http://a5.sphotos.ak.fbcdn.net/hphot...72961056_n.jpg

أسكت من حوله ليستمع إلى أمواج البحر، ذلك التلاطم الرائع بهدوئه واختلاف ظاهره عن باطنه، تحركات الأمواج اللامعة على السطح تخفي تقلّبات وتيارات من الفوضى تعيشها قطرات الماء في الأعماق، وكأنها تشبه الإنسان في داخله، عندما يبتسم للأيام، وللذكرى، وللبشر، ويخفي في أعماقه أكواماً من التناقضات والآهات، مد يديه ليداعب حركة المياه، "إنه بارد"، أغترف منه ورفع يديه إلى وجهه وهو ينظر إلى مشهد هروب الماء وعودته إلى موطنه، أغمض عينيه ومسح على وجهه بهدوء يجاري سكون الشاطئ، تنفس رائحة الحياة التي تحملها أملاحه، ثم أعاد يديه إلى الماء مرة أخرى، ظل يحرك يده بحركة دائرية وهو يتأمل تفاعل الماء معها، إحساس منعش يراوده، وابتسامة ملونة ترتسم على شفتيه مع شعوره بارتفاع الماء وانخفاضه، وكأنها تختلف باختلاف أرتفع الماء على ساعده، للدوامات الصغيرة التي افتعلها سحر لا يقاوم، أخذت تفكيره بعيداً، فسرح وهو يتأمل انعكاسات السماء على تلك الدوامات.


- فيما تفكر يا عزيزي؟
- يآآه .. كنت آتي إلى هذا المكان مع عائلتي وأنا في الخامسة، أتذكر تفاصيله القديمة جيداً وكأني أعيشها الآن، هذه الرمال لا تتغير.
- صدقت . . ليست كالبشر.
- هي كذلك، تشدني دائماً إليها عندما أغمس قدماي فأرى الرمال الناعمة تعيش ضجة الحياة حولهما، فتعكر صفو الماء وتغير صفاؤه الأخّاذ، كانت تنتابني حينها رغبة بالصراخ على الطريقة التي يفضلها الأطفال عند التعبير عن ابتهاجهم. أما اليوم، فقد بت أخشى من هذا الإحساس. تلك الرمال، الماء البارد، صوت الأمواج، كلها أصبحت واقعاً أعيشه في يومي، من البيت إلى مقاعد الدراسة، ومن تلك المقاعد القاسية إلى هذه الدنيا المختلفة في تفاصيلها عن المثالية التي نهلنا منها في كتب الدراسة.
- ....
- ....
التفت إلى يمينه متعجباً لصمت البقية، ولكنه لم يجد أحداً بجواره، التفت إلى يساره بسرعة، "لا أحد!؟" ، بدأت التساؤلات تتسلل إلى عقله المستغرق في التفكير بالبحر، ذلك العالم الواسع الذي يحتضن الشاطئ من أقصاه إلى أقصاه، "يا إلهي، لم أشعر برحيلهم! متى؟ وكيف؟ وإلى أين!؟ ثم أين هي أثار خطاهم!؟" تزايدت التساؤلات وبدأت الهواجس والأوهام تعكر صفوه، وتغتال البسمة التي زينت وجنتيه، هذه عادة أشباح الوهم في حياته، لا يهدأ له بال بوجودها، تأتي من العدم وتغيب إلى عدم بعد أن تذيقه مرارتها، تلفت وحدق في الأفق، لا شيء سوى التراب، وصوت الرياح، وتلاطم الأمواج، "ثم أين رائحة البحر؟"، شعر وكأنه في مكان مغلق، انتابه إحساس بالوحدة حتى ظن بأن السماء تنزل لتضيّق المدى، الرمال تنطوي لتحاصره، وماء البحر يتقدم ليدفعه بعيداً عن ذلك المكان، بدأ يتنفس بصعوبة، "أعوذ بالله من ..."، ارتجافة شفتيه تمنعه من الكلام بحرية، بدا القلق واضحاً في عينيه، مد كفيه إلى الماء ليغترف منه ويغسل وجهه المنهك بالتساؤلات، علّه يعيد رائحة البحر المنعشة إلى صدره، أغمض عينيه، وسكن للحظة ليستمع إلى نبضاته التي أصبحت ناقوس خطر ينبض في أحشاءه، زاد قلبه من ربكة أنفاسه وأطرافه، تجاهل كل شيء وأخذ نفساً عميقاً، فالماء سيعيد اللحظات الجميلة ببرودته.


توقف فجأة وهو يمسح على وجهه، "ما هذه الرائحة!؟"، فتح عينيه والدهشة تربك كل حواسه، للماء لزوجة مخيفة، ورائحة الدماء تفوح في كل مكان، الرمال تشبه جثثاً هامدة تنزف كل ما فيها باتجاه البحر وقد تغير لونه إلى سواد قاتم موحش، كيف للأشياء الجميلة أن تغيب في لحظة؟ وكيف لنفسه أن تدفعه للنسيان؟ أصيب بالذعر فنثر الدماء العالقة على يديه باتجاه البحر وبقوة، ثم حاول النهوض مسرعاً ليلوذ بالفرار من ذلك الشاطئ، شعر بشيء يقيد قدميه، بدأ بتحريكهما بكل قوة، ولكن هناك ما يجره باتجاه البحر، حاول وحاول حتى خارت قواه، رفع رأسه ويديه إلى السماء مستغيثاً، فوجدها حمراء اللون غاضبة، رد يده إلى وجهه وكرر في أعماقه "أين ذهبتم؟ أين ذهبتم؟ أين ذهبتم؟ بالله عليكم!"، كلمات رددها مستسلماً لكل شيء قادم، ظن أنه ذاهب حيث ذهب الجميع، تراوده أحاسيس غريبة رغم عمقها، خوف وقلق، شوق وحنين، لم يعد يفهم ذاته، أطرافه تنكمش ببروده، وجسده يرتجف، روحه هائمة بين التمزق والهناء، موجوعة، ولكن بلسم الأمل ينسيها حتى البكاء.


بعد لحظات من الرهبة، يعصف به التعجب وهو مرعوب من التالي، "عجباً.. لم يحدث شيء!!"، يبعد كفيه ويفتح عينيه بهدوء، فيرى سقفاً متهالكاً، وزوايا تملؤها العتمة، وسلاسل قيدت قدميه، سجن صغير تسكنه الوحشة كما تسكنه الدموع، على الجدران آثار لكل شيء يعرفه، ضحكات، وهمسات، ومواقف لا تغيب، نهض والألم يمزق ظهره المتعب من النوم على أرضية زنزانته الحجرية، جسده النحيل يجبره على التحرك ببطء، تقدم إلى الزاوية المقابلة، اخذ كأساً نحاسياً فارغاً وشرب منه عبق المكان، جلس على كرسيه القديم، وأخذ دفتر للذكريات تملؤه الكلمات والصور التي تجمعه بأطياف رحلت عن حياته، يبتسم في صفحات، ويذرف الدموع في أخرى، تضيق الجدران بأنينه لحين، ثم يغزوها بأصداء قهقهته، يتجاذب أطراف الحديث مع أشياء لا يراها سواه، ثم يقع مغشياً عليه ليعيش في سجن ذكرياته الأبدية.


محمد الكحلاني