تلاشت رزانة الليل ،،
وخفق قلب الشك بين جوانح الاحتمالات ،،
حتى غمغم : متى يتقرر المصير ؟! ،،
مضى ذات يوم رجل في الطريق الصاعد إلى الجبل يتقدمه آخر يحمل مشعلا في جو مشعشع بالندى وبرودة مستأنسة ،،
وعندما وصلا إلى القمة تركه وعاد أدراجه ،،
أعوام مضت بين الخوف والرجاء ،، بين الموت والأمل ،، مضت في رواية الحكايات ،،
قيل له بأن نهاية آخرها ستكون هنا ،، وها هو ينتظر ،،
تفتحت عن عوالم تدعو إلى التأمل ،، ثمل السكون بها بفرح صامت ،،
وأنجب سؤال من عواصف النفس الهائجة قبل أن يودعها ،، وقال : الوجود أغمض ما في الوجود ،،
سحابة الخواطر تتجسد في الروائح وتنطق ،، تنطبع بعمق أبدي في قلب مريد الليل والانتظار ،،
وتابعت ما وصلني من الحوار الدائر ،،
- إنك تغالي في تسليمك للعقل ،،
- قيل بأنه زينة الإنسان ،،
- من العقل أن نعرف حدود العقل ،،
- لا السرور يستخفك ولا الحزن يلمسك ،،
أفاق السحر من خوف متسلط وتناثرت الأشياء بعيدا عن أماكنها ،،
ترددت أصوات واستشهدت مواعيد ،،
أسفي عليك يا مدينتي التي لا يتسلط عليك إلا الغياب ،،
لم لا يبقى في مزارات الاشتعال إلا الروائح ؟! ،،
الماء يستمد غذاءه من الأسرار منذ قديم الزمان ،، وعند تبخيره تتصل المشاهد من جديد ،،
أما الرجل فوق الجبل فيتوغل شجوه في المجهول ،،
ويتمخض المجهول عن جزر وسهول وأحياء وملائكة وشياطين ،،
ثمة نداء عجيب لا يقاوم ،، يجرب حظه ويلق بذاته في أحضان الغيب ،،
غرقت الفرحة في خيبة غير متوقعة كسلعة وردت بعد أهوال من وراء المجرات ثم تبين عند الفحص فسادها ،،
اشتد الإغراء من جديد فنطق اليأس ،،
- إني طوع أمرك ،،
- لك أن تقبل أو أن ترفض ،،
- سلمت الأمر لقدري ،،
- ستكون في قبضتي ولو أويت إلى جبال قاف ،،
عند ذاك رأيت لوحة مرسومة بعناية فضحكت ضحكة جرفت أعماقي ،،
إن كان حلما فمالي أمتلئ به أكثر من اليقظة نفسها ،،
إني حي لدرجة تجلب الذعر ،،
رغم ذلك ابتل ريقي برحيق النجاة فهيمن علي هدوء وامتنان ،،
رد العالم إلى نظامه بعد خراب شامل ونعمت بعذوبة الحياة بعد عذاب الانطفاء ،،
تبادلنا نظرة قلقة مضطربة بالخواطر المكتومة ،،
قلت بفزع : ،، فقالت بضيق : ،،
تبادلنا النظرة مرة أخرى ،،
وتبادلنا معاناة القلق ،،
فقال الهمس بحذر : ليكن الأمر سرا ،،
عند منتصف اللا شئ فقدت صبري فطرت مستخفيا إلى الصوت ،،
مثلت بين يديه مستسلما وقلت لنفسي إنه القدر الذي لا ينفع معه حذر ولا ينتفع لديه بمثال ،،
ونظرت فصعقت ،، لم أصدق عيني ولكني صعقت ،، التصق بصري باللوحة فلم أستطع أن أسترده ،، سبحت في بحر من الجنون المتلاطم ،، لم أفقه أي معنى ،، نسيت كلمات لا تحصى كما نسيت نفسي ،، تلاشى الزمن وهرب الوجود من النافذة ،، فقدت القوة واللسان والأمل ،، دفنت أشيائي فانبعث من القبر مائة شيطان وشيطان ،، دفعتني آلاف الأيادي فكدت أتهاوى لولا سماعي ضحكات الأفكار في الحجرات ،، الضوء والأحداق والذاكرة ،، إنهم قادمون ،، أما الرجل فوق الجبل فقد أخذ يبتسم ،، أردت أن أضحك بما يناسب المقام ،، أردت أن أبكي لما يناسب المقام ،، لكني غرقت في الصمت ،،
فكيف تتوافق مع متطلباتك العقلية ؟! ،،
وهذا الوجود بشكل قاطع مع أو بدون ما تشعر به في ظل مفاهيم العلاقات الانسانية وتجاور المحتوى مع الشكل ،،
الوقت يمضي لا يرحم والنور يقترب والحقيقة تومض في الظلام ،، ليس في الرؤى إلا بروق الوعود المحتدمة ولا مكان بها للعواقب ،، لا أرى إلا جدرانا تتردد بينها أنفاس الوباء القديم ،، لم يسعفني التفكير ،، زحف علي ما يشبه النوم الثقيل ،، تراخت أعصابي ،، تركت تيار التغير يتدفق ،، تقوضت القامة بسرعة عجيبة ولم يبق منها إلا نقاط منفصلة ،، استحالت دخانا ثم تلاشت غير تاركة أي أثر ،، جلت في المكان أستكشف بذراعي الممدودة ،، لا أثر لشئ ،، لا أثر لحياة ،، وهم أو كابوس أما الرائحة فحقيقة ،، دبيب الشواهد يتلاحق من الخلف وكسا الإثم ميادين ومدارات بطبقة من القصدير المذاب ،،
وسحب الظلام صامدة أمام دفقة الضياء المتوثبة ،،
ووقعت أحداث لم ترمش لها أعين ولكنها هزت أفئدة ،،
كررت الاستماع إلى تكثف الصوت على مقام جديد حتى سبحت في طرب رائق ،،
قال : نحن نحب ما تحب ولكن بيننا وبين عالمك حاجز من المقادير ،،
فقلت : تمر بي هواتف متلاحقة ولكني دائر الرأس في مقام الحيرة ،،
خيل إلي أن تلك العين لم تكن تنظر مصادفة ،، ثمة دعوة خفية من هناك واستجابة من هنا ،، ارتياح باسم كما يرتاح الندى في أحضان الوردة المتفتحة ،، شعور عميق كأنه منذ الولادة ،،
لا أهون من مشقة الطريق بمعسول الكلام فنور الخلاص ثمرة مضنون بها على غير أهلها ،، والسفر يتقبل منك ما دون ذلك ،، ولكل على قدر همته ،،
وقفت كتلة من غبار أمام الرجل فوق الجبل ورمته بنظرة سامة ولكنها لم تنبس ،، فحنق وأمسك بتلابيبها ،، اعتصرها بيديه حتى تلاشت ،،
دفعتني رغبة لا تقاوم إلى الاستلقاء على الرذاذ المتطاير ،،
تفيض كأس الأعماق بنثار الكلم المضيئة كأنما تناجي الذات فيتلقاها مبهورا ،،
وتذكر أحلامه وأحاديثه وأفعاله فتبدت له الأيام غشاء من الألغاز ،، وتذكر ما نسيه فهيمن عليه الأسى ،،
وتذكر بأنه قبل أن يتلقى الشهد عليه أن ينقي وعائه من الشوائب ،،
تقول الملائكة نازك : " ودبت حياة ،،
هناك على البرج ،، في الحرس المتعبين ،،
فساروا يجرّون فوق الثرى في أناة ،،
ظلالهم الحانيات التي عقفتها السنين ،،
ظلالهم في الظلام العميق الحزين ،،
وعادت يد الرجل المنتصب ،،
تشير : صلاة ،، صلاة ،،
فيمتزج الصوت بالضجة الداوية ،،
صدى موكب الحرس المقترب ،،
يدق على كل باب ويصرخ بالنائمين ،،
فيبرز من كل باب شبح ،،
هزيل شحب ،،
يجر رماد السنين ،،
يكاد الدجى ينتحب ،،
على وجهه الجمجمي الحزين ،، "
سكن الصوت ولكن صداه واصل نفاذه إلى الأعماق ،، ولكن الآخر يقحم نفسه علينا وهو غائب ،،
تجمعت في كفي قطرات فغزتني خواطر الشباب ،، ورفعت وجهي إلى السماء المتوارية وراء السحب مسلما أمري ،،
ولمحت الرجل فوق الجبل يقفز في جو قاتم ثم هوى مبددا الآمال ،،
فكيف يداوي الضجر أنسام الربيع ؟! ،، أما أنا فقد اتخذت مجلسي وكأن الأمر لا يعنيني وأقلعت السفينة في جو ربيعي تحت بسمات النجوم الساهرة ،، حتى رست إلى الشاطئ جزيرة ،، استقبلها الموج بالترحاب مداعبا إياها بالغناء ،، فاهتزت طربا وأمطرت بالأشجار اليانعة على أرضها وتمايلت بالجبال ،، وقفت من مجلسي على منظر الدنيا وهي تفيق من جديد ،، هبطت هائما مثل الهواء أحل في أي مكان ولا يراني أحد ،، هيمن علي السحر وجربت أن أكون روحا خفيا متنقلة فأنساني السرور كل شئ ،، شعرت بأني أنتصر وأتساوى مع القوى الخفية ،، وأني أملك زمام الأمور ،، وأن مجال الخطوة يترامى أمامي بلا حدود ،، إنها أجازة أستريح فيها من جسدي وأعين الليل وقوانين الأحياء ،، لم يكن لدي مساحة للتأويل غير مجدية فاستعدت أحلامي الخالدة ،، وتمطى وشى المنى في داخلي مشعشعا بالصهيل الأحمر ،، فرحت أركض مناديا المواعيد من مكامنها ،، وتذكرت خواطر مثقلة بالأشواق كانت تداعبني ،، تجسدت في أصداء الوصول في صورتين ،، وقلت في نفسي ما دامت الأجنحة قد ألقيت على كتفي فما خوفي من التحليق ؟! ،، لم يبق لي إلا حسن الامتثال للنسيم ،، فلأرفع نفسي إلى السماء ولتنطلق الصيحات من قماقمها وليقدم الصحو مكللا بالقرابين ،،