![]() |
حُـفـاة
http://im15.gulfup.com/2012-03-27/1332864797441.jpg حُـفـاة فِي هَذا الهُراءِ المُسمّى حياةً ! كُنّا ثمانيةَ أفواهٍ , ثمانيةَ ثقوبٍ نَتحرّكُ في دائرةٍ نصفُ قطرِهَا فقرٌ والنّصفُ الآخرُ حِرمانٌ . هل أرْهقَنَا أبِي، أمْ أرهَقْنَاهُ ! لا أدري أيُّنا أشْقَى ! أبِي ، أحدُ الحُفاةِ ، تأرْصفَ كَثيراً وهُو يبيعُ الجرائدَ علَى بَسْطةِ الحَياةِ , طوى حصيرة عُمرِه على رصيف إعتاد قدميه , كان كل ليلة يجُرُّ الطّمَأنينةَ مِن قَرنَيْها , يشُدّها لِتتعرّفَ عَليْنا , ولَكنّها كانتْ تَنأى بنفسْها عنْ بيتٍ تسكنُهُ الرُّطوبَةُ , أبوابه مُخلّعة ونوافذه مُغطاة بأكياس النايلون . لاَ مفرَّ يا أبِي لا مَفرَّ, الحياةُ تنصِبُ لنَا الفِخاخَ وتُغلِق في وَجْهِنا الأبوابَ، فَلا غَرابةَ أن نَكونَ على أُهبةِ الغرقِ دائماً كمنْ يركبُ لوح ركمجةً مَكسورةً في أمواجٍ عاتيةٍ ! وُجودُنا جميعاً في غرفةٍ واحدةٍ يفاقمُ كثرتنَا . أكانَ لِزاماً أنْ نكونَ ؟! أكانَ صَواباً هَذا الاحْتكاكُ بينَ هيكلَينِ عَظمِيَّينِ ؟ النَّحسُ رَافَقنا كَثؤلولٍ كبيرٍ لازمَ أنفَ أبي حتى وفاتِه , كانَ فقرُنا بِلا ذِمّةٍ، كأنّنا مُجردُ أثوابٍ رَثّةٍ تنبِضُ في الفراغِ، وتعبَثُ بنا الظروفُ عبثَ الريحِ بالرمالِ ! أمّي التِي يَستيقظُ لِسانُها عَلى كلِّ الأدعيةِ وآياتِ الصبرِ.. كانتْ تقرأُ عليْنا بِهدوءٍ مُستعارٍ : " إنَّ معَ العُسرِ يُسراً " ولَكِنّنا لمْ نرَ معَ عُسرنَا إلاّ عُسراً , ولم يُوَلِّدْ فقرُنا إلا فقراً.. علَى الأرجحِ كَبِرنَا على غفْلةٍ منَ الموتِ ! طالمَا اسْتدعَتنِي لأُدخِلَ لهَا الخيطَ فِي ثُقبِ الإبْرةِ، تُرى كمْ خَيْطاً لزمَنَا لنَرْفُو ثوبَ العِوَزِ، ونُقطّبَ جُرحَ الفاقةِ ؟ كمْ إبرةً ؟ صوتُ " اليَرغولِ " ترفٌ متاحٌ ليرافقَ قِلة حيلَتِها, ويَقهرُنِي منظرُ عَينَيْها عندَما تَقلقُ أو تدمَعُ , أضُمّهَا وأخبرُهَا : لاَ يَهُمّكِ يَمّة , عِندمَا أكبرُ سأزرَعُ لكِ مِلحاً وكازاً وسُكَّراً . وقبل أن تدب الحياة صباحاً , بل قبل أرغفة المدرسة وقبل أصوات الباعة وأبواق السيارات كنتُ أهْرع إلَى الشّوارعِ حاملةً عُمُرَ الحاديةَ عشرَ وساقين مقوسين , يَصحَبنِي أخِي الذِي يَصغُرني بِشمْعتينِ , نُوقظُ الأزقة ونُفزعُ القططَ النائِمَةَ في الحَاوياتِ , فتُدهشُنا تلك النّفَايات التي أصحابها لهُمْ وجوهٌ مكتنزةٌ وظِلالٌ مُنتفِخةٌ , حتماً فِي هذا الكونِ بشرٌ يتناولُونَ أكثرَ منْ وجبةٍ في اليومِ ! كثيراً مَا كانتْ يدِي الصغيرةُ تَعْبثُ ببقايَا جيفَةً دونَ أن يَعلَقَ فِي صنّارَةِ أصابعِي شيءٌ , لم أتأفّفْ يَوماً مِن الرّائحَةِ ، كانتْ تُشبهُ روائحَ اعْتدنَاها في بَيتنا أو صَفِيحِنا المُعلّبِ . كنتُ علَى يقينٍ أن اللهَ سيغفرُ لي , فَعلَى الرغمِ منْ كلِّ مَا كنتُ أسرقُهُ مِن الحاوياتِ لَمْ أحْظَ يوماً باسْتدارَةِ رغيفٍ ولا بمُحيّا وجبةٍ ! لطالمَا أقسمتُ أنّني لنْ أعودَ لزيارةِ مَكبِّ النّفاياتِ , لكني كنتُ أنكثُ قسمِي كلّ يومٍ وأجهّزُ نفْسِي لإطعامِ عشرةِ مساكينَ , نحنُ و والدَانا ! . في هذه الحياة المستعملة تنازلتُ مُبكّراً عن الأحلامِ , رسمتُ لهَا أجنحةً فطارتْ بعيداً ولم تعُدْ , الأحلامُ مِثلنَا تحتاجُ إلى الخُبزِ والخبزُ شحيحٌ ! لمْ تفكرِ الدّنيَا مرّةً واحدةً بأنْ تمْسحَ بِيدِها علَى رُؤوسِنا , كانتْ هُناكَ مآذنُ شاهقةٌ , وسماءٌ واسعةٌ وليالٍ صافيةٌ ونحنُ بكلّ عكَرِنا وعِوزنا ! كمْ أنتِ متناقِضَةٌ أيّتُها الحياةُ ! أراوِغُ رُوتينَ الخُبز والشّايِ, وأفكّرُ برسمِ غَمّازَةٍ أوِ اثنَتيْنِ علَى وُجوهِ إخْوتِي وأتعمّدُ مُفاجأتهُمْ بنفْحَةٍ منَ الرّفاهِيّةِ.. أُريقُ ماء وجهي و أقصدُ الجزارَ , أتَسَمّرُ طَويلاً علَى بابِهِ , أتصبّبُ ذُلاً , ثُم أطلبُ منهُ عِظاماً للكلابِ "عِظاماً تَكْفي لثمانِيةِ كلابٍ" لمْ يستشرْ أبي أحداً في عَددِهِمْ . يَا اللهُ , عَظّمْ أجْرَنا فِينا , فقدْ مِتنَا بمَا يَكفِي لنعِيشَ . أيتُهَا الحَياةُ , لَسنَا سَيّئينَ كمَا تَظُنّينَ , تَعالَيْ , اِقترِبِي بِمقدارِ فَرسخٍ , أو نصفِ شبرٍ , تعالَيْ اجْمعِي مَا انْكسرَ فِينا , واعْتذرِي لأمّي كيْ أحبَّكِ . ____________________________ نـُشر هذا النص في جريدة الرأي الاردنية وايضاً في جريدة الدستور |
طوق ياسمين دمشقي لكل من سيمر من هنا , ولو بصمت . لماذا أبعاد الادبية !! بصدق .. لأني بحثت عن جديد الاديب عبدالرحيم فرغلي فوجدته في ابعاد قلت : سأكون بُعداً لعل هذا السامق يقرأ لي . __________________ من لا يعرف الغفران ,, لا يعرف الله . |
استقطع هذا النص زمناً من عمري يا سهير
كنتُ أتصفح ذاكرتي كم حرفاً من حروفك صافح لم أكمل النص لإنه أراقني عند منتصفه فلم يبقَ ما يعينني على الإستمرار اقتباس:
ليست كذلك فلربما عنيتِ الدنيا وإن كانت الدنيا لزاد الآخرة قال تعالى (وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهيالحيوان لو كانوا يعلمون ) صدق الله العلي العظيم ، العنكبوت آية 64 وإن كنت أظنكِ عنيتِ تلك الحياة التي كانت بذات الألم والفاقة وهي ليست كذلك أيضا فقد ورد أن الفقر زينة المؤمن وإن الصبر على الفقر لجهاد في سبيل الله اقتباس:
ما عساي أكتب أمام هذا النص سوى أنه يلامس كل أوجاعنا بصدق أما أنتِ فيلزم من حروفنا انحناءة في مقامك هذا لك أصدق الدعوات حُسَيْن |
لن تغيب الشمس يوماً إلا لتشرق من جديد يـ سهير.. رسمتِ لنا تفاصيل جافة عارية من كل لذة .. وأوجاع تساقطت من عمق السحاب.. ولكنها انسابت بحروف رقراقة بين أناملك.. سهير.. كل الإمتنان للقدير عبدالرحيم فرغلي بأن ساقكِ إلينا..! |
الاخ حسين هلال البو حسن يُقلقني التعليق الأول , أجده ثيرموميتر لقياس حرارة نبض النص . شكرا لحضورك الوارف . ______________ من لا يعرف الغفران ,, لا يعرف الله . |
فاتن حسين .. اهلاً كثيراً , حضور كـ رنة الذهب . شكراً وهذه :icon20: لروحك . ____________________ من لا يعرف الغفران ,, لا يعرف الله . |
اقتباس:
تحياتي لك ولقلمك المبدع |
عروب باكير .. ممتنة لتواجدك , شكراً كثيراً ________________ من لا يعرف الغفران ,, لا يعرف الله . |
الساعة الآن 01:54 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.