![]() |
خِبَاءُ اللَّحْظَةِ: سَرَدِيَّاتُ الْوُجُودِ الْخَفِيَّةِ!
خِبَاءُ اللَّحْظَةِ: سَرَدِيَّاتُ الْوُجُودِ الْخَفِيَّةِ!
(1) حينَ يَسْكُنُكَ الوجودُ خِفْيةً! هُوَ الزَّمَنُ الَّذِي... يَنْزَفُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِنَا كَالرِّمَالِ الحَارَّةِ، وَنَحْنُ نَسْعَى خَلْفَ أَعْمَاقِهِ، كَغَوَّاصِينَ فِي مُحِيطِ اللَّحْظَاتِ. هُنَاكَ، تَحْتَ سَطْحِ السَّاعَاتِ المُتَكَاسِلَةِ، تَكْمُنُ أَسْرَارُ الوُجُودِ: لَمْسَةُ نَدًى عَلَى وَرَقَةٍ، صَمْتُ الكَلِمَاتِ قَبْلَ أَنْ تُولَدَ، وَرَعْشَةُ القَلْبِ عِنْدَمَا تُحَاوِرُ السَّمَاءُ الأَرْضَ بِأَلْوَانِ الغُرُوبِ. الجَمَالُ لَيْسَ مَكَانًا نَبْلُغُهُ، بَلْ هُوَ حَالَةٌ نَنْصَهِرُ فِيهَا كَالشَّمْعِ؛ نَذُوبُ فِي ضَحْكَةٍ لَمْ نَسْمَعْهَا قَطُّ، أَوْ فِي عَيْنَيْنِ تَحْمِلَانِ أَسْئِلَةَ البِدَايَاتِ. نَحْنُ لَسْنَا سُكَّانَ الزَّمَنِ، بَلْ سُكَّانُ تِلْكَ الشَّظِيَّةِ الَّتِي تَتَعَثَّرُ فِيهَا الأَنْفَاسُ، وَتُصْبِحُ الأَشْيَاءُ البَسِيطَةُ... مِثْلَ حَبَّةِ قَمْحٍ — كِتَابًا مُقَدَّسًا. أَتَذْكُرُ يَوْمًا... لَمَسْتَ فِيهِ الحَيَاةَ بِرِجْلٍ عَارِيَةٍ؟ يَوْمًا شَمِمْتَ فِيهِ خُطُوَاتِ المَطَرِ، أَوْ أَنْصَتَّ إِلَى صَوْتِ القَمَرِ وَهُوَ يَحْكِي لِلنُّجُومِ حِكَايَاتِهِ السَّرِّيَّةِ؟ العَالَمُ يُنَاجِينَا بِصَوْتٍ أَخْفَضَ مِنَ الهَمْسِ، بِلُغَةٍ لَا يَفْهَمُهَا إِلَّا مَنْ يَرْكَعُ عَلَى جَبِينِ اللَّيْلِ، وَيَفْتَحُ كَفَّيْهِ لِصُبْحٍ جَدِيدٍ... كَطِفْلٍ يُقْبِلُ عَلَى أَحْلَامِهِ دُونَ خَوْفٍ. لَا تَسْأَلْنِي عَنِ الحَقِيقَةِ، فَقَدْ تَاهَتْ بَيْنَ أَشْطَارِ قَصِيدَةٍ. اِسْأَلْنِي عَنْ يَدٍ دَافِئَةٍ كَسَرْبِ الحَمَامِ، عَنْ صَبَاحٍ يَتَعلَّقُ بِشُعَاعٍ وَاحِدٍ، عَنْ قَلْبٍ يَرْقُصُ... حِينَ تُنَادِيهِ الرِّيحُ بِاسْمِهِ المَنْسِيِّ. الحَيَاةُ تَخْتَبِئُ فِي التَّفَاصِيلِ: فِي غُصُونٍ تَتَكَسَّرُ تَحْتَ وَقْعِ الثَّلْجِ، فِي نَظْرَتَيْنِ تَلْتَقِيَانِ دُونَ مَوَاعِيدَ، فِي زَفْرَةٍ تُسْكِبُهَا القُدُورُ قَبْلَ الغَلَيَانِ. عِشْ كَأَنَّكَ تُحَاوِرُ الوُجُودَ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ: اِشْرَبِ القَهْوَةَ كَأَنَّهَا آخِرُ مَاءٍ عَلَى الأَرْضِ، اِحْضُنِ اللَّيْلَ كَأَنَّهُ وَطَنٌ يَهْرُبُ مِنْ بَيْنِ أَضْلُعِكَ، وَاقْرَأْ كِتَابَ العَالَمِ بِعَيْنَيْ مَنْ يَعْرِفُ أَنَّهُ سَيُغَادِرُ قَرِيبًا. لَنْ تَبْقَى إِلَّا... تِلْكَ اللَّحَظَاتُ الَّتِي أَخَذَتْكَ إِلَى حَافَةِ المَسَاءِ: لَحْظَةٌ صَافِيَةٌ كَنَدًى عَلَى زُجَاجِ القَدَرِ، تَرْكُضُ فِيهَا كَالطِّفْلِ الَّذِي... يَرَى أَحْجَارَ البَحْرِ تَتَحَوَّلُ إِلَى ذَهَبٍ، وَتَنْتَهِي بِكَ إِلَى نَفْسِكَ... حَيْثُ تَسْكُنُ، أَخِيرًا، فِي جَسَدِ اللَّحْظَةِ. (2) حين يُوشوشك الحاضر! في زحامِ الأيّامِ، تنسلُّ اللحظاتُ... كنسماتٍ تخطفُها أجنحةُ الوقت، نُحاوِلُ قَبضَها فتَصيرَ رملًا بينَ أصابعِ السّاعات. نركضُ في سباقٍ لا خِطامَ له، ننسى أنّ الحياةَ ليستْ عنوانًا عريضًا، بل كلماتٌ صغيرةٌ تتساقطُ بينَ الفواصلِ: ضحكةٌ تنبُتُ فجأةً كزَهرةٍ في صحراءِ الهَمّ، نغمةُ صوتٍ حنونٍ تَمسحُ التّعبَ عن غُربةِ الأيّام، أو شمسٌ تغيبُ خجلةً وتتركُ أثرَها على جبينِ الغيم. فنُّ اللّحظةِ ليسَ ترفًا، بل نَبضٌ نحاولُ إيقافَهُ لنسترجِعَ أنفاسَنا. نحنُ لسْنا سوى مرآةٍ تعكِسُ أسرارَ الوجود، كلُّ جمالٍ نراهُ هو ارتدادٌ لجمالٍ كامِنٍ فينا. العينُ التي ترى نجمةً في ظُلمة، هي نفسُها التي ترى دمعةً تتدفّأُ في عينيْ غريب. الجمالُ لا يصرخُ... إنّه يتسرْبلُ بثوبِ الخفاء: رائحةُ قهوةٍ تتراقصُ في شارعٍ مهجور، خطواتٌ تقطعُ صمتَ الليلِ كتمزيقةِ ورق، أو نظرةُ طفلٍ يُحاولُ فهمَ لغةِ البسْطة. لا تطلبْ منَ الحياةِ أنْ تتكلّم... اسمعْ صمتَها، ففيه إجاباتٌ أعمقُ من كلّ الكلمات. كلُّ لحظةٍ هي وحدةٌ لا تُشبهُ أختَها: الشمسُ تغيبُ كلَّ مساء، لكنّ عينيْكَ لا ترى نفسَ البقعةِ المضيوفة، لأنّك أنتَ... لستَ من كنت. أنْ تحبِسَ اللحظةَ، هو أنْ تُقبّلَ ظلَّك العابر، أنْ تعترفَ بأنّك وُجِدتَ هنا... ولم تكنْ قطُّ قبلَ الآن. الحواسُّ تتحوّلُ إلى أبوابٍ مشرَّعة: العينُ تلتهمُ الألوانَ كنحلةٍ تشربُ رحيقَ الوجود، الأُذُنُ تسمعُ خفَقاتِ الورقةِ قبلَ أن تسقط، والجِلدُ يسجدُ لرقّةِ النسيم... كأنّ الحياةَ تُرسِلُ إليكَ رسالةً سرّية: «لا تخَفْ... أنا أُحاورُ جسدَك قبلَ أن أرحل». حتّى الألمُ يمتلكُ وجهًا جميلاً... يفتحُ فيكَ بؤرةَ ضوءٍ لكلِّ ما هو إنسانيّ. والانتظارُ... ذاك الوحشُ الرقيق، يُعلّمُكَ أن تسكتَ حتّى تسمعَ دقّاتِ قلبِ الزمن. نحنُ لسْنا فقراءَ إلى الجمال، بل إلى نظرةٍ ترفضُ السّطح، نظرةٍ تغوصُ في الأسفلِ... لتصعدَ بكلمةٍ: "أنتَ حيّ." أنْ تتمهّلَ في عالمٍ يركضُ كالسُّكّرِ المنثور... هذه أعظمُ ثورة. أنْ تَركَعَ لتجمعَ شظايا اللحظة: ورقةٌ تسقُطُ كصلاة، صوتٌ يتكسَّرُ على جدارِ الذكرى، أو حجرٌ يُشبهُ قلبًا قديمًا. العجائبُ لا تدقُّ الأبواب... إنّها تمرُّ بخطواتِ القطاة، وتتركُ خلفَها أثرًا من ندى... لكي تعرفَ أنّك لم تكنْ وحدَك. لن تكونَ الحياةُ أعظمَ ممّا عشتَ: رشفةُ قهوةٍ تذوبُ فيها أسرارُ الصباح، حديثٌ عن لاشيءَ... يبقى كنقشٍ على جدارِ الرّوح، سماءٌ تلتهمُها عيناكَ قبلَ أن تعودَ إلى أرقامٍ لا تعرفُ الرّحمة. الحياةُ ليستْ ما نبنيهِ... بل ما ننساهُ فيصيرُ جذورًا. مَن عاشَ اللحظةَ بكلّ عُريِها، لا يخشى الفقدَ... لأنّ ما ذاقَهُ صارَ دمًا يجري في عُروقِ الزمن. الجمالُ ليسَ ما نراهُ... بل ما نحمِلُهُ في صمتِنا حين تنتهي اللعبة. وَحْدَهُ الحَاضِرُ يَمْلِكُ سِرَّ الخُلُودِ.. فَفِيهِ تَتَفَتَّحُ الزُّهُورُ الَّتِي نَسِينَا أَنَّنَا زَرَعْنَاهَا، وَفِيهِ يُنْصِتُ القَلْبُ لِوَقْعِ خُطَاهُ فِي الطَّرِيقِ إِلَى نَفْسِهِ. (3) سِيَرُ المَوَاجِيدِ الخَفِيَّة! تُدَثِّرُنَا الأَيَّامُ بِأَكْفَانِهَا المُسَرْوَبَةِ، وَنَحْنُ نَرْكُضُ خَلْفَ غَدٍ وَهْمِيٍّ... نَشْرَبُ الوَقْتَ كَالسَّمِّ فِي قَلْبِ العُجَالَةِ، حَتَّى إِذَا اسْتَيْقَظْنَا عَلَى حَافَّةِ اللَّحْظَةِ، وَجَدْنَاهَا قَدْ صَارَتْ رَمْلًا بَيْنَ أَضْلُعِنَا. لَكِنَّ الحَيَاةَ تَنْبُتُ فَجْأَةً... كَضَحْكَةٍ تَخْرِقُ جِلْدَ الوَقْتِ، كَغُرُوبٍ يَسْكُبُ نَفْسَهُ فِي فَمِ البَحْرِ، كَخَطْوَةٍ تَتَوَقَّفُ لِتُحَاوِرَ وَرَقَةً سَاقِطَةً... هَذِهِ هِيَ المَوَاجِيدُ الخَفِيَّةُ: لُغَةٌ تَتَكَلَّمُ بِهَا الأَشْيَاءُ البَسِيطَةُ قَبْلَ أَنْ تَمُوتَ. فَنُّ الحَاضِرِ لَيْسَ هُرُوبًا... بَلْ هُوَ غَوْصٌ فِي أَحْشَاءِ الوَقْتِ: أَنْ تَشُمَّ رَائِحَةَ الأَرْضِ بَعْدَ أَنْ تَبْكِيَهَا السَّمَاءُ، أَنْ تَسْمَعَ وَشْوَشَةَ القَهْوَةِ تَتَصَاعَدُ فِي الصَّبَاحِ البَاكِرِ، أَنْ تَلْتَقِطَ بِعَيْنَيْكَ ارْتِعَاشَاتِ النُّورِ عَلَى جَبِينِ البُسْتَانِ. الحَيَاةُ تُرْسِلُ رَسَائِلَهَا بِصَوْتٍ أَقَلَّ مِنْ هَمْسِ الجَنَاحِ... فَمَنْ يَنْحَنِي... يَسْمَعُ. نَحْنُ لَسْنَا سِوَى أَوْرَاقٍ تَتَقَلَّبُ فِي رِيحِ الزَّمَنِ، نَخَافُ أَنْ نَسْقُطَ... غَافِلِينَ أَنَّ السُّقُوطَ هُوَ الوَحِيدُ الَّذِي يُعَلِّمُنَا الطَّيَرَانَ. الجَمَالُ لَيْسَ مَكَانًا نَصِلُ إِلَيْهِ، بَلْ هُوَ حَالَةٌ نَسْكُبُ فِيهَا أَنْفُسَنَا: نَخْبِزُ الخُبْزَ كَأَنَّهُ آخِرُ مَا تَبَقَّى مِنْ قُدْسِيَّتِنَا، نُحَاوِرُ الغَرِيبَ كَأَنَّهُ كِتَابٌ مَفْتُوحٌ عَلَى أَسْرَارِ العَالَمِ، نَمْشِي فِي الشَّارِعِ كَأَنَّنَا نَمْشِي عَلَى جِلْدِ قَلْبٍ ضَخْمٍ. حَتَّى الأَلَمُ... يُمْسِي جَمِيلًا حِينَ نَفْهَمُهُ: كُلُّ جُرْحٍ هُوَ بَابٌ، كُلُّ دَمْعَةٍ نَهْرٌ يَجْرِي إِلَى مَحَطَّةِ الفَهْمِ. وَالانْتِظَارُ... لَيْسَ فَرَاغًا، بَلْ هُوَ مَسَاحَةٌ تَتَنَفَّسُ فِيهَا الأَشْيَاءُ الصَّغِيرَةُ: نَمْلَةٌ تَحْمِلُ أَثَرَهَا عَلَى ظَهْرِهَا، أَوْ يُسْرَى لَيْلِيَّةٌ تُحَاوِرُ زُجَاجَ النَّافِذَةِ. العَالَمُ يَتَكَلَّمُ دَائِمًا... بِطَرِيقَةٍ أَقْرَبُ إِلَى الصَّمْتِ. فَمَنْ يَتَوَقَّفْ عَنِ الكَلَامِ... يَسْمَعْ دَقَّاتِ قَلْبِ الوُجُودِ: خُطُوَاتٌ عَلَى دَرَجٍ عَتِيقٍ، صَدَى أُغْنِيَةٍ بَعِيدَةٍ تَتَأَرْجَحُ عَلَى حَبْلٍ وَاحِدٍ، رَائِحَةُ خُبْزٍ تَنْسَابُ مِنْ بَيْتٍ لَا نَعْرِفُ أَحَدًا فِيهِ. لَنْ نَذْكُرَ عِنْدَ المَوْتِ إِلَّا اللَّحَظَاتِ الَّتِي عِشْنَاهَا بِكَثَافَةِ الأَبَدِ: لَحْظَةٌ كَانَتْ فِيهَا يَدُ أُمِّي تَعْجِنُ الذِّكْرَى وَالحَنِينَ، قُبْلَةٌ أَخَذَتْنَا إِلَى حَدِّ الكَوْنِ... ثُمَّ تَرَكَتْنَا نَنْزِفُ نُجُومًا، صَمْتٌ كَانَ أَبْهَى مِنْ كُلِّ الكَلِمَاتِ. الحَيَاةُ لَيْسَتْ مَا نَصْنَعُهُ... بَلْ مَا يَصْنَعُنَا حِينَ نَنْسَى أَنْ نَصْنَعَ. كُلُّ لَحْظَةٍ عِشْتَهَا بِعُمْقٍ... تَصِيرُ جِسْمًا آخَرَ يَنْضَحُ مِنْ جَسَدِكَ: نُورٌ فِي عَيْنَيْكَ حِينَ تَبْسِمُ، رَجْفَةٌ فِي يَدَيْكَ حِينَ تُحَاوِرُ الوَجَعَ، أَوْ صَوْتٌ فِي حَنْجَرَتِكَ يَعْرِفُ أَنَّهُ سَيَمُوتُ... فَيَتَحَوَّلُ إِلَى أُغْنِيَةٍ. الزَّمَنُ لَا يَمْضِي... إِنَّمَا نَحْنُ مَنْ يَسْقُطُ فِيهِ كَحَبَّةِ ضَوْءٍ تَسْتَعِرُ فِي العَتَمَةِ. وَحْدَهُ مَنْ يَحْتَضِنُ الحَاضِرَ كَأَنَّهُ النَّفَسُ الأَخِير، يَخْلُدُ... لِأَنَّهُ عَاشَ مَرَّةً وَاحِدَةً كَأَلْفِ حَيَاة. جهاد غريب مايو 2025 |
الساعة الآن 11:10 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.