
الراعي والنساء ـ 1991
نصل الى فيلم قدمه بدرخان في عام 1991، ألا وهو (الراعي والنساء)، والذي دخل به في معركة فنية. فقبل خمس سنوات عثر بدرخان على رواية لمؤلف أسباني مغمور بإسم (جزيرة الماعز)، وبدأ يستعد منذ تلك اللحظة لتقديمها على الشاشة. وبعد أكثر من كتابة للسيناريو لم تتفق مع وجهة نظر علي بدرخان، إتفق مع كاتب السيناريو وحيد حامد. ولأن بدرخان كانت له رؤية خاصة لم يقتنع بها وحيد حامد، أصر كل منهما على أحقيته بتقديم (جزيرة الماعز) من وجهة نظره. وبدأت المعركة بين الطرفين، والتي إنتهت بفيلمين: الأول (رغبة متوحشة) سيناريو وحيد حامد وإخراج خيري بشارة، والثاني (الراعي والنساء) أخرجه بدرخان وشارك أيضاً في كتابة السيناريو مع محمد شرشر وعصام علي.
يتحدث الفيلم عن الأرملة وفاء (سعاد حسني)، والتي تعيش ـ مع إبنتها سلمى (ميرنا) وأخت زوجها عزة (يسرا) ـ في مكان منعزل، حيث يعيش الثلاث يستصلحن قطعة أرض ورثنها عن زوج وفاء الذي توفي في السجن. يصل الى المكان حسن (أحمد زكي) زميل زوجها في الزنزانة، والذي يبدي إستعداداً طيباً في مشاركتهما العمل في الأرض. وبالرغم من أنه لم يكن مرغوباً فيه من الثلاث نساء في البداية، إلا أنهن تتنافسن على حبه فيما بعد. فيعرض الزواج من وفاء، وتختفي سلمى ليبدأ الجميع البحث عنها حتى يعثرون عليها. وبدون قصد تطلق سلمى النار على حسن . فتطلب عزة من وفاء وإبنتها الرحيل فوراً حتى تنفرد بحسن، ولكنها تنهار في النهاية عندما تكتشف وفاته.
هذه بإختصار الخطوط العامة لإحداث فيلم (الراعي والنساء) ، إلا أن الفيلم لا تكمن قوته وجماله في تلك الأحداث ، إنما تكمن في ذلك الشلال الملتهب من المشاعر والأحاسيس الجياشة .. تكمن في قدرة السيناريو على إبراز الجوانب المتعددة لكل شخصية ، بمناطقها الغامضة والمضيئة .. تكمن في ذلك الرصد الموفق لتباين العلاقات وإختلافها فيما بينها . فعندما يتسلل حسن ـ الخارج لتوه من سجن دام عشر سنوات ـ الى عالم النسوة الثلاث ، تتفتح أبواباً ظلت موصدة لفترة طويلة ، ونفوساً قاربت على الجدب ، وأجساداً تشققت من الضمأ تسعى الى الإرتواء ، شأنها شأن الأرض التي يحيون عليها . فنحن هنا أمام ثلاث نساء آثرن الإبتعاد والعزلة عن العالم الخارجي لظروف خارجة عن إرادتهن . وإنكفأن في وسط قطعة إرض أقرب الى السجن الإختياري .. يرعونها ويرعون فيها أغنامهن .. مساحة من الأرض قريبة من بحيرة صغيرة ، تركت مياهها المالحة آثارها المدمرة علىها . ثلاث نساء يعشن عالماً يبدو من الخارج متماسكاً قوياً ، إلا أنه مليء بلحظات من الحب والكراهية ، وتتنازعهن مشاعر متناقضة .. فوفاء تعيش أسيرة للماضي ، والحب الذي ماماد يبدأ حتى قتل ، تكره المكان وتتمنى أن تغادره . على عكس عزة التي تشعر بأن الأرض جزء من كيانها .. فهي لها ولأخيها الذي فقد حياته بسبب تمسكه بوفاء .. لذلك تكرهها وتذكرها دوماً بأنها السبب في فقدانها له ، فقد كان كل شيء في حياتها . أما الفتاة الصغيرة سلمى ، فلم يكن الأب المفقود بالنسبة لها سوى مجموعة من الذكريات الغامضة .. تحبه من خلال حكايات أمها وعمتها ، وهي تعيش أزمة نفسية نتيجة قسوة زميلاتها في المدرسة ، في محاولتهن لخدش تلك الصورة المثالية التي كونتها عن والدها .
وبدخول حسن عالم الثلاث نساء المعزول ، تتغير الكثير من المعالم . فهو يعمل في الأرض .. يقلبها .. ينتزع الحشائش البرية منها .. يغسلها .. يلقي فيها بالبذور لتنمو وتكسي تلك التربة القاحلة باللون الأخضر . وكما ينجح حسن في تغيير معالم المكان ولون الأرض ، ينجح أيضاً في تغيير النساء الثلاث وتغيير شكلهن . فقد أتى حسن الى هذا المكان باحثاً عن الأمان والحب الذي إفتقده في حياته . فهو يملك مقومات الراعي ، وهن يفتقدن الى ذلك الراعي .. يدلف حياتهن ويطرق حياتهن في وجل ، حاملاً في داخله شحنات دافئة من الحب والحنان ، لعائلة صديقه .. حيث كانت وفاء وسلمى وعزة هن محور حياة صديقه وموضوع أحاديثه ، حتى كاد حسن أن يكون جزءاً من هذه العائلة .. يعرف أدق التفاصيل عن حياة وأحلام النساء الثلاث .
يدخل حسن عالم الثلاث نساء وقلبه يخفق بخب وفاء ، إرملة زميل الزنزانة ، ذلك أنها عاشت في خياله من خلال عشرات القصص التي سمعها من زوجها . فمن الطبيعي أن يهيم بها وهو يراها أمامه الآن بروحها وجسدها . كما أنه يعلن أكثر من مرة ، بأنه كان مرشحاً من قبل رب الأسرة بأن يكون أحد أفرادها ، أي أنه كان مرشحاً للزواج من عزة . لذلك تتعلق عزة بهذه الأمنية الآن وتسعى الى تحقيقها . أما سلمى الصغيرة الضائعة نفسياً ، فتشعر نحو هذا القادم بمشاعر مختلطة وغامضة نتيجة تلك الأزمة النفسية التى تعيشها ، فتجده الأب والأخ والصديق ، ولكنها كمراهقة تحبه ، أو على الأقل تتصور بأنها تحبه .
وتتجه الدراما الى مرحلة التشابك ، وذلك عندما يجد حسن نفسه محاطاً بحب النساء الثلاث . فهو يفتح نافذة الأمل أمام وفاء عندما يعلن لها عن رغبته بالزواج منها ، وهي بالتالي تعبر عن سعادتها وإحساسها ـ بصوتها المتهدج ونظراتها الهائمة ـ بإمكانية أن تبدأ حياتها من جديد . وبالرغم من أنه يحب وفاء ويهيم بها وهي تبادله هذا الشعور ، إلا أن عزة كانت قد قررت أن تستحوذ عليه كبديل للزوج المفتقد والأخ المفقود ، فقد فجر وجوده في حياتها طاقاتها الحسية والجسدية ، وإندفعت ترتوي منه رغماً عن مشاعره . أما سلمي ، فهي تدخل حلبة هذا الصراع على حسن ، كارهة إندفاع عمتها وعشق أمها له . تصفعها أمها في غضب عارم عندما تستثيرها ، لتهيم على وجهها منهارة والإرتباك مسيطراً على مشاعرها .
في هذا الفيلم الأخاذ ، نجح على بدرخان في تقديم نسيخ من المشاعر والأحاسيس التي غلفها بقدر كبير بالتفاصيل الصغيرة التي ساهمت كثيراً في تطور الدراما ، من غير السقوط في براثن الميلودراما الفجة . هذا إضافة الى أن السيناريو لم ينزلق الى التفسير الجنسي الغرائزي لسلوك أبطاله ، وإنما تابع تصرفات شخصياته وعلاقاتهم وهي تنمو على مهل وعلى نحو شاعري يميل الى الواقعية . فعلي بدرخان هنا لا يدين شخصيات فيلمه بقدر ما يحنو عليهم ويتفهم دوافعهم ويترفق بمصائرهم ويتعاطف مع سلوكياتهم ويبرر تصرفاتهم . هكذا عبر علي بدرخان عن مشاعر شخصياته من خلال بناء بصري أخاذ ، كان للكاميرا دوراً كبيراً في خلق روح شاعرية تناغمت مع الموسيقى ذات التعبير الدرامي والمونتاج المتميز بالإيقاع الحيوي والمزج الناعم الذي حافظ على وحدة الإيقاع داخل اللقطة والمشهد. كما نجح علي بدرخان الى حد كبير في إدارة ممثليه الذين قدموا طاقات إبداعية هائلة في الأداء .