منتديات أبعاد أدبية

منتديات أبعاد أدبية (https://www.ab33ad.com/vb/index.php)
-   أبعاد النقد (https://www.ab33ad.com/vb/forumdisplay.php?f=7)
-   -   قراءة في قصيدة : علي مؤاخذة الطين للشاعر مصطفى معروفي (https://www.ab33ad.com/vb/showthread.php?t=44707)

مصطفى معروفي 05-18-2025 09:16 PM

قراءة في قصيدة : علي مؤاخذة الطين للشاعر مصطفى معروفي
 
القصيدة:
علي مؤاخذة الطين
شعر مصطفى معروفي
ــــــــــــــــــــ
مناصٌ سديدٌ لديَّ
على الماء علقتُ أمشاجه
من طريق لآخر أحملهُ،
يتصاهل تحت ثيابي هبوب المياه
وينشطر الوقت بين يديّ
أوضّبُ نيرانه بصراط الطفولة
لمّا المحاريث تمشط حقلا
بأظفارها النيّئةْ...
نازلا من غيمة تتخثّر
أوصِدُ باب الإدانةِ
أعْبر معتقدَ الطقسِ
لا أتذكّر رقص الظلال
أيائِلُ غاب السهول تراني فتمضي
إلى النهر شاكرةً
حيث تغفر ما للزنابق من
شبَقٍ سافرٍ
سأجرُّ إلى الظل كوكبه
ثم أوصي المساء بغاشية الأرض
أو بالوعول التي ضمنتْ مرْبًضا لليمام الذي
أسّسَ مدفأةً في مراوحهِ...
إنني حذِرٌ
لي مدار يطلّ على القلب
لي العتباتُ الأليفةُ
والفيضان الذي نجمه الأخضر المتبقي موغلٌ
في السطوعِ
عليّ مؤاخذة الطينِ
ما كان يشْرع ضحكتَهُ للنوافذ مفتتنا
ثم ينسى الجدار بلا وازعٍ خلُقيٍّ
أدير كؤوس العتابِ
وبيني وبين الهشاشة خمسٌ
من القبّراتِ لا غيْر.
ـــــــــــــــــــ
مسك الختام:
كفاني الفـخـرَ أني إنْ أحاولْ
خشونةَ عزْمةٍ صارت حريرا
وأنأى عــــن لئـام القوم كيْلا
يراني المجد لست به جديرا
ــــــــــــ
القراءة:
بقلم الدكتور نور الدين برحيلة
ــــــــ
تحية مودة واحترام وتقدير لأمير شعراء المغرب مصطفى معروفي، يباغثنا مرة أخرى بقصيدة “عليّ مؤاخذة الطينِ” وهي سيمفونية العتاب الوجودي المزيف..

يفتتح الشاعر قصيدته بعنوان يتدفق شاعرية تهكمية “عليّ مؤاخذة الطينِ” ببحث عن نقطة ارتكاز “مناص سديد”، لكنها مفارقة مُعلّقة على الماء، رمز الزوال والتغيّر. هذا التناقض يضعنا مباشرة أمام ثيمة مركزية: محاولة إيجاد الثبات في عالم سيال. حمل هذا المرتكز “من طريق لآخر” يشي برحلة وجودية دؤوبة، بحث عن معنى أو يقين في دروب الحياة المتشعبة. انسياب الوقت “يتصاهل هبوب المياه” وانشطاره “ينشطر الوقت بين يديّ” يؤكد على طبيعته المراوغة وغير القابلة للإمساك كالماء الذي ينفلت من بين أصابع اليد.

وفي محاولة لمواجهة “نيران” الحاضر الملتبس، يلجأ الشاعر إلى “صراط الطفولة”، وكأنه يستنبط منها بوصلة أو مرهمًا. صورة المحاريث التي “تمشط حقلا بأظفارها النيّئة” تحمل وحشية بدائية، ربما تعكس قسوة الواقع التي تحاول براءة الطفولة تلطيفها أو فهمها. هناك تداخل بين نقاء البدايات وخشونة الحاضر، بمعنى أن الواقع مُر والمعنى بئيس.

يواصل أمير شعراء المغرب الخرق الممنهج للغة الشعرية والانزياحات العنقودية “نازلا من غيمة” ليؤسس لعزلة اختيارية “أوصِدُ باب الإدانةِ” مع رفض إدانة الذات أو الآخر يمنحه حرية فردية، لكنه قد يعكس أيضًا شعورًا بالاغتراب. عبوره “معتقدَ الطقسِ” يشير إلى تجاوز الأعراف والتقاليد السائدة بحثًا عن رؤية شخصية. فقدان ذكرى “رقص الظلال” يوحي بانطفاء بهجة انطفاء الطفولة وانفجار الماضي بحبيباته الضيابية..

تتجسد علاقة صامتة وربما مُتصالحة مع الطبيعة في صورة الأيائل الشاكرة. لكن هذا الانسجام يشوبه ظل خفي في عبارة “ما للزنابق من / شبَقٍ سافرٍ”، وكأن هناك جانبًا غير مُستحب أو مكشوف في هذا الجمال الطبيعي، يثير تساؤلات أخلاقية أنطولوجية..

تتوالى صور تحمل طابعًا كونيًا وتأمليًا. جر الكوكب إلى الظل وتوصية المساء يوحيان بمحاولة فهم دورة الكون. صورة الوعول التي ضمنت مربضًا لليمام تخلق عالمًا شعريًا فريدًا يمزج بين الماناقضات في عالم الزيف..

يصل الشاعر إلى لب العنوان المقترح: “عليّ مؤاخذة الطينِ”. هناك وعي ذاتي حذر ومراقبة داخلية “مدار يطلّ على القلب”، “العتبات الأليفة” تشير إلى مساحة شخصية حميمة، بينما “الفيضان الذي نجمه الأخضر المتبقي موغلٌ في السطوعِ” تحمل صورة متناقضة لقوة مدمرة تحمل بقايا أمل أو نور. مؤاخذة “الطين” هي محاسبة للجانب الأرضي أو الغريزي في الذات الذي يندفع بعفوية “يشرع ضحكته للنوافذ مفتتنا” ثم تتبخر المسؤولية الأكسيولوجية “ينسى الجدار بلا وازعٍ خلُقيٍّ”.

“إدارة كؤوس العتاب” هي استمرار لمساءلة الذات ومحاسبتها. المسافة الضئيلة بين الشاعر والهشاشة “خمس من القبّرات” تبرز قرب الانكسار والضعف الإنساني. القبّرات، رمز الرقة والخفة، تشير إلى مدى سهولة تحطم الذات الهشة.

يختتم الشاعر بتأكيد على قيمة الجهد الصادق “نْ أحاولْ / خشونةَ عزْمةٍ صارت حريرا” والابتعاد عن الدناءة كشرط أساسي لنيل المجد الحقيقي. الفخر هنا ليس بالوصول، بل بالسعي النبيل والاجتهاد المستمر.

قصيدة “عليّ مؤاخذة الطين’ هي عمل شعري وجودي معقد يتسم بالعمق والتجريد. يعتمد الشاعر على صور حسية قوية ومفارقات دلالية لاستكشاف ثيمات الوحدة، البحث عن الثبات، العلاقة المتوترة بين الذات والعالم، ومساءلة الذات وعيوبها. اللغة غنية وموحية، وتترك للقارئ مساحة واسعة للتأويل والتفاعل مع النص. هناك شعور دائم بالبحث والتساؤل، وكأن الشاعر في رحلة داخلية مستمرة لفهم طبيعة الوجود الإنساني وتقلباته. العنوان المقترح “عليّ مؤاخذة الطينِ” يركز بشكل أعمق على صراع الشاعر الداخلي ومحاسبته لذاته، مما يضفي على القصيدة بعدًا ذاتيا لتصبح سيرة ذهنية شعرية نادرة الحدوث.
مع مودتي أخي الحبيب


الساعة الآن 04:38 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.