فإذًا هذا عيد ميلادي..
لديّ عيد ميلاد واحد أحببته كثيرا. كنت في السابعة و أقامت لي أمي حفلة صغيرة، أعدَّت جاتوه لذيذ بالشوكولا و وضعت الشموع، ألبستني فستانا أصفر بنجمة كبيرة في الخاصرة، و أخذت لي صورا مع شقيقي الصغير. و احتفلنا! كل أعياد الميلاد التي تلت ذلك لا أذكرها. لم أحتفل بأيٍّ منها رغم أني حصلت على الهدايا من صديقاتي كثيرا و دائما. في كل سنة، أذكر ذاك العيد و يجرفني الحنين، يخترق كل قناع قد يضعه عليَّ الوقت الذي يمُر محوِّلا حياتي إلى مناسبة كبيرة جدا، حافلة جدا..
و الآن.. بمَ أشعر؟! اليوم..
في الحقيقة ما يهم في عيد الميلاد هو أن تتأمل جيداّ. تحزن على ما مضى و تفرح بما لديك فتصل إلى توازنٍ ما، نستطيع القول عنه: مُرْضٍ. مضت ثلاث و عشرون سنة، ستة عشر سنة بعد عيد ميلادي ذاك؛ العيد الوحيد الذي كان عيدا.
بماذا أشعر الآن؟!
لا شيء..
"لا شيء" كلمة غامضة جدا، مُضلِّلة في الحقيقة. فهي تنفي " الشيء " و " الشيء " غير مُحَدَّد بتعريف لذا فهي في الحقيقة تنفي مجهولا ما. و تُبْقي مجهولا آخر تُثْبِت وجوده.
بمَ تشعرين يا بثينة؟!
أنا..
أنا لا أشعر. ربما تكون هذه حقيقة من نوع ما، لكنها حقيقة. في هذه اللحظة أنا خاوية جدا مما يُطْلَق عليه: شُعور.
في هذه اللحظة تحديدا، أنا لا شيء. أنا أكتب فقط..
يقول كارل يونغ أن عملية الكتابة الإبداعيَّة هي نشاط سيكولوجيّ بحت. و أن الكاتب أو الشاعر هو مجرّد آلة يستخدمها الإبداع أو النتاج الفنّي ليخرج من خلاله. أي أن هذا النتاج ليس ملكا للكاتب إنما هو قوَّة خارجة عن إرادته تسكن في اللا وعي و تنتظر الوقت المناسب لتخرج إلى الجزء الواعي و من ثم إلى إنتاج فنّي يوُلد و يُكْتَب.
ربما هو مُحِق، لكني متأكدة أن ما أكتبه الآن لا تنطبق نظريته عليه. لأنّي أولا، أكتب لنفسي ولا أسمي ما أكتب الان: أدب، أو كتابة فنّية أو إبداعيّة بأي حال من الأحوال. و ثانيا، لأن مما يخالف الأدب أن تُشعِر أحدا بأنه مجرد شيء ما لا سيطرة له على ما يفعل و أيضا، أنه لا أهميّة له سوى كوسيط ينقل خلاله هذا الأدب المهم جدا، القويّ جدا..
و عودة إليّ، في هذه اللحظة أنا لا شيء..
ما الذي حدث اليوم؟! امممم لا شيء؟!
حسنا، كبداية فإن اليوم هو عيد ميلادي: سبق ذكر هذه الحقيقة. و أيضا، اليوم آخر يوم في الفصل الصيفيّ و يوم الامتحان النهائيّ لمادة النقد الأدبي و التي – تحديدا – تعرَّفت من خلالها على السويديّ يونغ و نظريته عن الفن و الأدب عموما و الشِّعر خصوصا. حقيقة أخرى: كان صباحا مُنْهِكا للغاية و عصرا مُنْهِكًا أكثر، و لم ينته اليوم بعد فالحياة الحافلة تظل – غالبا – حافلة حتى نهايتها. أتساءل ما إذا كان أرسطو، لونغجاينوس، و غيرهم ممن كتبوا عن الدراما و أُسسها قد حظوا بحياة دراميَّة أوحت لهم بالمبادئ التي كتبوا عنها.. أنا أتساءل فقط.
لكي أتخلَّص من أي جحود بشريّ، فقد كانت كل التهاني بعيد ميلادي جميلة، و الهدايا التي اخترتها و لم اخترها؛ مُحَببَّة. لم يكن الامتحان بمستوى عالٍ من الصعوبة و فَرِحْتُ جدا لأخي الأصغر الذي حصل على إحدى أمانيه و أنا خارجة من المنزل في طريقي إلى الجامعة. كِدتُ أبكي فرحا و أنا أحاول مراجعة ما تبقَّى، و السائق المنهمك بمراقبة أوراقي أكثر من قيادته يسألني: " ايش تخصصك؟ إنجليزي صح ؟!" و سؤال يتجدد في ذهني: " و ما المهم في كونه كذلك ؟!"
في طريق عودتي شعرت بالإرهاق، وصلت إلى المنزل لأجد هدية جميلة في انتظاري، و مفاجأة أخرى تنتزع كل الابتسامات : ). ليست مفاجأة بالمعنى الحقيقي للمفاجأة فهي حتميَّة الحدوث لكنها خيبة أمل. ربما أن أقول عنها خيبة أمل يعيدني إلى الجحود فأنا لا أريد فقدان صبري – ليس بعد – ولا أن أسيء الظن بربي و أقداره. لذا سأقول عنها حدثٌ غير لطيف. أن يكون هذا الحدث في يومٍ يُسَمَّى بعيد ميلادي لهو أمر يدفع البعض للتشاؤم، لكنني لم أتشاءم لأن لديَّ معرفة مسبقة بأن الحياة الحافلة – غالبا – تظل كذلك. من الغريب أن نجد حافلةً ما تحوَّلت إلى سيارة أو منزل. سيكون هذا عجيبا جدا!
لذا، يا عيد ميلادي، إن كنت تسألني عن ماهيَّة شعوري في هذه اللحظة فسأجيب: لا شيء!
إذ أني لا شيء. ليس بإمكاني التواصل مع المشاعر ولو حتى لفظا. من السخيف أن تقول بأنك تشعر بأنك لا شيء. لذا أنا لا أشعر. أنا – ببساطة، منذ بداية هذه الرسالة – لا شيء!
من المؤسف أنّي لم أبكي حين كنت سعيدة، إذ أني الآن لا أستطيع أن أذرف دمعة واحدة.
عيد ميلادي، لن أقدِّم أي مطالب، لن أعترض على قدومك مرتين في السنة لتواسيني بوهم أني أستطيع تأخير تقدمي في العمر. لن اسألك أن تتوقف عن القدوم أو أن تعيدني إلى العيد الوحيد الذي أحببته جدا، العيد الوحيد الذي – حتى الساعة – لا أستطيع النظر إلى صوري فيه دون أن أرتعش أو أن ينتفض قلبي كنائمٍ اهتزّ بدنه مستيقظا من كابوس ما، لن أتمنى أبدا عليك أن تدعني أعيش تلك الساعات ولا حتى لمرة واحدة، أن تسمح لي بأن أكون شخصا فقدته بعد ذاك العيد أو أن أشتمَّ لثوانٍ ذلك البياض الذي يُعرَف به الأطفال.. لن أفعل، و في المقابل، لا تسل عن شعوري في هذه اللحظة أو في هذا اليوم.. فمن الواضح جدا أنّني و العيد؛ لسنا بحظوة الأصدقاء! ربما يحبني كما يحب جميل بثينة.. لكن الواقع أن جميل لم يحصل على بثينة أبدا..
لن أتمنى، إذ أن الأمنيات مخيفة! في عيد ميلادي ذاك كنت نحيلة جدا، لم يكن لدي أصدقاء سوى الكتب، تمنيت كثيرا أن يكون لدي أصدقاء. لا أستطيع منع نفسي من إطلاق ضحكة كلما عبرت هذه العبارة ذاكرتي. لأني الآن بعد أن نضجت لم أعد أهتم كثيرا. و أحاول دائما الابتعاد عمَّن يحب أي شيء سوى هذا المخ المُتْعَب في رأسي و الذي فقد الكثير حتى العلاقة بينه و بين صديقه الأحبّ؛ الكتب. ما قد يؤلمني أكثر هو عبارة قيلَت لي: " إنت كنت عبقرية و إنتِ صغيرة. كنَّا متوقعين تصيري نابغة أو أي شيء.."
شكرا يا عيد ميلادي، شكرا لأنك تعطي فرصة للأصدقاء أن يعبروا عما أعنيه لهم، لأنك في هذه السنة ستجلب لي الكثير من الكتب التي وافق الأصدقاء على جلبها لي كهدايا، و لأنك قد تكون سببا في حصولي على مجموعتي الكارتونيَّة التي أحلم بها. شكرا على كل الأحداث غير اللطيفة، لأنك تخنق الفرحة في اللا وعي، ولا تمنحها فرصة للخروج كنتاج فنيّ كما يظن صديقي يونغ. عيد الميلاد هو فرصة للتسامح مع الماضي أكثر من الفرح بالحاضر و الأمل بمستقبلٍ ما. عيد الميلاد يعكس الماضي.. فقط!
الثاني و العشرون من شهر آب، 2011. عيد ميلادي الثالث و العشرون.