أشعر بقليل من التعب. بالأمس واجهت نوبة سيئة للغاية.. لم أستطع النوم حتى بعد حقنة المسكِّن فمعدتي كانت تلتهب و معها يلهج لسان أمي بالدعاء.. لا بأس. بعض الآلام نعتادها و تعتادنا فينشأ نوع من الحميمية الغريبة بيننا؛ نوع من الألفة. كل ما كنت أدعوه أن أستيقظ بشكل أفضل لأستطيع أخيرا القيام بواجب العزاء من أجل صديقتي الراحلة..
تقول أمي: "يا معزيَّة بعد شهرين
يا مذكِّرة بالذي مات "، و أبتسم أنا بمرارة لمقولتها و أحاول إلهاء نفسي بقصة بلهاء اخترتها لإدغار آلان بو. عرفتُ أخيرا بعد أكثر من أربعة أشهر كل ما أردت أن أعرفه: كيف ماتت، متى، أين دفنت، و الكثير من الأسئلة التي أرقتني منذ عرفت بوفاتها. طوال الزيارة كنت أتأمل والدتها " ياه، كم تشبهها، كم تتشابه أصواتهما، و كأن سارتي أمامي تتحدث إلا أن الزمن تقدم بحوالي عشرون عاما.." كم قاومت رغبة في احتضانها و أطلت النظر إلى الأرض و هي تحكي بصوت دامع كيف رحلَتْ سارتُنا الحبيبة. لشِّدة بكائي خفتُ أن أثير الألم في قلب الأم و أدفعها لمزيد من الدموع.. لم أرغب بأن أكون سببا في فقدانها لأعصابها فحاولت التماسك قدر الامكان بإمساك كوب الشراب بعصبيَّة و النظر في اللاَّ شيء و اللعب بخصلات شعري، كل هذا و الدموع لم تتوقف. تبًّا لي، كنتُ أردِّد لنفسي " تمالكي نفسك قليلا ".
ليس الموتُ سهلا، و أنا مبتدئة في تجربته.. كل ما أعرفه عن الموت متعلق بالروح و بالقلب لا بالجسد الذي يقتلهما. في رحلة عودتنا، صديقتي التي رافقتني كانت تحاول أن تبهج الجو المختنق، تحدثت لدقيقتين و أثارت ضحكة دامعة ثم التزمنا الصمت. توقفنا عند إشارةٍ ما و تلفتني أمي لفتاة ملتَّفة بعباءة بلون الرمل. تسند ظهرها إلى عمود الإنارة و تبدو كأنها نائمة. الجو بارد جدا و نشعر بالحزن أنا و أمي لمنظرها.. فإذا بها ليست نائمة بل ممسكة بهاتف ما و تكتب شيئا طيلة وقوفنا. ضحكت أمي و ضحكت معها و أخبرنا صديقتي. أطلنا ثلاثتنا النظر إليها - ملتهيين بمحاولتنا اكتشاف ما تفعل - و في داخلي أقول: " إنها ما تزال تثير الشفقة، و إن كانت تملك هاتفا غاليا فهي ما تزال تفترش الرصيف".
إنها حياة باردة.. باردة جدا. ولا تحمل وطنا لأحد!