( 9 )
* الحديقة المسكونة *
مرارا ً وتكرارا ً يشيرون إلى الحديقة ويقولون لنا محذرين : لا تقتربوا منها فهي مسكونة بالعفاريت !! ،،
الحديقة كانت تقوم في طرف حارتنا القديمة ،، تبدو من بعيد جبلا ً من الخضرة الداكنة متعددة الرؤوس ،،
يقف بجانبها غالبا ً خمس سيارات تمثل طولها ،، وعرضها قريب من ذلك ،،
وقد يعبر سماءها دخان تحمله الرياح من سلسلة المطاعم التي تقع في الشارع الخلفي ،،
ما نوع أشجارها الباسقة ،، وما معنى وجودها في ذلك المكان ،، من الذي زرعها ولأي غرض زرعها ؟! ،،
لا علم لنا ،، ولم يهتم الكبار إلا للأشجار التي تظلل نصف الشارع وسيارتهم ،،
لها سور عتيق يحيط بها وبوابة وحيدة أغلقت بقفل علاه الصدأ ومفتاحه في علم الغيب ،،
وبجانبها شارع ضيق الاتساع اتخذناه ملعبا ً لنا في أوقات النهار ،،
أما إذا رمينا الكرة خلف السور فإننا نتركها خوفا ً من الحديقة المسكونة ،،
وجاوزت الصبا وولجت المراهقة ،، وولعت بهوايات جديدة منها القراءة ،،
وأشرقت على روحي استنارة تحفل بكل جديد وطريف ،، وتطايرت من رأسي ووجداني خرافات كثيرة ،،
ولم أعد آبه بعفاريت الحديقة ولكني لم أستطع التحرر تماما ً من رواسب الخوف الكامنة في أعماقي ،،
وكنت أسير مسافة طويلة فأخلو إلى نفسي في البحر أقرأ وأتأمل أو أدخن سجائر بعيدا ً عن أعين الرقباء ،،
وأومي ببصري من بعيد إلى الحديقة فأبتسم ساخرا ً من ذكرياتي ،، ولكني لم أفكر باجتياز بوابتها ،،
وأضيق بموقفي يوما ً وأتحداه وأطرح على نفسي سؤالا : ألم يأن لك أن تكتشف الحديقة ؟! ،،
بعد حوار غير قصير صممت على الإقدام والتنفيذ ،،
ليكن في العصر والشمس طالعة ،، فالليل على أي حال غير مأمون ،،
تسلقت السور وقفزت داخل الحديقة ،، وقفت عند حافتها مستطلعا ً فرأيت الأشجار الشامخة صفوفا ً منسقة كالطوابير ،، والعشب يغطي أرضها ويكسوها مع العديد من الأكياس والمعلبات الفارغة ،،
وتجاوب في الجو بزقزقة العصافير فبثت في الهواء عزفا ً وطربا ،،
واستأنست بكل شئ فتقدمت غير هياب ،،
لم أصادف إنسانا ً ولكني ثملت بالوحدة والسلام ،،
قلت لنفسي : يا للخسارة ،، ضاع عمر هدرا ،،
سامح الله الذين تصوروا أن تكون الجنة مأوى للعفاريت ،،
ومن ناحية أحد الأركان ترامت إلي ضحكة ،،،
الحق أن قلبي ارتجف ،، ولكن تلاشى خوفي في ثانية ،، لا ريب أنها ضحكة ابن آدم ،،
تفحصت المكان فلمحت حلقة الشبان ،،
وسرعان ما تبين لي أنهم ليسوا بالغرباء ،، جيران أو زملاء بالمدرسة ،،
اتجهت نحوهم ومنذ تلك اللحظة بدأت حياة جديدة يمكن أن أطلق عليها حياة الحديقة ،،
في الإجازة لأسبوعية نمضي الساعات في الحلقة ،، نتكلم ونقرأ وندخن ونتحاور ،،
ومع زقزقة العصافير هبطت أفكار ورؤى ،،
انتقلت الدنيا من حال إلى حال ،، ليس الأمر لهوا ً ولعبا ،، ولا رياضة عقلية تمضي إلى حالها ،،
إنها تشير إلى مسيرة ومغامرة وتجربة محفوفة بكافة الاحتمالات ،،
وكان من عادتي أن أجالس عمي بعد العشاء ،،
منذ تقاعده استقر في أعماق طمأنينة أبدية ونعم بسلام دائم ،،
ولا يخرج عن إطاره إلا إذا أغريناه بشؤوننا المتعددة ،،
ويطيب له أحيانا ً أن يناقشني في دروسي ومتابعة الأحداث التي أرويها والتعليق عليها ،،
ويوما ً ختم حديثه بقوله : ما أكثر العجائب هذه الأيام ،،
فاندفعت أقول له : العجائب لا نهاية لها ،،
فحدجني بنظرة متسائلة ،،
فقلت : إليك بعض الآراء ،،
وتكلمت بإيجاز وتركيز فأنصت إلي ذاهلا ً ثم هتف : أعوذ بالله ،، ليس أصحاب هذه الآراء بآدميين ولكنهم عفاريت
* * *