رسالة من مقعد الغياب..
في الزاوية المُهملة من شارعٍ لا يحمل اسمًا
توجد طاولة واحدة.. لا يجلس عليها أحد.
موضوعة كما هي منذ سنوات
كأنها تنتظر من نسيها/.. أو من نسي نفسه فيها.
لا أحد يتذكر متى وُضِعت.
لكن النادل كل صباح يمسح غبارها
كما لو كان يمسح على رأس طفلةٍ رحلت ذات حنين.
يضع على طرفها فنجانًا لا يُشرب
ويهمس: (ربما يعود).
في هذا الركن.. الهواء مختلف.
يحملُ وشوشة صفحاتٍ لم تُقرأ
وصوتًا خافتًا لطفلةٍ تضحك.
ربما كان المقهى عاديًا
لكنّه في هذه الزاوية صار محرابًا
وشاهدًا على حضورٍ لم يرحل
وغائبٍ لم يأتِ.
رسالة من المقعد الأخير..
إلى من لم يأتِ
اليوم مرَّت يد النادل على الطاولة التي اعتدناها.
مسح الغبار كما لو كان يُلاطف وجهي
وضع فنجانك المعتاد ساكنًا/..صامتًا
يشبهك حين كنت تفكّر في البعيد.
كل شيء ما زال كما هو
إلا أنا.. اعتدتُ غيابك
لكنّي لم أتجاوزهُ بعد.
رسالة من موعدٍ لا يأتي..
كتبتُ لك على زجاج النافذة: (عدْ)
بخَّتها أنفاسي.. وذوَّبها ضوء المساء.
لكن الكلمة ظلت في الهواء
كأن المقهى التقطها وخبّأها لك.
حتى فُتات الخبز الذي كنت تعبث به
بيديك المرتبكتين ما زلتُ ألمحه في ذاكرتي
كأنه طقوس وداع لا تنتهي.
رسالة إلى من علَّمني أن الغياب شكلٌ آخر للحضور
أجلسُ في ذات المكان.
أفتح كتابًا لا أقرأه
أراقب الباب.. ولا أنتظر أحدًا.
لكنِّ رغم كل شيء
ما زلتُ هنا/.. وما زلتُ أنتظرُك.
----------------
مقهى الخريفات..
في زاويةٍ هادئةٍ من العمر حيث تهدأ الضوضاء ويبرد الصخب.
يُقام مقهى تشعرُ به الروح حين تبلغُ موسم الخريفات.
وكأن الخريف هنا نضوجٌ داخلي
هدوءٌ يشبه صمت الورق المتساقط
ورقٌ يعرف أن الذبول لا يعني الفناء.
مقهىً لا يُقدِّم القهوة بلُغة الاستعجال
تُسكب على مهلٍ كما تُروى الذكريات.
الطاولات مُتَّكئةٌ على الحنين
والكراسي تحفظ دفء من جلسوا ومضوا.
وكل فنجان يحمل طيف أحدٍ تأخر
أو مرَّ في العمر كما تمرُّ النسمات بين الأغصان العارية.
الزائرون ليسوا غرباء..
أرواحٌ تشابهت في الإرهاق واختارت هذا الركن لتضمِّد ما تبقى.
تكتب/.. تصمت/.. تبتسم بخجل/..وتغادر بلا ضجيجٍ
تمامًا كما تفعل الفصول حين تنتهي.
“مقهى الخريفات”
مكانٌ لا تدخله إلا حين تنضج بما يكفي
لتتعلَّم أن الجمال ليس في الزهور بل في تساقطها أيضًا.
وأن الحياة وإن بدت راكدة فإنّها تهمس دومًا
ما زال فيك متَّسعٌ للسكينة.
أ. جهاد..
اتساق شعوري عميق كُتب بأسلوب أدبي راقٍ
مشبع بالحنين والصور الرمزية
بناء تصويري رمزي متماسك ومتدرج
كالتوظيف العاطفي للمكان كرمز للذاكرة والفقد.
لغة شعرية نثرية مشحونة بجماليات وتفاصيل حسيّة دقيقة.
نبرتهُ حزينة دافئة تُنطق الأشياء بسكونها.
تأملٌ يُستشعر لا يفتح أبوابه بل يفتح الروح.
تفاصيل حسية عميقة كـ "رائحة الخبز.. بخار الشاي
صوت الكرسي.. عنقود النبات الخجول".
بالمجمل..
بناء متكامل غير متقطع أو مشتّت يفيض بملمس عاطفي
لا تُتقنه النماذج اللغوية إلا حين تكون تحت إشراف حسٍّ شاعري واضح.
عُمق