يؤمن مرة فيرجو ويخاف وينكر مرة فيدركه اليأس والجزع ،، مضطرب لا يستقر بين البين ،، في قلق لا يعرف حال ،، لا يحرص على شئ كما يحرص على نبوءة وليد بما وراء الموت ،، حمل نفسه حملا على الحياة فلم تحتملها وأعرضت عنها ،،
كشف له الحزن عن إذن فلسفية الطباع ،، امتزجت به وأصبحت له ضيقا من داخل سجنه ،، تناقض بات قوام حياته ،، قوام رجل متعب ،، يجمع بين دقة الحس ورقة الشعور وحدة المزاج وقوة العقل إرادة قدر ،، فثبت لمحنته وضاق بها وشكا منها ،،
ما سمحت به القرون بالإياب حتى وعدتها أشياء ثلاثة : نُبذة كفتق النجوم ،، وانقضاب الأم للوليد ،، وثبات الوطن إن جال خوف الغزو ،،
فقلت : آثرت المقام ؟! ،،
قال : ما سفرت لأستكثر من الغربة ولا للقاء الذكريات ولكني أعرفك ،، فلن تفهم وجهة نظري ،،
قلت : اسمعني ،، شاهدت أنفس مكان لم يسعف الزمن بإقامتي فيه ،، ولكني مثلك لا أحفل بذلك ،،
وقال : ولست مثلك فلهيت عما استأثر به الزمان ،،
فقلت ضجرا : أنت تجدف وتخلط الأمور ،،
قال ضاحكا : كجاهل مغالب القدر ،،
على غير علم نشهد بالوطن ،، كسبغ القمراء الطلقة على طواف المجنون : قيس ،،
ويأتي الحظ كهشّ الذباب ،، يريد أن يعبث حتى في الأحزان وفيم اختارته دون التوحش للرحيل وعزلة الوطن ،،
وبأكبر ظن نخفي أوهام اللقاء والزيارة ،، عذرنا بأن التاريخ لم يحدثنا بما لقيهم به ،، وما قال صداه من قنوط وسرور أو إقبال ونفور ،، فنخلو إلى النفس وإلى التفكير ،، منقطعين لا نرى أحدا ولا يرانا إلا بما نريد ،، نشعر بالجهد والعناء ولكننا لا نبغض هذا الجهد ولا نضيق بهذا العناء لمن حولنا ،، لا ننكر ما انتهينا إليه إلا باليكاء ،، وقد لا يحتاج شاعرنا أي شئ لسبغ أبياته ،، نلائم بينها وبين ذوقنا الفتيّ ،، لا أن نعين فكرنا ونشارك الحياة ،، فالإيمان بذلك يجعلنا نعدها لثلاث : صورة تتشقق مع كلمة صعب ،، ونغمة تألف مع كلمة الرعب ،، وحفلة تلائم كلمة الشعب ،، فهل تنظر يا عزيزي إلى البحر ،، فأي شئ يوافق موجه بعد التعب وأي شئ يرافق صوته قبل الشاطئ ،،
قال : يعني من ذلك إلى ما أحب ،،
قلت : ربما ،،
قال : فهل ذلك حق ؟! ،،
فقلت : ربما ،،
وقد أخشى ما ينبئ به الدهر من ظلم وما بشّر عنه ،، فأسخط إلى الليل حينما أخلو لنفسي ،، أم راض بي الصباح كأحلامه للشمس ،، وقد يتردد في تكاثف الظلمات ضوء ضئيل ولكنه غزير ،، هو ضوء العقل والقلب يهديه من ضلال ويرشده في غرقه ،، تبخير عاطفة ،، فأطمئن إلى هذا الإيمان ،، يمتلئ به قلبي وتسكن إليه نفسي ،،