نُشر هذا النص "وكأنّي لم أرحل" ذات مساءٍ في المنتدى، ومنذ لحظته الأولى جذب بعض القلوب التي لامسها عمقه وحنينه الذي يفيض.
لكن بالنسبة لي، بدا كأنه بابٌ قديمٌ ينتظر من يُعيد فتحه…
مررتُ به ولم أقاوم نداءه.
لم يكن تعليقي سوى محاولة لإضاءة تلك العتبة،
ليس لأن النص كان يتيمًا، بل لأن بعض النصوص، وإن وُجد لها صدى، تحتاج إلى من يُعيد الإنصات لها بصوتٍ جديد.
وهكذا، كان الردّ ذراعًا تمتدّ لا لتحتضن ما نُسي، بل لتهمس في أذن الحرف: "ما زلتَ حيًّا فينا".
فصار النصُّ صدى من صدى، ونبضًا يورق في الحضور من جديد.
***
قرأتُ نص "عُمق" مرارًا..
كأنّما كلماتها كانت تُناديني من وراء حجاب الزمن،
تُلقي حجارةً في بركة ذاكرتي الراكدة،
فتتسع دوائر الأسئلة في أعماقي:
ماذا لو وصلت هذه الكلمات إلى "هو"؟
ماذا سيقول؟
كيف سيتلقّى هذا الحنين الذي يشبه ندبةً جميلةً في جسد الوجود؟
فجأةً..
وجدتُ نفسي أقف على حافة النص،
أرتدي عباءة "آدم" الذي تخاطبه "عُمق"،
أحاول أن أنزع صوتي من صدري،
وأزرع مكانه صوتًا آخر..
صوتًا وُلِد من رحم كلماتها،
وتشرّبَ ضوءَها السائل.
لم أكن "هو"..
لكنّي صرتُ مرآةً تمشي على قدمين،
تلقّفتُ شظاياها،
وحوّلتُها إلى نافذةٍ يُطلّ منها الطرف الآخر من الحكاية.
لعبتُ دور "هو" كما يلعب الممثلُ على المسرح...
لا لأُقلّد مشاعره، بل لأفهم النص من داخله، كقارئ يتقمّص التجربة ليُعيد تأملها، لا ليحتكرها.
كنت أرتدي ملامح "هو" لا لأصبحه، بل لأُسلّط ضوءًا جديدًا على ما شعرت به "عُمق"،
فالنص العميق أحيانًا يحتاج قارئًا ينظر إليه من الداخل، لا من بعيد.
هذا الردّ..
ليس سوى حفيف أجنحةٍ مرّت فوق نصّها،
فأرغمتها على أن تحمل شيئًا من عطرها،
وتسقطه هنا..
كقطرة ندى على صفحة المنتدى!
***
هذا الضوء الذي لم يغب!
لم تَرحلي يومًا..
كنتِ تغيبين فقط كشمسٍ تختفي وراء أفقٍ
لكنّ حرارتها تظلُّ تُنبتُ زهورًا في صدر الصَّمت.
لم أكن منتظرًا، لأنّ الانتظار يفترض غيابًا
وأنتِ لم تكوني غيابًا..
كنتِ مجرّد حرفٍ أخفته الريحُ في كتابي،
فصرتُ أقرأ كلَّ سطرٍ وكأنّكِ تسقطين منه كندى!
حنينكِ هذا..
أتعرفينه؟
إنه يسكنني مثلما يسكنكِ
ليس شوقًا.. بل هواءٌ نتنفسه معًا
يُربِّت على وَحدتي أيضًا
فيذكّرني أنَّ الوحدةَ قد تكونُ لقاءً
إذا صارت جسرًا بين روحين!
قلتِ: "وجدتُ قلبي هناك"..
وأنا أقول:
ما كنتُ إلّا الوعاءَ الذي احتضنَ قلبكِ طوال الرحلة
حين ظننتِ أنكِ تبحثين عنّي في كلِّ شيء
كنتُ أرى ظلَّكِ يمرُّ بين الكلمات التي أكتبها
فأتركُ فراغًا في منتصف الجمل..
مقعدًا لِظلِّكِ الواقف على عتبة الحروف!
لا تسأليني عن الصَّمت..
فما كان سكوتًا..
كان إصغاءً لِحَفيفِ عودتكِ القادمة
كصوتِ نبعٍ يَترقرقُ تحت الأرض
قبل أن يفيضُ نورًا!
اجلسي تحت شجرة ذاكرتنا..
هيّا!
أنا أيضًا أجمعُ شظاياكِ:
كلُّ "عمقٍ" خطّتْه يدكِ صار مرآةً
أرى فيها وجهًا كنتُ أحسبني نسيتُ ملامحه
فإذا هو أنا.. وإذا هو أنتِ..
وإذا هو حبٌّ يُخرسُ اللغة!
شكرًا لكِ..
لأنّ كلماتكِ لم تكن مجرّد حروفٍ
بل كانت يدا تدفعُ البابَ القديمَ في روحي
فتذكّرتُ أنَّ القلوبَ تُبنى بالأشواق
حتى حين تظنّ أنَّها تُهدم!
هذا الردُّ ليس إلّا غصناً من غابة كلماتكِ الظليلة
أمتدُّ به نحو نورِ عودتكِ
وأنا أهمس:
"أهلا بعمقٍ جعل الغيابَ وطنًا..
وعادتْ لتقولَ لنا إنَّ الحنينَ إكسيرُ الخلود!"
***
نقطة ضوء:
الردّ ليس محاولة لامتلاك مشاعر النص،
بل هو إضاءة شمعة في فضاء الظل الذي رسمته "عُمق"..
لنجعل من حوارنا الأدبيّ نبعًا يروي ظمأ المتلقين في المنتدى!
الغريب