1380 - 1960
واحدٌ وخمسون عاما ، قضى حتى سنّ العشرين في بيوت الطين ، والمعلّم القاسِ ، والأبّ الجاف الذي يضرب على كل صغيرة وكبيرة ، والوجبات القليلة التي لاتكفيه غير لقمة واحدةٍ فقط ، والنوم في ( السطح ) والركلة توقظة !
عاشا ماعاش بكدٍ فكان يعمل ويدرس ويقرأ ويكتب ، كان يعيش مع أمه وأخواته الثلاث ، وبعد تخرجه من الجامعة وكان يُعتبر أنذاك بمثابة( أ د ) ، اشتغل في مدرسةٍ ابتدائية وأخذ يعلّم النشء ومازال يعيش مع أمه وأخواته والطريف في الأمر أن أمه الحقيقة تزوجت وتركته عند جدتي ( خالتها ) وكانت أمه من الرضاعة أمي وخالاتي أخواته من الرضاعة وبنات بنت عمتهنّ ! كنّ يحافظن عليه وكأنه أخاهنّ من ذات البطن لو كان ، كنّ يعطينه للحافهنّ في أيام البرد حتى لايشعر بالبرد ، وكنّ يقاسمنه كل شيء .
بعدها ذهب لأمريكا في بعثةٍ ودرس وعاد رافع الرأس الجميع فرح له والأكثر أمه وأخواته الثلاث ، لم تعد تستوعبه قريتنا الصغيرة فذهب للعاصمة الرياض وعمل هناك وثم أكمل دراسته وأخذ يتقلب في المناصب حتى وصل لمنصبٍ كبير .
عاش حياته الجديدة ، تزوج بمن تناسب مستواه وهي بنت عمّه ، وجميعنا أسرة واحدة لكنّ ثمة فرع من الأسرة كان مُترفًا في زمن الفقر ، أعطاهم الله المال الوفير من مهنة التجارة فولدوا أبناء ذاك الفرع منعّمين ومتحررين .
لكنّه للأسف أخذ الحظ العاثر من أسرته التي ربتّه ، رغم علّو منصبه ورفعة حياته الظاهرية إلا أن وجهه حزين وفي قلبه جرحًا أبدًا لن يلتئم ، كلما رأيته عرفت ذلك وإن لم يتكلم .
وبقي وفيّا لأمي وبناتها لأني نسيت أن أقول أن والدي كان بمثابة والده ، فوالدي هو وجدتي ربيا أيتاما كُثر ، والدي رباه وهو لم يتزوج بعد وكان يأخذ بيده للمدرسة ولا يأبه لبكائه وصياحه ، كان يحضر له ما يحاتجه وبقي معه حتى درس وكان قد تزوجت والدي .
لم يزل وفيّا لأقصى حدّ لنا ، مازال يُحضر أبنائه لأمي خاصة ويقول لهم : هذه اختي العزيزة ، عثمان الرجل المحبوب في بيتنا أحببناه لحب أمنّا وأبينا له وكأنه أخٌّ حقيقي لأمي وابنٌ لأبي
نسي قريتنا التي تربّى فيها ولم ينسى جدتي وأمي وأبي ، نسي بضع قرابتنا ولم ينسانا ، حتى في صلب أفراحه يقول لأخواته من أمه : بنات خالي ابراهيم فوق أي اعتبار وفوق أي أحد .
عيشة الفقر التي عشتها لم تغيّر روحك الجميلة وإن علاها الحزن وكثّفت الضباب حولها الاوجاع ، رغم كل شيء لازلت تبادلنا الحبّ الصادق ، ووجهك يتهلل كثيرا كلما رأيت أمي وأبي أو إحد أبنائهما وفرحتك لايشطرها أي شيء .
فهل تعلم أني أني الأن أكتب فيك حديثًا !
::