نعم , أقفُ وحيدةً ها هنا أشاركُ الجرحَ في تأبينِ ضعفٍ قاتلٍ خلّفتهُ الذّاكرةُ على أكمامِ الوجع , أرقبُ يدانِ نبتتا من طينِ الرّحيل و أغنيةً تجمّدت على شفاهِ طفلةٍ معصوبةِ العينين و تكسّرت خلف أذني قبرِ والدها الطّيب ..
أقفُ وحيدةً اتلمّسُ أناملَ الأمنية , و تأخذني هذهِ القصيدة عميقاً عميقاً عميقاً حدّ غرقِ الضّوءِ و استحالةِ الرّؤية و انفتاحِ بصيرةِ القلب , يأخذني هذا الشّعرُ حيثُ كنتُ مضغةً لا تسمعُ سوى ضرباتِ قلبٍ ضعيفٍ و أنفاسَ رئةٍ موقوتةٍ بتاريخِ الشّهقةِ الأولى ..
كيفَ يا جمال – بربّكَ - أطلقتَ صرخةَ الدفاترِ الملقاةِ على مناضدِ الذّاكرة و تركتَ لأنفاسنا مهمّةَ ترتيبِ جهاتِ الألمِ الخمسِ في صدورنا , كيفَ أطلقتَ ساقيّ الغيابِ للرّيح و جئتَ تحملُ كفنَ الوقتِ و تمارسُ تأبينَ شتلاتِ السّنديانِ الّتي لم تداعب خصرَ الرّبيعِ إلّا قبلَ فرحينَ و بعضِ ابتسامة ؟
كيفُ تأتي كلَّ مرّةٍ محمّلاً بشعرٍ , ليسَ شعراً فحسب , بل انتماءاً , أو منفىً أو أطرافاً مفقودةً ثكلت العينُ غيابها ثمّ ارتدَ بصرها حسيراً بقميصكَ الّذي يتلو حكاياتِ الطّعناتِ الأخيرة ؟
كيفَ حمَّلتَ هذه القصيدةَ وجعَ جميعِ المهزومينَ في الأرض و ثورتَهم و أرقَهم و انتصاراتهم و خيباتهم و ذاكرتهم و انفعالاتِ الرّعشةِ الأولى في أطرافهم .. ثمّ تقول :
أباعتق يا رماد الأرض / أرضي من رماد الكل !
سأعترف , نصّكَ هذا انتشلَني من رحمِ الغياب , و ملأَ رئتي الصّغيرة برائحةِ الأرضِ بعدَ المَطر , فعدتُ لأرسمَ على كفّكَ عنقَ يمامةٍ و ثغرَ طفلٍ و جناحَ أمنيةٍ و ورقةَ غارٍ حزين !
نصّكَ هذا ملأَ سحاباتِ الرّحيل , بجميعِ دموعِ بحار الأرض , بأكثرِ آهاتِ المحرومينَ المكتومة , بجلِّ أرقِ شجعانِ الأحلامِ المغروسة في طُهرِ القلوبِ المحفوظةِ على رفوفِ الصّدقِ المُغيَّب ..
نصّكَ هذا , خنجرٌ في صدرِ الآلامِ الوهميّة و وردةٌ على صدرِ الآمالِ الّتي , من فرطِ حقيقتها , استحالَت سرابا ..
الأستاذ جمال الشّقصي ,
لا عدمناكَ و لا عدمنا هذا الشّعرَ النّابضَ بنا / بالحياة .