا يتشاكل المثقف هذا ويعادي الوطن؟(إيش) ذنب الوطن؟
المراقب لحال الثقافة العربية سيطقّ عقله لما آلت إليه هذه الثقافة من تردّ في النوع وفي الكم. فلا الشيوعيين و لا القوميين، ولا المتطرّفين المتدينين، ولا المتدينين التقليديين، ولا الوجوديين أفرزوا مثقفيهم. ربّما (الماركسية) استقطبت مثقفين فيما بعد صاروا عقلها بسبب من صدق مشروعها الإيديولوجي وحرارة إيمانها بمعتقدها، وربّما لأنّها كانت في مرحلة السعي لإنجاز مشروعها ـ إنجاز الدولة. بينما الماركسية التي كانت تحكم في دولة عظمى حين كانت دولة عظمى في الاتحاد السوفييتي فكانت مجرّد حصان، وعاشت الدولة في عزلة عن المجتمع، ولو أنّها خاضت حروباً وأنتجت فكراً، وصنعت أفلاماً، و ألّفت موسيقى، وعرضت مسرحيات واقعية اشتراكية، ودعمت الكتّاب والمثقفين، وهيّأت لهم ما هيّأت من أسباب الراحة ـ نلاحظ أنّه في السرّ كانت تنمو ثقافة مضادة/ ثقافة اشتغلت «حاصودة» حصّادة، فأجهزت على الدولة في نهاية حرب باردة انتصرت فيها أميركا. وفجأة شفنا الناس ـ البشر، في هذه الدولة التي انقرضت وكأنّها مثل (حلم)، يخرجون نزعاتهم الصوفية نحو أديانهم. وصار الدين يربطهم ببني جنسهم، ويشدّهم إلى أوطانهم، فطلعت القومية. طلعت/ خرجت كل الشحنات الوطنية اللذيذة التي كانت فيها.
وكأنّ هؤلاء البشر كانوا يراكمون مشاعرهم هذه طيلة السنين التي فاتت. مع ذلك (مثقفهم) لم يمح ولم يهدم هذه العمارة الدينية التي كانت مخبأة في الصدور وفي القلوب، ولم ينعتهم أحد بالرجعية أو الرجعيين. بالعكس هذه الصوفية كانت بنت الأرض، نبتت وشقّت القلب وخرجت منه، وهي تملك وعياً نقدياً بمصائرها. وعياً بالواقع الذي آلت إليه كل الإيديولوجيات التي وقودها أولاً وآخر ـ وقودها الإنسان سواء أكان مثقفاً أميّاً، أم مثقفاً متعلماً. ألـيس إنتاج الجهل هو نوع من أنواع العلم؟

منقول عن جريدة السفير
([) كاتب سوري

قايـد الحربي
09-24-2007, 10:27 PM
عبود حمام
ـــــــــــ
* * *

شكراً لهذا النقل القيّم جداً
وقد ذكر الكاتب بأنّ " النقد فعل أخلاقي " وقد صدق
ولن يتّجه النقد لغير هذه الوجهة إلا من قبل القارئ له
فالقارئ للنقد إمّا أنْ يُحيله إلى فعلٍ أخلاقيّ وإمّا أنْ يُحيله
إلى تآمر مع العدو وخيانةٍ للأمة و في إحالته الثانية ظلمٌ وإجحافٌ
بحق النقد قبل كاتبه .
ولأنّ الحقيقة دائماً مؤلمة فالبعض يُريدها مستترة ويجب السكوت
عنها و هذا - البعض - هو المُشكك بمن يكشفها وينتقدها .

شكراً لك كثيراً .