(عليه قبل أن يفكر في الكتابة أن يرى أولا مدنا كثيرة ، ويتعرف على الناس والأشياء والحيوانات ، ويشعر كيف تحلق الطيور ويدرك الحركات الدقيقة التي تتفتح عبرها الزهور الصغيرة في الصباح ، على المرء أن يكون قادرا على استعادة وتمثل الشوارع والدروب في النواحي المجهولة وأن يتمثل اللقاءات والافتراقات غير المنتظرة تلك التي رآها منذ زمن بعيد ، و أن يتذكر أيام الطفولة التي لم تتضح معانيها بعد ، أن يتذكر والديه اللذين كان يسيء اليهما ويزعجهما كلما رآهما يدخلان الفرح إلى نفس إنسان غيره ( إذ أن تلك مجرد فرحة للآخرين ) على المرء أن يتذكر ايام الصمت والسكينة والإنتظار في الغرف الصامتة والصباحات عند ساحل البحر ، أن يفكر في البحر على نحو خاص ، في البحار عموما وفي ليالي الاسفار ..
أن تكون له ذكريات عن ليالي حب حمراء لا تشبه فيها الواحدة الأخرى ، وعن صرخات المخاض والوضع والنساء النفساوات البيضاوات الملمومات إلى بعضهن ، على المرء أن يكون قد جلس بالقرب من المحتضرين وسهر إلى جانب الموتى في حجرة بنافذة مشرعة و أصوات متناوبة ، ولا يكفي أن تكون للمرء ذكريات بل يجب عليه أن يكون قادرا على نسيانها أن كانت كثيرة و أن يكون على قدر كبير من الصبر لإستحضارها من جديد ، إذ أنها لم تتحول بعد إلى ذكريات ، حينئذ فقط ، حين تصبح الأشياء دما يسري في عروقنا وحركة بلا اسم يصعب التفريق بينها وبين أنفسنا ، حينئذ فقط يمكن أن تتشكل الكلمة الأولى ) *
* ريلكه (فيما أذكر )