فعلاً يا عُمق
حين يخفت كل شيء إلا الوجود!
لا يهبّ الألم كعاصفةٍ مجنونة،
ولا ينهال بغزارة دمعٍ أو صخب ذكرى متأنقة.
بل يجيء متخفّيًا:
في هيئة صمتٍ ناعم،
بعينٍ جامدة لا تلوذ بالرمش،
وكفٍ لا ترتعد،
كأنها أتقنت الثبات حتى الإعياء.
هل انتهى كل ما فيك؟
بلا إنذار،
بلا تمهيد،
بلا حتى تنهيدة تودّع أو تصرخ.
في قلب الفقد،
لا ننهار بكاءً،
لا نعلن رفضنا لما حدث،
ولا نتوسّل بقايا حلمٍ.
نقف، ونتأمل ما مضى:
كما لو أنه مشهدٌ مرّ بنا ولم يسكنّا.
كأنه ليس لنا،
ولم يكن يومًا.
وحين يتجمّد الحنين في مجرى الدم،
لا يعود بإمكانك تمييز الألم،
سوى تسلّل ذاك البرود في النبض...
فيحوّل الرجاء إلى طبقةٍ صلبة
تكسو الشعور.
كأن القلب قد تعلّم الصمت،
لا بحثًا عن الراحة، بل اتقاءً للكسر.
لكن هذا الصمت ذاته،
كان خديعةً أنيقة،
تُبقيك في المنتصف:
لا منسيًّا تمامًا،
ولا حيًّا بما يكفي لتُستعاد.
حتى أدق التفاصيل،
تلك التي كانت تؤجج صدرك،
تصير شاحبة،
عابرة بلا صدى، بلا ارتداد.
الذاكرة تتمدد،
لا كحكايةٍ تعاد،
بل كظلٍ منطفئ،
لا يلامس وجدانك،
ولا يوقظك من خدرك.
كأنك تنزلق،
أو تُجبر،
على مغادرة مقعدك
في مسرح العاطفة المتقدة.
وتنزوي،
في ركنٍ مغمورٍ بسكينةٍ لا تشبه السكون،
سكينةٍ مواربة،
كضبابٍ لا يُرى ولا يُلمس،
ينساب داخلك،
حتى يبتلع الصوت والنَفَس.
ولم أعد أذكر متى بدأت أزحف نحو هذا الجمود...
ولا كيف انتهيت إليه.
فالموت،
ليس دائمًا وداعًا نهائيًّا،
أحيانًا يكون جمادًا... أو فراغًا.
اليد التي لا تهتزّ،
ليست قوية.
هي مرهقة:
من طول الارتجاف،
من التمسك بوهمٍ يتفلّت،
من رجاءٍ ظلّ يخذل...
دون وعدٍ أو حتى صدى.
الجمود،
لا يعني التعافي،
ولا يُشبه سلامًا يأتي بعد النزف.
إنه ما يبقى بعد الاحتراق،
حين تخفت النار،
لكن الرماد يستقر في الأعماق،
صامتًا، لكنه خانق.
وهذا الشعور،
لا يُدوّن بسهولة.
لأنه لا يصرخ،
بل ينظر إليك نظرةً باردة،
ويهمس، كأنه يضع الخاتمة دون ضجيج:
"انتهى كل شيء... وما زلت هنا،
تمارس الحياة بصمت الذين فقدوا الشعور،
لا الأمل".