![]() |
لا أريد أن أكون نقياً
لا أريد أن أكون نقياً لا أريد أن أكون نقياً .. كان صوته يتعالى وراءها , شابٌ في مقتبل الثلاثينات , ملامحهُ حملت حنيناً لحياةٍ مسلوبة , و قسوةً على واقعٍ مختلِس ! فجأة نهضَ و ركضَ سريعاً على غير هدى , اختفى لدقائق ثم عاد منهكاً ليجلس على المقعد حيثُ تركَ حقيبته مبهمة اللون . كانت أنفاسهُ تتلاحق و كأنها تنتقم لنفسها من رئته الصارخة بالحياة , كان كافياً ان تنظرَ في عينيه , اللتان كانتا تبحثان في الفضاء المجهول عن شيءٍ ما , لتدرك سرّ الوجع في محيط ذاكرته التي بدأت بالتكافل مع ألمها .كان كتفاه يتدليّان كالأقفاصِ الفارغة , وبقاياه تتطاير من أبوابها المطعونةِ بالخيبة . هو ما أراد لنفسه إلا أن يكون كما تمنّت صديقة طفولته , ابنة الجيران .. كانت تنتظر حلماً شهياً و كان هو فارساً يفتقد الجواد , أحبها كثيراً بصمت و بادلته طفولتها معه الحب , ركضهما سوياً , لعبة الاختباء , و السيارات التي كانت تسرقها منه لتقنعه باللعب معها بالأحصنة و الأميرات .. كل ذلك كان يبادله الحب , وكانت نظراتها تفضح شوقها لمعانقته كما كانت تفعل وهي ابنة السنوات الخمس , كلما ضربها أحد أولاد الحي و تشاجر هو معه . ولكنها كانت تحلم , تحلم كثيراً , أكثر مما يمكنه احتماله , و هو شابٌ لا يملك إلا عملاً بسيطاً منّت به شهادته الجامعية . هو لم يشعر إلا باختطافه لذلك المبلغ الهائل من المال , الذي رأى فيه جميع أحلامه , وأحلامِ صديقة فرحه المسروق . وعندما خرج للحياة بعد أن نال منه العدل و اقتصّ منه ميزان الحياة المائل , سرقَ منهُ الزمن حتى حياته السابقة , و عاقبه بسجنٍ أكبر و بمدعّي الشّرف على حسابِ الباحثين عن رغيف الحلم , و بِطفلٍ صغير يحمل عيناها و اسم أحد سارقي الوطن . حياته ما عادت تعنيه , ما يعنيه فقط أن يموتَ حقّاً , بلا ذاك العار الكاذب الملتصقِ باسمه . ....... ردّدت " هي " , الفرحُ يرقصُ معصوب العينين على شفا حفرةِ الزمن المسروق , هو دوماً يسقطُ في مستنقعاتِ الكذب , مطعوناً ببياضه . " هو " ما فارق ذاكرتها , ولا فارقَ احساسها الموشوم الآن بسخريّة الوجع و ابتسامةَ المكابرة . |
كانت هناك , وراءها بشجرتين و حزنين , و ألمٍ واحد ! أكثرُ ما كانَ يلمعُ في كرسيّ أرقها يداها اللتان تمسكانِ شالها الذّهبي , و تمزّقانِ حزنها المزروعَ على أطرافه . أناقتها شدّت " هيَ " لتنصتَ إلى نبضِ قلبها , الّذي تعالى أكثرَ من رائحةِ عطرها .. تسريحةُ شعرها الذّهبي , و فستانها المخمليّ الهارب من عصورِ الأميرات و النّبلاء , أضافا إلى حزنها مسحةً من كبرياءٍ جعلت الإنصاتَ في حرمِ ذاكرتها أمراً مقضيّا .. أدركت " هي " أنّ هناكَ غربةً ما تختبأ تحت جلدها الناعم , و قد أصابت , فتوالت ذاكرتها كمعرضٍ للوحاتٍ قضى رسّامٌ بها كلَّ يديه . كانت تحلم , يومَ كانت تحلم , برجلٍ يحبّها , و يحبُّ نجاحها , و يضعُ يديهِ حولَ خصرها فتلفَّ ساحاتِ النجاحِ معهُ , كرقصةِ باليه ممتعة , لا مُتعبة . حينَ عرفته , كانَ أكبرَ من كلّ ما تخيّلتهُ أمنياتها الصّغيرة , و على مقاسِ خيالاتها الواسعة , كانَ رجلاً متفهّماً , صبوراً , ذكيّا , و يحبّها . كلُّ لقاءٍ لهما , كانَ ينبضُ بالعقلِ و العاطفةِ معاً , كانت تشعرُ أنّهُ يكمّلُ عقلها , و كانَ هوَ يُخبرها كلّما التقيا , بأنّها تختصرُ جميعَ نساءِ أحلامِه . و حينَ أتتها بعثةُ دراسيّةٌ للخارج , وقفَ معها يَشجّعها , و يبني معها في ذاكرتها صورةً لمستقبلٍ سيولدُ بعدَ عودتها .. و سافرت حيثُ الحلم , سنواتٍ ثلاث قضتها هُناك , تراسلهُ , و يرسلُ لها , عن طريقِ أختها كلّ مرّةٍ مقطوعةٌ من أمنية عزفتها ذاكرته , إلى أن توقّفَ بعد سنتين , ليبجيبها , كلما طلبته في الهاتف ببرودِ المُذنبِ الهارب . عادت , لتجدهُ في المطار يستقبلها , و يديهِ تحتضنان أختها , الحاملَ في شهرها السّابع ! / " هي " كانت تشعرُ بذاتِ الحرقةِ تتعالى في داخلها حتّى تصل حنجرتها فتخنقَ صوتها بعبرة , " هي " تشعرُ أنّ البُكاءَ لم يعد ممكناً , لأنّ معاني الصداقة و الأخوّةَ و الوفاء ماتت بالتقادم ! " هو " كان دوماً يقولُ لها : " لن أخذلكِ صديقاً , حتّى لو فعلتُ حبيباً " |
...و؟
فقــد |
الساعة الآن 12:10 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.