منتديات أبعاد أدبية - عرض مشاركة واحدة - رِحْلَةُ النَّفْسِ فِي مَرَايَا العُبُورِ!
عرض مشاركة واحدة
قديم 05-23-2025, 07:14 PM   #1
جهاد غريب
( شاعر )

الصورة الرمزية جهاد غريب

 






 

 مواضيع العضو

معدل تقييم المستوى: 2715

جهاد غريب لديها سمعة وراء السمعةجهاد غريب لديها سمعة وراء السمعةجهاد غريب لديها سمعة وراء السمعةجهاد غريب لديها سمعة وراء السمعةجهاد غريب لديها سمعة وراء السمعةجهاد غريب لديها سمعة وراء السمعةجهاد غريب لديها سمعة وراء السمعةجهاد غريب لديها سمعة وراء السمعةجهاد غريب لديها سمعة وراء السمعةجهاد غريب لديها سمعة وراء السمعةجهاد غريب لديها سمعة وراء السمعة

افتراضي رِحْلَةُ النَّفْسِ فِي مَرَايَا العُبُورِ!


رِحْلَةُ النَّفْسِ فِي مَرَايَا العُبُورِ!
نصوصٌ عن الكَسْرِ، والتَّشَظِّي، والمِيلَادِ مِنْ جَدِيدٍ


(1)
انْكِسَارُ السَّاعَاتِ العَتِيقَة فِي جَوْفِ العَتْمَةِ!

كُنتُ خُطًى مَطْمُئِنَّةً تَخْطُو فَوْقَ حَبْلٍ وَاهِنٍ...
حَتَّى انْكَسَرَ الحَبْلُ بِصَمْتٍ...
وَسَقَطْتُ فِي فَجْوَةٍ لَمْ تَكُنْ عَلَى خَرِيطَتِي.

أَنَا... الَّذِي ظَنَّ أَنَّ الكَأْسَ بِيَدِهِ،
لَكِنَّ الكَأْسَ كَانَ انْعِكَاسًا لِزُجَاجٍ مُهَشَّمٍ،
وَالشَّفَتَيْنِ...
نَزَفَتَا الحَقِيقَةَ قَبْلَ أَنْ تَذُوقَا الكِذْبَةَ.

العَالَمُ يَدُورُ كَسَاعَةٍ مَكسُورَةِ العَقَارِبِ،
نَحْنُ نُحَاوِرُ ظِلَالَنَا...
فِي غُرْفَةٍ مُظْلِمَةٍ،
ونَصْنَعُ مِنَ الرُّوتِينِ
سِتْرًا لِهَزِيمَتِنَا.

كُنْتُ أَرَى الوُجُوهَ تَتَكَلَّمُ بِلُغَةِ المَلَلِ،
وَالأَمَاكِنَ تَحْمِلُ رَائِحَةَ الذِّكْرَى المَخْنُوقَةِ،
وَأَنَا فِي الوَسَطِ:
كُتْلَةٌ مِنْ صَمْتٍ تُحَاوِلُ أَنْ تَتَشَبَّهَ بِالبَشَرِ.

لَمْ أَكُنْ حَزِينًا...
لَكِنَّنِي كُنتُ أَرْضَخُ لِلْعَيشِ،
كَمَنْ يَغْرِقُ فِي بَحْرٍ مِنْ قُطنٍ،
لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا انْتِهَاء.

الوُجُودُ كَانَ وَعْدًا مُعَلَّقًا بِخَيْطٍ،
أَمَامَ عُيُونٍ...
تُحَاوِلُ أَنْ تُقْنِعَ نَفْسَهَا
بِأَنَّ الخَيطَ قَوِيٌّ،
وَأَنَّ السُّقُوطَ مَشْهَدٌ مِنْ مَشَاهِدِ المَسْرَحِ.

فَجْأَةً...
تَسَاقَطَتْ الحُرُوفُ مِنْ يَدَيَّ.
صِرْتُ أَرَى الكَلِمَاتِ تَنْزَحُ عَنْ مَعَانِيهَا،
وَالرُّوحَ تَنْسَابُ كَالرَّمْلِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِي.

لَمْ أَعْرِفْ:
أَنَّ التَّوَازُنَ فَوْقَ الحَافَّةِ كَانَ مَوْتًا بِالبُطْءِ،
أَنَّنِي أَرْقُصُ عَلَى حَدِّ السَّيْفِ،
أَخْفِقُ فِي إقْنَاعِ نَفْسِي بِأَنَّ السَّيْفَ وَهْمٌ،
وَأَنَّ الدَّمَ الَّذِي يَنْزِفُ مِنْ قَلْبِي حَقِيقَةٌ.

هَكَذَا كُنتُ..
رَجُلًا يَبْنِي قَصْرَهُ مِنْ أَوْهَامٍ،
ثُمَّ يَسْقُطُ مَعَ القَصْرِ...
بِصَمْتٍ يُشْبِهُ الأَصْوَاتَ الَّتِي لَمْ تُقَل.


(2)
انْكِسَارُ الأَقْنِعَةِ عَلَى حَافَّةِ الحَقِيقَةِ!

لَمْ يَكُنِ السُّقُوطُ صَرِيعَ صَخَبٍ...
بَلْ شَقٌّ صَغِيرٌ فِي جِدَارِ الْيَقِينِ.

سُؤَالٌ وَاحِدٌ:
هَلْ هَذَا كُلُّ شَيْء؟
انْفَتَحَ كَالْفَخِّ فِي قَلْبِ اللَّيْلِ،
وَأَنَا أَسْقُطُ دَاخِلَ نَفْسِي...
كَقِطْرَةِ مَطَرٍ تَذُوبُ فِي مُحِيطٍ لَا قَاعَ لَهُ.

كُلُّ شَيْءٍ بَدَأَ يَنْسَلِخُ:
وُجُوهٌ تَتَحَوَّلُ إِلَى أَشْبَاحٍ عَلَى جِدَارِ الذَّاكِرَةِ،
كَلِمَاتٌ تَتَكَسَّرُ كَزُجَاجٍ عَلَى شَاطِئِ لِسَانِي،
حَتَّى أَنَا… صِرْتُ غَرِيبًا عَنْ مَرْآةِ نَفْسِي.

لَحْظَةُ الْهُبُوطِ...
كَانَتْ صَوْتَ ارْتِطَامِ الْأَرْضِ بِجَسَدِي...
دُونَ أَنْ أَمَسَّهَا.
كُنْتُ أَذُوبُ مِنْ أَطْرَافِي نَحْوَ الدَّاخِلِ:
عُظْمٌ يَتَناثَرُ،
وَرُوحٌ تَتَحَلَّقُ فِي فَضَاءٍ لَا لَوْنَ لَهُ.
كُنْتُ أُفْلِتُ مِنْ نَفْسِي كَرَمَادٍ…
لَا شَكْلَ وَلَا رَائِحَةَ وَلَا وَطَنَ.

وَفِي قَعْرِ الْهَوِيّةِ،
حَيْثُ لَا أَصْوَاتَ سِوَى صَدَى أَضْلَاعِي،
وُلِدَ شَيْءٌ جَدِيدٌ:
صِدْقٌ مُطْلَقٌ يُشْبِهُ طِفْلًا عَارِيًا...
يَبْكِي بِلا دُمُوعٍ.

وَبَيْنَ السُّقُوطِ وَالوِلَادَةِ،
كَانَ هُنَاكَ لَحْظَةٌ،
لَمْ تَكُنْ حَيَاةً وَلَا مَوْتًا،
بَلْ مَادَّةُ الْوُجُودِ نَفْسِهَا
تَتَحَسَّسُ جُرْحَهَا.

هَذَا أَنَا الْآنَ…
لَيْسَ الَّذِي كُنْتُ:
رَجُلٌ يَمْشِي عَلَى شظَايَا مَا تَبَقَّى مِنْ أَسْمَائِهِ،
يُمَضِّغُ الْحَيَاةَ،
كَلُغْزٍ لَا يُرِيدُ حِلَّهُ،
يَرَى الْعَالَمَ مِنْ أَسْفَل:
حَيْثُ تَسْقُطُ الأَقْنِعَةُ،
وَتَنْكَشِفُ الْوُجُوهُ كَنُجومٍ تُنْتِجُ الظَّلامَ،
بَعْدَ أَنْ تَكُونَ قَدْ أَفْنَتْ نُورَهَا.

وَتَلُوحُ الْحَقِيقَةُ…
مُجَرَّدَةً،
مُخِيفَةً،
جَمِيلَةً.

سَقَطْتُ... فَوَجَدْتُنِي:
لَا ذَاكَ الَّذِي انْكَسَرَ،
وَلَا هٰذَا الَّذِي يَنْبُتُ...
وَلٰكِنْ بَيْنَهُمَا:
وِلَادَةٌ تَسْبَحُ فِي عَتْمَتِهَا.


(3)
وِلَادَةُ الأَبْجَدِيَّةِ الَّتِي لَمْ تُكْتَبْ بَعْدُ!

لَنْ تَبْدَأَ الْحَكَايَاتُ مِنْ لَحْظَاتِ الْوُرُودِ،
بَلْ مِنْ حَيْثُ تَلْتَصِقُ الْجِبَاهُ بِالْأَرْضِ:
لَيْسَ سُجُودًا...
بَلْ انْكِسَارٌ يَبْزُغُ مِنْهُ نُورٌ غَرِيبٌ.

هَا هِيَ الْأَقْنَاعُ تَتَحَلَّلُ...
كَالْمِلْحِ فِي مَطَرِ الْحَقِيقَةِ،
وَالْعُقَدُ تَنْسَحِبُ مِنْ لَحْمِي،
كَخُطُوطٍ تُـمْلَى عَلَى جِلْدِ زَمَنٍ مَيِّتٍ.
كُلُّ شَيْءٍ يَسْقُطُ… فَتَخْرُجُ الْأَسْرَارُ مِنْ قُبُورِهَا،
تَصْرُخُ بِصَوْتٍ لَيْسَ صَوْتِي:
هَذَا أَنْتَ! لَيْسَ مَا اخْتَرْتَ أَنْ تَصْنَعَهُ!

أَنَا هُنَا…
فِي قَاعِ الْفَرَاغِ الَّذِي لَا يَصْمُتُ،
أَمْضَغُ ذَاتِي كَالْوَرَقِ الْبَالِي:
مَرَّةً هِيَ مَرَارَةُ الْحَنَظَلِ،
وَمَرَّةً هِيَ حَلاَوَةُ الْعَسَلِ...
الْـمَسْرُوقِ مِنْ خَلِيَّةِ الْغُرَبَاءِ.

الِانْهِيَارُ لَيْسَ فَنَاءً…
إِنَّهُ رَحِمٌ تُنْتِجُ وَعْيًا بِلا أَغْلِفَةٍ.
قَلْبِي الْآنَ يَمُدُّ إِصْبَعَهُ نَحْوَ الضَّوْءِ:
اُنْظُرْ…
هَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ تَلْعَبُ بِالْكَلِمَاتِ،
تَنْسُجُني مِنْ شَظَايَا مَا تَبَقَّى مِنِّي،
كُلَّمَا سَقَطَتْ لَوْحَةٌ… وُلِدَتْ لُغَةٌ.

لَيْسَتْ حَكَايَتِي حُرُوفًا عَلَى وَرَقٍ،
بَلْ نَدَبٌ تَتَحَدَّثُ عَلَى جَسَدِي،
وَصَمْتٌ يَنْزِفُ بِدَمٍ لَا لَوْنَ لَهُ،
وَرِحْلَةٌ إِلَى أَثَارِ مَدِينَةٍ مَسْحُوقَةٍ فِي مِرْآةِ الذَّاتِ.
مَدِينَةٌ كُنْتُهَا أَنَا...
قَبْلَ أَنْ أَتَحَوَّلَ إِلَى رَمَادِهَا.

هَكَذَا…
حِينَ تَسْقُطُ الْأَبْجَدِيَّةُ كُلُّهَا،
أَبْدَأُ أَنَا بِكِتَابَةِ نَفْسِي:
حَرْفًا حَرْفًا…
مِنْ دُونِ قَوَاعِدَ،
مِنْ دُونِ مَعْنًى،
مِنْ دُونِ أَمَلٍ.
فَقَطْ أَنَا وَالْفَرَاغُ…
نَلْعَبُ مَعًا عَلَى حَافَّةِ الْوُجُودِ،
نَنْسِجُ مِنَ العَدْمِ مَخِيطًا لِعَالَمٍ،
حَتَّى نَذُوبَ سَوَاءً فِي لَاشَيْءٍ.


(4)
مَذَاقُ الْحَقِيقَةِ عَلَى شَفَاهِ الْكَسْرِ!

لَمْ يَكُنِ الْانْهِيَارُ جُرْحًا...
بَلْ كَانَ مِرْآةً مَحْمُولَةً عَلَى ظَهْرِ زَمَنٍ عَجُوزٍ،
انْكَسَرَتْ فَأَرَتْنِي أَوْجُهًا لَمْ أَعْرِفْ أَنَّهَا تَسْكُنُنِي:
صَغِيرًا يَبْكِي فِي زَاوِيَةٍ مَنْسِيَّةٍ،
شَيْخًا يَحْمِلُ أَسْمَاءً لَيْسَتْ لَهُ،
وَظِلًّا يَرْقُصُ عَلَى جُثَّةِ مَا كُنْتُ أَدَّعِيهِ.

سَقَطَتِ الأَقْنَاعُ كَأَوْرَاقِ الْخَرِيفِ،
وَوَجَدْتُ نَفْسِي أَقْعُدُ فِي قَلْبِ الرَّمَادِ:
لَيْسَ أَنَا مَنْ كُنْتُ…
وَلَا أَنَا مَنْ أَرَدْتُ…
بَلْ أَنَا مَنْ لَمْ أَجْرُؤْ أَنْ أَكُونَ.

الْانْهِيَارُ كَانَ صَدِيقًا قَدِيمًا يَخْبِئُ مِفْتَاحًا مُغْبَرًّا،
فَتَحَ بِهِ صُنْدُوقًا دُفِنَ تَحْتَ أَضْلَاعِي قَبْلَ أَنْ أُلْدَ:
فِيهِ طِفْلٌ يَرْسُمُ الْحَيَاةَ بِأَلْوَانٍ لَا تُشْبِهُ أَحْلَامَ الْكِبَارِ،
وَفِيهِ نَارٌ لَمْ تَعْرِفْ قَطُّ كَيْفَ تُطَأْطِئُ رَأْسَهَا.

هَا أَنَا…
أَعُودُ إِلَى نَفْسِي كَالسَّائِلِ إِلَى مَجْرَاهُ الْأَوَّلِ،
أَمْشِي...
عَلَى شَظَايَا مَا تَبَقَّى
مِنْ أَكَاذِيبَ كُنتُ أُسَمّيهَا حَيَاتِي،
أَجْمَعُ رُفَاتِي بِبُطْءٍ…
لَا كَمَلِكٍ وَلَا كَضَحِيَّةٍ،
بَلْ كَعُشْبَةٍ بَرِّيَّةٍ تَنْبُتُ فِي فَمِ الْهَزِيمَةِ.

الْقُوَّةُ لَيْسَتْ أَلَّا تَنْكَسِرَ…
بَلْ أَنْ تَتَحَوَّلَ الْكَسْرَةُ إِلَى لُغَةٍ،
وَأَنْ تَرْحَمَ جِرَاحَكَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُبَ مِنَ الْعَالَمِ أَنْ يَضْمِدَهَا.

الْآنَ…
حَيْثُ لَا شَيْءَ يَبْقَى سِوَى الْحَقِيقَةِ،
أَسْكُنُ نَفْسِي كَمَنْ يَسْكُنُ بَيْتًا لَا أَبْوَابَ لَهُ،
أَشْرَبُ قَهْوَتِي…
مُرَّةً كَالْحَيَاةِ وَصَادِقَةً كَالْمَوْتِ.


(5)
سُكُوتُ الْحَقِيقَةِ فِي مَهْدِ الْأَصْوَاتِ!

حِينَ تَخْرُسُ الْأَصْوَاتُ…
لَيْسَ لِأَنَّ الْعَالَمَ صَارَ أَهْوَنَ،
بَلْ لِأَنَّكَ وَقَفْتَ عَنْ مَسَارِ الْهَرَبِ.
هَا هُوَ الصَّوْتُ الْقَدِيمُ يَخْرُجُ مِنْ جُرْحِ الرُّوحِ:
لَيْسَ نَدَاءً…
بَلْ حَفِيفُ أَجْنِحَةٍ تَحْتَ الْأَضْلَاعِ.

صَوْتٌ لَا يَصْهُرُ فِي ضَجِيجِ الْعَالَمِ،
لَا يَلُوذُ بِالْكَلِمَاتِ،
لَا يَخْشَى...
لَا يَتَوَقَّفُ...
لَا يَنْكَسِرُ فِي الْفَرَاغِ

هُوَ يُشْبِهُ نَجْمَةً تَنْزِلُ إِلَى الْأَرْضِ فِي يَوْمٍ مَاطِرٍ،
تُحَاوِرُ الظِّلَّ الْوَاقِفَ خَلْفَ مِرْآتِكَ.

لَيْسَ سُؤَالًا عَنْ مَنْ أَنْتَ…
بَلْ صَدَى أَصْبَابِكَ الْمَدْفُونَةِ تَسْأَلُ:
مَتَى سَتَجْرُؤُ أَنْ تَكُونَ مَا لَمْ تَتَخَيَّلْ؟
لَا جَوَابَ سِوَى ارْتِعَاشَةٍ تَمُرُّ كَالنَّهْرِ فِي جَسَدِكَ.
وَدُمُوعٍ تَبْنِي مَدِينَةً مِنْ مِلْحٍ عَلَى خَدَّيْكَ.

الصَّمْتُ الَّذِي ظَنَنْتَهُ قَفْصًا…
كَانَ مِفْتَاحًا.
فِيهِ رَجَعَ الطِّفْلُ الضَّالُّ،
وَالرَّغْبَةُ الْمُغْبَرَّةُ،
وَالنَّبْضُ الَّذِي اخْتَبَأَ خَلْفَ سِتْرِ الْخَجَلِ…
جَلَسُوا حَوْلِي كَأَشْبَاحٍ تَعْرِفُ طَرِيقَهَا إِلَى الْبَيْتِ.

حِينَ انْكَسَرَ النُّورُ الْخَارِجِيُّ…
وُلِدَ نُورٌ آخَرُ مِنْ جَوْهَرَةِ الْعَتَمَةِ:
حَقِيقَةٌ تَرْتَدِي صَوْتِي،
تَمْشِي إِلَيَّ كَالْأُمِّ الْمُهَجَّرَةِ،
تَضُمُّنِي وَتَقُولُ:
لَا تَخَفْ…
أَنْتَ لَسْتَ غَرِيبًا هُنَا.
أَنْتَ الْبَدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ،
الْكَلِمَةُ الَّتِي لَمْ تُقْرَأْ بَعْدُ،
السَّقْطَةُ الَّتِي وُلِدَتْ مِنْهَا الْأَنْدَادُ.

هَكَذَا…
بَيْنَ الْكَسْرِ وَالْهَزِيمَةِ،
وُلِدَتْ لُغَةٌ لَا تَنْتَمِي إِلَى أَحَدٍ سِوَى نَفْسِي.


(6)
عُودَةُ النَّارِ إِلَى مَهْدِ الْجَمْرِ!

لَمْ يَكُنِ السُّقُوطُ نِهَايَةً،
بَلْ مِفْتَاحُ بَدَايَاتٍ تَخْشَى الْوُلُوجَ،
إِلَّا مِنْ بَابِ الْهَزِيمَةِ.

كُنْتُ كَشَجَرَةٍ تَتَعَصَّبُ ضِدَّ الرِّيحِ،
حَتَّى نَزَعَ الأَلَمُ عَنِّي طَبَقَاتِ:
"يَجِبُ"، "يَنْبَغِي"، "سَأَكُونُ"...
كَالطِّفْلِ الَّذِي يُقَصِّرُ ثَوْبَ الْعِيدِ،
لِكَيْ يَرَى الْجُرْحَ الَّذِي اخْتَبَأَ تَحْتَهُ.

الْآنَ،
بَعْدَ أَنْ صِرْتُ لَا شَيْءَ،
وَجَدْتُ كُلَّ شَيْءٍ:
نَفْسِي الْعَارِيَةَ،
هَشَّةً كَالزَّهْرَةِ،
قَوِيَّةً كَالنَّبَاتِ الَّذِي يَشُقُّ الأَسْفَلْتَ.

نَحْنُ... أَوْلَادُ الْهَوِيَّةِ:
نَحْمِلُ فِي أَكُفِّنَا تُرَابَ الْفَشَلِ،
وَفِي قُلُوبِنَا بُذُورَ سَمَاءٍ غَيْرِ مَرْئِيَّةٍ.
نَعْلَمُ أَنَّ الْحَيَاةَ لَيْسَتْ إِلَّا رِحْلَةَ سُقُوطٍ...
نَحْوَ مَكَانٍ لَا يُمْكِنُ وُصُولُهُ
إِلَّا بِأَنْ تَسْقُطَ فِيهِ أَبَدًا.

الْحُرِّيَّةُ لَيْسَتْ أَلَّا تَخَافَ...
بَلْ أَنْ تَعُودَ كَالسَّائِلِ إِلَى مَجْرَاهُ:
تَصْدَمُ الصُّخُورَ،
تَنْحَنِي...
وَلٰكِنَّكَ لَا تَنْكَسِرُ إِلَّا لِتُنْبِتَ مَعْنًى جَدِيدًا.

هَذِهِ هِيَ الْوُجُودُ...
أُنْثَى تَلِدُ نَفْسَهَا كُلَّ يَوْمٍ،
تَرْفُضُ الْأَقْنَعةَ وَتُعَلِّمُنِي:
أَنَّ الْحُرِّيَّةَ لَيْسَتْ سِوَى
أَنْ أَسْقُطَ مَرَّةً أُخْرَى...
وَأَنْ أَضَعَ وَجْهِي عَلَى تُرَابِ الْقَاعِ،
لِأَسْمَعَ أَصْوَاتَ جُذُورِي
تَصْدَحُ فِي الْهَاوِيَةِ.


(7)
سُقُوطُ النُّجُومِ فِي مَهْدِ الْأَرْضِ!

لَمْ يَكُنِ السُّقُوطُ حُلْمًا…
بَلْ كَانَ شَرْطًا لِوِلَادَةٍ أُخْرَى.
الزَّمَنُ، ذَاكَ الْفَيْلَسُوفُ الْأَعْرَجُ،
يَرْسُمُ بِأَظَافِرِهِ عَلَى جِبَاهِنَا:
مَنْ لَمْ يَسْقُطْ لَنْ يَفْهَمَ كَيْفَ تَنْبُتُ الْأَرْضُ مِنْ جُرُوحِهِ.

السُّقُوطُ لَيْسَ فَشَلًا…
إِنَّهُ تَجْرِيدٌ.
تَخْلَعُ فِيهِ أَغْلِفَةَ الْكَذِبِ:
كِبْرِيَاءً تَآكَلَتْ،
أَوْهَامًا تَحَوَّلَتْ إِلَى رَمَادٍ،
وَصُورَةً كُنْتَ تَحْمِلُهَا كَشَهَادَةِ وُجُودٍ زَائِفٍ.

فِي قَاعِ الْهَوِيّةِ،
حَيْثُ تَلْتَقِي الْأَرْضُ بِسَمَائِهَا الْمُعَكَّرَةِ،
تَعْرِفُ أَنَّ الصُّعُودَ لَيْسَ خِيَانَةً لِلْأَلَمِ…
بَلْ إِجَابَةٌ عَلَى سُؤَالٍ قَدِيمٍ:
مَاذَا تَبْقَى مِنْكَ حِينَ تَسْقُطُ كُلُّ أَسْمَائِكَ؟

الَّذِينَ لَمْ يَسْقُطُوا…
لَمْ يَكْتُبُوا حُرُوفَهُمْ بِالدَّمِ،
لَمْ يَرْوُوا شَجَرَاتِهِمْ بِدُمُوعِ الْحَقِيقَةِ،
لَمْ يَعْبُرُوا الْخَرَابَ لِيَبْنُوا مَدِينَةً مِنْ شَظَايَاهُمْ.

هَا أَنَا…
أَمْشِي عَلَى حَافَّةِ السُّقُوطِ كَالْهَائِمِ،
أَحْمِلُ فِي يَدِي قِطْعَةً مِنْ مِرْآةٍ مُكَسَّرَةٍ،
أَرَى فِيهَا وَجْهِي:
لَيْسَ الْوَجْهَ الَّذِي عَرَفْتُ،
وَلَا الْوَجْهَ الَّذِي خَشِيتُ…
بَلْ وَجْهًا أَوْحَشَ،
أَصْدَقَ،
أَقْرَبَ إِلَى نَبْضِ الْأَرْضِ.

السُّقُوطُ لَمْ يَكُنْ بَابًا…
إِنَّهُ الْبَابُ نَفْسُهُ.
الْوَحْيُ الَّذِي يَأْتِي مُتَلَثِّمًا بِالْغُبَارِ،
يَهْزُّ كَوْنَكَ وَيَقُولُ:
لَنْ تَصِلَ إِلَّا إِذَا تَخَلَّيْتَ عَنْ كُلِّ مَا تَظُنُّ أَنَّهُ يُثَبِّتُكَ.

فَاقْدِرُوا السُّقُوطَ…
فَالنُّجُومُ لَا تُولَدُ إِلَّا فِي حَرِيقِ الْسُّقُوطِ،
وَالْإِنْسَانُ لَا يُبْصِرُ نُورَهُ إِلَّا حِينَ يَسْقُطُ...
مِنْ سُرْجِ أَسَاطِيرِ الذَّاتِ
إِلَى حَافَّةِ الْوُجُودِ الْعَارِي.


(8)
عُبُورُ الظِّلِّ إِلَى نُورِ الْأَعْمَاقِ!

لَيْسَ الْقَاعُ إِلَّا مِرْآةً مُعَتِّمَةً،
يَرْقُدُ فِيهَا صَوْتُكَ الْخَامِدُ:
هَا أَنَا…
لَا الْتِفَاتَاتٍ تَخْدَعُ،
لَا أَلْقَابًا تَخْفِي،
لَا أَكْذُوبَةَ تَسْتُرُ انْكِسَارَ الْجَوْهَرَةِ.

هُنَاكَ…
حَيْثُ تَنْتَهِي خَرَائِطُ الْآخَرِينَ،
أَبْدَأُ أَنَا بِرَسْمِ دَمِي عَلَى جُدْرَانِ الْوُجُودِ:
خَطًّا يَعْرِجُ كَالنَّهْرِ،
نُقْطَةً تَتَوَسَّدُ الْفَرَاغَ،
أُحَاوِرُ ظِلِّي فِي لُغَةٍ لَمْ تَعْرِفْهَا الْكَلِمَاتُ،
وَلَا تُجِيدُهَا الْأَصْوَاتُ.

لَيْسَ الصُّعُودُ قَفْزَةً فَوْقَ الْجِرَاحِ…
بَلْ ارْتِدَاءُ الْوُجُودِ مَرَّةً أُخْرَى:
عَارِيًا كَالنَّخْلَةِ بَعْدَ الْعَطَاءِ،
تَتْرُكُ ثَمَرَهَا لِلسَّائِلِينَ،
وَتَبْقَى هِيَ:
جِذْعًا يَصْفُرُ فِي الرِّيحِ
صَلَابَةً وَوُضُوحًا،
أَمْتَلِكُ شَجَاعَةَ الْجُذُورِ الَّتِي تَعْرفُ:
أَنَّ كُلَّ انْحِنَاءٍ هُوَ استِدَارَةٌ حَوْلَ الذَّاتِ.

الْقِمَّةُ لَمْ تَكُنْ مَكَانًا…
بَلْ لَحْظَةٌ تَذُوبُ فِيهَا الْأَسْمَاءُ:
أَصْبَحْتُ أَسْمَعُ صَخَبَ السُّكُوتِ،
أَرَى بَصَمَاتِ الْفَرَاغِ عَلَى جَبِينِ الزَّمَنِ،
أَحْمِلُ نَفْسِي كَوِعَاءٍ مُشْرَعٍ لِلرِّيحِ…
لَا يَخْشَى الْكَسْرَ،
لَا يَخْفِي الشَظَايَا،
يَتَّسِعُ لِأَشْلَاءِ الْحَقِيقَةِ الْمُنْسِيَّةِ.

السُّقُوطُ كَانَ بُذْرَةً مِنْ لَحْمِي،
نَبَتَتْ فِي تُرَابِ الْخِذْلَانِ،
فَأَعْطَتْ زَهْرَةً لَمْ تَعْرِفْهَا الْخَرَائِطُ:
رَائِحَتُهَا تُشْبِهُ صَوْتِي حِينَ يَخْرُجُ مِنْ دُونِ قُنَاعٍ،
أَوْرَاقُهَا تَحْمِلُ خُطُوطَ كَفِّي قَبْلَ أَنْ تَمْسَحَهَا السِّنُونَ.

الْآنَ…
حِينَ أَمْشِي عَلَى حَافَّةِ نَفْسِي،
أَعْلَمُ أَنَّ الْقَاعَ لَمْ يَكُنْ قَبْرًا،
بَلْ مِهَادٌ وَلَّدَ نُورًا:
نُورٌ يَنْزَحُ عَنِّي كُلَّ مَا لَيْسَ لِي،

حَتَّى تَبْقَى…
أَنَا:
هٰذَا الْوَجْهُ الَّذِي لَمْ يَرَهُ الْعَالَمُ قَبْلَ الْهَوِيَّةِ،
وَهٰذَا الصَّوْتُ الَّذِي لَمْ يَسْمَعْهُ إِلَّا صَمْتُ الْأَعْمَاقِ،
وَهٰذِهِ الذَّاتُ الَّتِي وُلِدَتْ مَرَّتَيْنِ:
مَرَّةً فِي الْحُبِّ،
وَمَرَّةً فِي الْجَحِيمِ.


(9)
عُبُورُ الرَّمَادِ إِلَى مَاءِ الذَّاتِ!

لَمْ أَكُنْ أَلْوِي سِوَى نَفْسِي إِذَا مَا انْكَسَرْتُ،
لَمْ أَعْبُرِ الْهَوِيّةَ إِلَّا لِأَجِدَ جُذُورِي تَنْبُتُ فِي أَعْمَاقِهَا.
لَمْ يَكُنِ الْخَرَابُ نِهَايَةً… بَلْ مِفْتَاحُ صَرْحٍ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ:
صَرْحِي أَنَا،
الْمَبْنِيُّ مِنْ لَظَى انْكِسَارَاتِي،
وَالمُلَطَّخُ بِبُصْمَةِ كُلِّ جُرْحٍ أَخَافُ أَنْ أَنْسَاهُ.

كُلَّمَا تَهَشَّمَتْ صُورَةٌ عَنِّي…
خَرَجَتْ مِنْ بَيْنِ الشَّظَايَا ذَاتٌ أُخْرَى،
تَحْمِلُ نَبْضَ الْأَرْضِ فِي عُرُوقِهَا،
وَتَرْفُضُ أَنْ تَكُونَ صَدًى لِأَحْلَامٍ لَيْسَتْ لَهَا.

لَمْ أَعْبُرْ طَرِيقًا…
إِنَّمَا اخْتَرَقَتْنِي الطُّرُقُ كَالنَّارِ فِي الْخَشَبِ،
حَتَّى صِرْتُ أَنَا:
خَرِيطَةً لَا تُشْبِهُ إِلَّا دَمِي،
وَسَفَرًا لَا يَحْمِلُ إِلَّا أَسْئِلَتِي،
وَمِئْذَنَةً تَنْحَنِي لِتُصَلِّي عَلَى مَا كَانَ،
وَتَنْهَضُ لِتُنَادِي بِمَا سَيَكُونُ.

الْآنَ...
حِينَ أَمْسِكُ بِالرِّمَادِ،
أَجِدُ فِيهِ:
بُذُورَ أَجْنِحَةٍ تَنْتَظِرُ الرِّيحَ،
وَذِكْرَى النَّارِ الْأُولَى...
الَّتِي لَمْ تَنْطَفِئْ.

وَأَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ انْكِسَارٍ...
هُوَ ابْتِدَاءُ حَدِيثٍ قَدِيمٍ جَدِيدٍ:
حَدِيثِ الرُّوحِ إِلَى الْجَسَدِ،
حَدِيثِ الظِّلِّ إِلَى الضَّوْءِ،
حَدِيثِي إِلَى نَفْسِي…
الَّتِي صَارَتْ أَوْسَعَ مِنْ كُلِّ الْكَلِمَاتِ.

سَقَطْتُ…
فَوُلِدَتْ خَرَائِطِي مِنْ جَدِيدٍ:
خُطُوطُهَا تَسِيلُ كَالنَّهْرِ،
ونُقَطُهَا تَتَألقُ كَالشَّمْسِ عَلَى ظَهْرِ الْغَمَامِ،

وَأَنَا…
لَسْتُ إِلَّا الْعُبُورَ نَفْسَهُ:
مِنَ الرَّمَادِ إِلَى الْمَاءِ،
وَمِنَ الْكَسْرِ إِلَى الْمِيلَادِ.

كُلَّمَا عَبَرْتُ،
كُنْتُ أَتْرُكُ فِي الطَّرِيقِ ظِلِّي،
وَأَحْمِلُ مَعِي نَفْسِي،
حَتَّى أَكُونَ…
نُورًا يَسْقُطُ فِي بَحْرِ ذَاتِهِ،
فَيَذُوبُ، وَيُولَدُ مَرَّةً أُخْرَى.

جهاد غريب
مايو 2025

 

جهاد غريب غير متصل   رد مع اقتباس