...........
مر علي ساعتان وأنا على هذه الحالة ، بكيت حتى خلت أني اغتسلت كلي بدموعي . أحسست أن الدمع الحار ، الذي سال غزيرا من مآقي ، قد غسل كل العناء في قلبي ، صليت خلالها العشاء ، كما لم أصلى مثل تلك الصلاة في حياتي . شعرت كم تكون الصلاة لذيذة حينما يكون القلب مشرعا لنداء السماء ، وكم تكون الصلاة ذات معنى حينما لا تستشعر حولك إلا الموقف .. والصحف تتطاير .
يا الله أي عالم علوي كنت تسبح فيه يا خالد ، وأنا أطارد سرابا .. وهما .. شيطانا . أأبلغ ما تبلغه ، وأنا ألهث خلف المحسوس ، الفاني الذي سيأكله الدود ، قبل أن يخالطه التراب ، وأنت الذي تحلق في اللا محسوس ، في السرمدي .. في تلك الآفاق النورانية .
ما الجسد يا خالد إلا امتداد للدوني ، للحضيض ، للأرضي ، لذلك حري به أن يجعل من يتطلع إليه ، ويلبي رغباته أن يلتصق بالأرض ، لماذا .. ؟ لأنه انسلخ من العلوي ، واتبع هواه .. اتبع هواه يا خالد .. فكان ماذا ..؟ كان من الغاوين .. ولم يكن من الدعاة الهداة .. رحماك يا رب .
مرت أيام نهاية الأسبوع سريعة وعادية 0 ذاكرت جيدا ، حيث لم أغادر البيت إلا قليلا ... أوقات الصلوات فقط . مطعم أبو أيمن السوري قدم لي حلا مثاليا ، من خلال وجبة المقبلات والمشويات اللذيذة ، التي تكفل بإيصالها ، دون مبالغ إضافية ، إلى المنزل . وهي معاملة خاصة للملتزمين ، كما يقول أبو أيمن ، الذي يشعر بعظيم الامتنان لهم ، لحفظهم أبناءه وأبناء المسلمين ، من خلال المدرسة التي تشرف عليها جمعية الطلبة المسلمين ، والمعسكرات التربوية التي تقيمها .
غدا الاثنين امتحان الدكتور اندرسون لمناهج البحث ، أشعر أني مستعد له جيدا ، فقط احتاج أن أنام مبكرا ، لاستيقظ نشيطا .. سأصلي وتري أول الليل وأنام .
الاثنين يوم مبارك ، قررت أن أصومه ، فالجو بارد ، وعملا بالسنة ، وتحسبا لمفاجآت لا أعلمها . والصوم كما قال صلى الله عليه وسلم (وجاء) ، وأنا لا احتاج الوجاء و (الحماية ) ، كما أحتاجها في هذه الأيام ، وفي امتحان الدكتور اندرسون بالذات .
بقى على الامتحان نصف ساعة ، حينما عزمت على التوجه للجامعة . لم أتوقع أن يكون الثلج بهذه الكثافة ، لحظة ألقيت نظرة من النافذة ، و الثلج يتساقط ، و ارتأيت أن أصلى الفجر في شقتي . بدأت أزيح الثلج عن طريق السيارة ، وحينما انتهيت ، و ظننت أن الطريق سالكه ، اكتشفت أن إحدى العجلات معطوبة . ليس اتساخ الأيدي ، و الملابس ، وبرودة الجو ، هو المزعج فقط ، في مثل هذه المواقف .. لكن أن يكون بانتظارك ، بعد كل هذا امتحان . ما أن بدلت الإطار المعطوب بآخر صالح ، وحاولت تشغيل السيارة ، حتى باءت محاولاتي بالفشل ، ثم أكتشف في الأخير ، و يا للسخرية .. أن السيارة فارغة من الوقود .
وصلت قاعة الامتحان متأخرا عشرين دقيقة ، استقبلني الدكتور أندرسون بابتسامة عريضة ، وهو يشير لي بأن آخذ مقعدا . اندفعت إلى داخل القاعة ابحث لي عن مكان ، ولم انتبه إلى أحد الطلبة ، الذي قد مد رجليه أمامه ، فعثرت ووقعت على وجهي وتناثرت أشيائي . حينما استقريت في مكاني أخيرا ، رأيت الدكتور اندرسون ما زال مبتسما . قلت معتذرا :
ـ هذا اليوم ليس لي يا دكتور اندرسون .
رد مازحا :
ـ لابد أنك كنت تجرف الثلج ، أو أن إطار سيارتك قد تنسم هواؤه ...
وهذه هي الأعذار التي يسوقها الطلاب عادة ، حينما يتأخرون .
قلت :
ـ إنك لن تصدقني يا دكتور اندرسون ..
ـ ماذا .. ؟
ـ بالإضافة إلى ما ذكرت ، فقد اكتشفت أن سيارتي قد نفد وقودها ..
أطلق ضحكة مدوية ، وقال :
ـ لن يغلبك أحد يا مصعب .. ويأتي بمثل ما جئت به 0
شرعت بالإجابة على الامتحان ، لكن القلم لا يكتب . يخط حرفا أو اثنين ، ثم يمتنع . عالجته بشتى الطرق دون فائدة . استنتجت أني حينما تعثرت برجلي الطالب ، و وقعت ، والقلم في يدي ، ضربت ريشته الأرض فانثلمت .
لاحظ الدكتور اندرسون حيرتي فجاء مستفهما . فأخبرته بمشكلة القلم ، وسألته أن يعيرني قلمه ، فذكر لي أنه اعارة لطالب آخر .. نسي قلمه .
قلت للدكتور اندرسون :
ـ ألم أقل لك أن هذا اليوم ليس لي ..
ابتسم ، وقال :
ـ لا عليك سنحل المشكلة ..
سأل الطلاب إن كان هناك أحد معه قلم آخر ، يمكن أن يعيره لشخص ، يبدو أنه نثر الملح من فوق طاولة الطعام . وهو اعتقاد شعبي بين الأمريكيين ، تقوم فكرته على أن من يكب الملح ، يلازمه النحس طيلة يومه .
لم يرد أحد من الطلبة ، رغم تكرار السؤال ، إذ قليل من الطلاب من يحمل معه أكثر من قلم . كان الدكتور اندرسون على وشك أن يطلب مني أن أغادر القاعة ، لأبحث لي عن قلم ، حين ارتفعت يد أحد الطلاب في أول القاعة . قالت الطالبة :
ـ عندي حل بدائي ، لكنه ينفع في مثل الظروف ..
ثم قامت بكسر قلمها المرسم إلى نصفين ، وبرت أحدهما ، و أعطته للدكتور اندرسون ، الذي أعطاني إياه بدوره ، وقال مازحا :
ـ لا أعتقد أن أحدا تشاركه الآنسة ديمي بمرسمها ، يمكن أن يقول هذا اليوم ليس لي ..! إنها ديمي إذن ، يدفعها القدر من جديد في طريقي ، ماذا يخبئ لي هذا اليوم من مفاجآت ..؟ تطاولت ، وبهزة من رأسي ، وابتسامة خفيفة ، شكرت ديمي .
كان متوقعا أن ينتهي الوقت ، قبل أن انتهى من الإجابة على جميع الأسئلة . لم يبق إلا أنا والدكتور اندرسون ، الذي قال :
ـ أنا مضطر أن أغادر ، عندما تنتهي أعط ورقة الإجابة لسكرتيره القسم ..
لاحظ أني محرج ، فقال :
ـ لا داعي للحرج .. فأنا أثق بك .
هذا التعامل ينعدم في بلادنا مع الأسف ، حيث الأمانة صارت نادرة ، وقيم الثقة ، أحيانا غير موجودة . دائما أسال نفسي ما الذي يبقى هذا الوحش الأمريكي الجبار ، رغم مظاهر الظلم والفساد الكثيرة المنتشرة فيه ...؟ إنه قطعا ، ليس القوة المادية المجردة وحدها . فالله سبحانه قد قص علينا أحوال أقوام اشد قوة ، أهلكهم ، (فهل ترى لهم من باقية) ..؟ . إن مثل هذه القيم ، وأخرى يطول الحديث عنها ، هي التي مازالت تحافظ على الإمبراطورية الأمريكية من الانهيار .. حتى يأتي أمر الله .
لماذا عدمت مثل هذه السلوكيات الجميلة في مجتمعات المسلمين ..؟ ألا يكفيها التخلف المادي الذي يطبق عليها ..؟ لماذا لم يبق مسموعا سوى صوت النفاق .. وصار الإسلام ، الذي هو مصدر هذه الفضائل جميعها ، مطية يركبها كل أفاك ، ليحقق من خلالها أهدافه ..؟ كل همه أن يملأ جيبه ، ويشبع بطنه و .. و أشياء أخرى . صار الإسلام .. شعارا فقط . يردده السياسي ، ويلوكه شيوخ السوء ، وتشدو به جوقة النفاق .
ماجت هذه الخواطر في بالي للحظة ، وأنا أرقب الدكتور أندرسون يغادر القاعة ويتركني لوحدي .
أكملت الإجابة على الامتحان ، ولملمت أوراقي ، وتوجهت خارجا ، لأجدها قبالتي ، عند الباب :
ـ ديمي .. ماذا تفعلين هنا ..؟
ـ كنت انتظرك لقد ..
قاطعتها :
ـ تريدين القلم ..؟
ـ هل أنت جاد ... لا تكن سخيفا لقد قلقت عليك ، ماذا صنعت في الامتحان ..؟
ـ أظن الأمور على ما يرام ،
ـ ماذا ستفعل الآن ..؟
ـ سأعطى أوراق الامتحان للسكرتيرة ..
ـ و بعد ذلك ..؟
ـ سأذهب إلى البيت لاستريح ، ثم أذاكر لامتحان أخر لدى بعد غد ..
ـ هل لديك بعض الدقائق لنتحدث عن أشياء سبق وسألتك عنها ..؟
ـ لا .. لا أظن أني أستطيع ألان ..
تبادلنا النظرات ، ورأيت في عينيها رجاء ..
ـ آمل أن تتفهمي وضعي ..؟
لم ترد علي .. واستمرت تنظر إلى ، وفي يدها إصبع شوكولاته ، فمدته لي ، فقلت :
ـ شكرا لا أستطيع أن أكله ..
ـ لانه مني ..؟
ـ لا .. ولكنني صائم اليوم ... عفوا لابد أن أذهب الآن ..
وانصرفت .. و حينما سرت بضع خطوات نادتني قائلة :
ـ مصعب .. هل أستطيع أن أسألك سؤالا ..؟
التفت ، وكانت واقفة في مكانها .. تقلب إصبع الشوكولاته في يدها ، بشيء من القلق ..
قلت :
ـ ماذا ..؟
ـ هل حقا يهمك أمري .. أقصد هل يهمك أن أعرف الحقيقة عن الإسلام .. أو جزء من الحقيقة ..؟
فاجأني السؤال ، وشعرت بقلبي ينقبض من الألم . هل أنا أسأت التقدير في تعاملي معها ، وتوهمت أشياء لم تكن موجودة إلا في خيالي ..؟
لم يكن لدي وقت لأناقشها ، تقدمت نحوها ، وقلت :
ـ اليوم الاثنين ، وبعد غد الأربعاء لدي امتحان في المساء .. يوم الخميس سأكون حرا من أي ارتباط .
ـ حسنا .. نلتقي الخميس ، في نفس الوقت ، ونفس المكان ...
ـ أي مكان ، وأي وقت تقصدين ..؟
ـ الساعة السابعة مساء .. في (الكيف دوماسيه) ..
ـ لا بأس ..
ثم سحبت إصبع الشوكولاته من يدها ، وأضفت :
ـ سآخذ هذا وآكله .. حينما أفطر بعد مغيب الشمس ..
ما كدت أنهي كلامي ، حتى اكتسحت وجهها موجه من السعادة ، وانشق ثغرها عن ابتسامة رضا ، تدفقت من بين ثناياها ، مثل جدول ماء صغير ينساب من بين حصيات مرمر...
و لم تعلق بشيء ..
ـ مع السلامة ..
قلت لها .. ثم استدرت منصرفا ..
............
مازلنا..نقرأ.