.
.
في ذلك المساء ، الذي رأيت فيه " فارس سعيد " لأول مرة ، لم يكن معي سوى " حنان " . كانت مشغولة بالحديث عبر جهاز الموبايل مع صديقها ، وكنت أنا مشغولة بتدخين " المعسل " ومشغولة أكثر بمتابعة ذلك الشاب الغامض .
أما هو ، فلقد كان مشغولا بمجموعة من الأوراق أمامه . والقلم بيده اليمنى . أحيانا ً كأنه يقرأها .. وأحيانا يكتب .. وتمر لحظات طويلة كأنه يفكر بشيء ما .. وكثيرا ً ما يضع يده اليسرى على جبينه .. وأحيانا ً يمررها على أنفه وفمه .
يخيّل لي أحيانا ً أنه كان يشعر بأنني أراقبه ، وأنني أنتظر التفاتة منه .
" هذا الشاب مغرور وشايف حاله "!
قلتُ لنفسي .. لكنني لاحظت أمراً غريباً دفع عنه تهمة الغرور دون أن يدري . فكلما انفتح باب المقهى الخارجي نظر إليه بسرعة.. كأنه ينتظر أحدا ً ما أو كأنه لا يريد أن يرى أحداً ما. وكانت الأصوات المفاجئة تستلفت نظره بسرعة ، فهو يجفل من صرير الكرسي عند سحبه ، وينظر بسرعة إلى اتجاه الصوت .
أغنية لـ " فيروز " ناعمة وهامسة كانت تزرع الهدوء في أرجاء المقهى ، كان يبدو منسجماً معها .
قلت لنفسي : أجزم أن مزاجنا متقارب !
أنظر إلى شكله الخارجي : ملابس رياضية بسيطة ، ولكنها لا تخلو من أناقة . يغطي رأسه بكاب رياضي . يرتدي نظارة شمسية سوداء .. رغم أن الإضاءة في المقهى خافتة !.. يحلق لحيته وشاربه . وكل هذه الأشياء فيه أراها متناقضة مع ملامح وجهه البدوي الأسمر .
وجهه البدوي ذكرني بذلك الشاب البدوي الذي التقيت به في سهرة في إحدى استراحات الرياض الفخمة . كنت مدعوة لزفاف ملكي هناك ، في وسط السهرة أتاني اتصال على هاتفي المحمول من مجموعة أصدقاء يدعونني لسهرة أكثر مرحا ً وحرية .
في " الاستراحة " ووسط الضحك والفرفشة والرقص والغناء ، فعل الشراب فعلته برأس البدوي ، ورفع صوته الرخيم غناءً بإحدى قصائد " بندر بن سرور " والتي أحفظها جيدا ً .. اقتربت منه .. طلبت منه أن يغني قصيدة أخرى لابن سرور . صرنا أنا وهو نردد قصائد بندر بن سرور ، وبقية الشلة يرقصون على أغنية " لنا الله " لمحمد عبده .
في السادسة صباحا ً – وأمام الجميع – سحبت البدوي إلى غرفة جانبية في الاستراحة الكبيرة ، ودخلنا .. ومنحته كل ما يشتهيه .
لم يكن أجملهم أو أكثرهم وسامة ، ولكن .. أردت أن أقول له ، وعلى طريقتي : " شكرا ً" .. لأنه يحفظ قصائد ابن سرور ، وأردت أن أقول لكل الرجال الموجودين : تبا ً لكم .. لأنكم لا تحفظون سوى أغاني محمد عبده !
ـ هيييه !.. أين ذهبت ؟
كان صوت " حنان " .. قلت لها : لا .. أبدا ً .. أنا هنا .
سألتها : أنهيت مكالمتك مع حبيب القلب ؟
ضحكت ، وقالت : من زمااااان !
قلت : نخرج ؟
قالت : هيّا ..
قلت لها : لحظة ..
وأخرجت من حقيبتي ورقة صغيرة وقلم ، وكتبت ...
ووسط ذهول " حنان " حملت الورقة ، وقمت من مكاني ، واتجهت صوب طاولة " الشاب الغامض " .. وقفت أمامه تماماً.. ووضعت الورقة الصغيرة على طاولته
قلت : " مبروك .. لقد فزت بأكبر جائزة يانصيب في الكون " !!
لم تكن مفاجأته وارتباكه أكبر من ارتباك صديقتي .
تركته بارتباكه ، والتفتّ لـ " حنان " أشرتُ لها برأسي : هيّا .
خرجنا ، ونظرات " الغامض " وكل من في المقهى تشيّعنا .
لم تقُل حنان شيئاً سوى كلمة واحدة :
" مجنونة " !!