![]() |
نافذة على جدار قلب
يرسمون الموت ..
ويرسمون ولادة الحياة من موت يأتي .. تفرّس في الجدران .. عبارات معلقة بهت طلاؤها .. و تلاشى مدلولها .. الصور التي تكدست لصقاً لم تعد تنم عن شيء ما… عجيب أمر هذه المدينة.. في الصباح يبدأ القتال .. و في الظهيرة يتوقف .. و عند المساء تتراقص ملاهي الليل ، و تملأ المدينة بعبق المشروبات … لا يدري أحد من يقتل الآخر؟ .. و لا يدري أحد لماذا يموت ؟ .. و في ذاك المساء ، بددت الريح سكون المدينة .. و بعثرته في زوايا أرهقت ضياء المصابيح ؟؟ كان يبحث عن موت لا يدرؤه موت .. فكرة الموت تحت العجلات .. أو على شاطئ بحر يبتلع الموج .. الموت، الحقيقة الوحيدة و المطلقة لديه.. لماذا يكدسون الأموات ؟ أو لماذا يعلبونهم في قبور لا تتسع لأحلامهم ؟ لماذا لا يطلقون الأشياء مثلما يحرر الموت أرواحهم من صناديق تآكلت أو تمزقت ؟ .. هواجسه، و اعتقاداته – كما كان يحلو له أن يسميها- تدفعه للمجازفة أو لم يعد يفرق بين المجازفة و الحكمة، و ربما كانت هواجسه حكمة…؟ أخذه طريق ترابي صعوداً .. ابتعد عن الأضواء ، و عن صخب سكون الأشياء … انحنى ليلتقط حجراً يرمي به كلباً يسير جانب الطريق… استقام عوده .. لاحظ ذيل الكلب.. استنكف عن ضربه .. اقترب منه ، وسارا سويةً .. أكمل الطريق .. و عند تقاطع الأفق مع السماء ، جلس مستنداً إلى جذع شجرة ، كانت المدينة تشع بين الأفق و قلبه .. أحب تلك المدينة .. غاص في تفاصيلها و استظهر كل أزقتها ..و يكاد يجزم بمعرفة سكانها الأموات.. الذين رحلوا.. و يرحلون .. يتذكر لحظات موت الأًصدقاء.. و المدينة التي لا تنام ، تتذبذب شطآنها بين مد و جذر .. مدّ ضياء الأحياء و جذر انقطاع التيار الكهربائي … أحس الكلب يقترب من جسده ، يحاول أن يأخذ دفئاً .. مسّد رأس الكلب و خاطبه : - لماذا تترك مدينة تملأ بالنفايات ؟ و تهجر أعراساً وتأتي إلى هنا ؟ هل تبحث عن صيرورة موت مثلما أبحث أنا ؟ … ما الذي يوحدنا – يا صديقي- في هذا الليل ؟ لم يبد الكلب أي إشارة !… بدأ سعيد بالغناء الهادئ الذي لا يكاد يُسمع من غيره .. و الكلب يحرك رأسه كلما غصّ سعيد بكلمة من اللحن العذب .. ( يا جبل البعيد .. خلفك حبايبنا .. ) و هكذا استقرت عيناه تحت جفنين مرهقين يلتصقان عنوة.. عند انتصاف الليل ، تساقطت أوراق الشجر .. و هبت ريح تنذر بحدث كوني ما .. استفاق ، نهض ، حاول أن يعقد صلحاً مع الطبيعة … بحث عن حفرة أو مغارة يتقي بها غضب الطبيعة ، لحظة ، ما هي إلا لحظة حتى انطلق الكلب نزولاً .. هرول خلفه … أيقن أن الكلب مسكون بروح الخلاص … تبعه .. انحدر انحداراً حاداً …رأسه يسابق ركبتيه ..يلهث مثل كلب أعياه قيظ صيف حار.. سقط .. تدحرج .. نهض .. تكررت عملية السقوط … يقف الكلب ينتظره … أكملا الطريق إلى حديقة صغيرة .. هوى على مقعده .. مد ساقيه و نظر في سماء قذفت نجومها برداً … لم يشعر بسقوط الماس ، و غفا وتراكمت أخيلة الذين أحبهم ، و تناثرت أشلاء الملصقات .. شعر بدفء الأحلام .. انتقلت روحه مثلما يرجو .. إلى مدينة لا يسكنها الرصاص، ولا تخدش حياءها رائحة الموت، و لا يبدد سكون روحها ضجيج عجلات السيارات و هي تزعق كل حين .. أحس بشعاع يداعب جفنيه .. تمطى .. فتح ذراعيه .. شاهد للمرة الأولى في حياته أن الشمس تشرق من الغرب ، حاول أن يحدد الاتجاهات لكنه أصر على أن الشمس قلبت مسارها … مثل كل المدن التي اغتصبته، و شربت عرقه ، و سال دمه على كل الطرقات الموصلة للموت .. لكنه مثل الشمس يقلب مساره . بحث عن الكلب .. كان يتكور بجانب حوض من الزهور … لا يحمل في هذا الخريف زهراً .. يحدّق الكلب فيه .. ردّ التحية : - صباح الخير .. بحثت يده في جيوبه عن شيء يشبه التبغ الأشقر .. وجد لفافة مبللة ، حاول تجفيفها .. لكن الماء أفسد تبغها ..ألقى بها ، تابع بعينيه سقوطها … تسمرت عيناه . كانت قادمة مع شروق الشمس .. يملأ وجهها طفح من كبرياء .. و يحرك ساقيها شموخ افتقده .. في كل الذين مازالوا ينتظرون الموت .. ( لماذا نخبئ طفح روح؟). و لماذا نختلس أسئلة لا تعيده إلى الصفاء ؟ شكل هاجسه نمطاً لحياة يبدؤها التسكع ، و تنتهي بالتشرد .. جاءت تداعب نظراتها إنساناً نام في داخله منذ مات آخر طفل أمامه .. كان يحس لحظتها أنْ ليس في اختيار الأرواح عدل .. و هكذا سجل على صفحة قلبه أسماء الأطفال الذين ماتوا و لم يقتلوا أبداً .. - صباح الخير ! … لأول مرة منذ أن قرأ الفاتحة على أرواح الشهداء يشعر أن الصباحات تشرق من أرواحهم … لم يستطع إلا أن يبتسم و يقف و يطلب منها : - إذا تكرّمت سيجارة .. عادة أنت تحملين سجائر .. أليس كذلك ..؟ - عليك أن تردّ التحية .. نظر في وجهها .. على خديها يرتسم أفق يمتد .. يلامس حقلاً أخضر في عينيها …. لم يدر و هو يمد يده، و أصابعه تحركها روح المرح ، و تهتز أشواق غادرته من زمن بعيد ، تتلبسه الآن .. - عفواً سيدتي .. أنا لا أملك لغة تساوي إشراق عينيك .. أخذ سيجارة .. أشعلها ، لحظة و إذا بركان عشق ينفجر في داخله لحياة .. كم تمنى أن تتوقف! .. جلس .. نظر … - أنا تذكرت .. أعتقد أنك ( وفاء ) ؟ لماذا تجرحين ذاكرتي ، لتنزف أرواحاً ؟ لماذا تحاولين إحياء أشياء صرفتُ عمري لقتلها ؟… - جميل أنك تذكرت هذه المرة .. أنا لا أريد أن أجرح .. أنا أحاول أن أضع لمسة على جرح يجب أن يندمل .. لو أننا جمعنا نجوم السماء و وضعناها في سلة .. و وزعناها على الأرواح المسكونة بالعشق لاحتجنا لالآف السماوات .. و لو كنت تدرك تسامي الروح ، و عبق الصعود ، لكانت هذه السنوات لم ترهقني.. - ماذا عليّ أن أتذكر ؟ و ماذا أفعل ؟ - أن تبدأ خطوة واحدة ليس غير !.. ألقى بعقب سيجارته تجاه الكلب .. تبسم لها ، و أشار بيده : - هذا أنقذني .. و الروح المسكونة فيه .. كنت أحسها روحي .. و أسلمت ذاتي له في ليل كاد أن ينقلني إلى نجم في سلتك … - الخطوة التي نسيرها معاً ، هل توافق عليها ؟ .. - ما هي ؟ أرهقتني الطرقات و الأزقة و الليل .. و الشمس و المقابر .. كيف يمكن أن نبدأ خطوة دون أن نعرف إلى أين نسير ؟ .. أشعر أنني وصلت إلى النهاية ، أقترح أن تأخذيني في أي اتجاه .. - أتعرف الحي الشرقي في قريتنا ؟ هل تتذكر المسجد ؟ و هل تتذكر البيوت التي تحضن البيوت ؟ في تلك الأزقة كبرنا معاً . كنت شقياً .. لا يخلو يوم من شجار مع الفتيان .. كانت فتاة تصغركم قليلاً .. تبتسم ، ترفع جديلتها .. تلف عنقها ، و تمتص الابتسامة عندما تلمحون ثغرها .. تلك الفتاة ، تعلقت طفولتها بشاب هجر القرية ، و ضاع في زحمة الأحداث .. ابتلعته المدن .. و علبت روحه .. مقاطعاً … - أنتِ .. أنتِ .. أنت من تقاتلنا من أجلها .. في الصباح..؟! ، هذا الصباح تَدثرت بابتسامتها ، عندما كانت تنزف السماء … لماذا يحملنا المصير لدروب لا إياب فيها ؟ و أنت تطاردين شبحاً كان يوماً أمنية ؟ - من هنا سنبدأ الخطوة الأولى .. إلى حيث كنا ، و كانت طفلة تسحب جديلتها .. و تغطي بها ابتسامتها … و يتساقط جمر عينيها …. عندما يصاب فتاها … - أنتِ تلك الفتاة التي نامت في وجداني |
أستاذ : حسام زيدان
أهلا بك في أبعاد أحتاج من هذا الليل ، الكثير من النجوم ، لـ اضعها في سلتها ، تلك الفتاة المسكونة بالأرواح التي تختصر روحاً شربتها المدن . قصةٌ تعدت حدود الخيال والحلم والشجن والدهشة أحتاج إلى السلة ذاتها لـ أقدمها لك . ترحيباً يطيب لنا هذا التواجد يا سيدي |
الساعة الآن 08:21 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.