كانت وفاة جدي أبو أمي هي أول وفاة أختبرها في العائلة
ورغم أنها لم تؤثر عليّ كثيراً لأني لا أعرف جدي، ولا تربطني فيه علاقة متينة
إلا أن كلمة "موت" صارت أكثر جدية بالنسبة لي
وربما كان منظر أمي وهي تبكي الوجه الأكثر تأثيراً علي من بين كل الوجوه الأخرى للموت
صارت كلمة "موت" مرتبطة بحزن أمي
اعتادت أمي على دفن مشاعرها أمامنا
لم تكن تخاف، ولم تكن تحزن، ولم تكن تظهر أي نوع من أنواع المشاعر السلبية
كانت تغضب فقط، وكان غضبها يفوق الحد الطبيعي للغضب، أو هكذا كنت أعتقد
عندما تغضب أمي يفلت لسانها وتلهج بأدعية مدهشة لا يمكن أن يبتدعها غيرها
أدعية مثل: يجعل لك حبة بفخذك، يجعل لك زوج يكنسك، يجعل لك الماهو،
إضافة إلى مجموعة كبيرة من الشتائم والقذائف التي قليلاً ما أخطأت هدفها
ومجموعة من الموشحات والنصائح الطويلة والتي لا تنتهي...
لكنها لم تكن تحزن أمامنا، بالذات من أبي
كأنها لم تكن تريد أن تصدق أن أبي قادر على استحضار الحزن
أحياناً كنت أستيقظ على صوت أمي وهي تبكي بحزن لوحدها
أو تتنهد وتكتب في دفترها الأزرق الذي لا تسمح لأحد بقرائته
ولم أكن أجرؤ علي الاقتراب منها أو سؤالها عن سبب حزنها
شيء ما في داخلي كان يخبرني بأن أبي هو السبب
رغم إن أبي في ذاك الوقت كان مثالياً جداً،
شيء ما في داخلي كان يخبرني بأنه حطّم معظم أحلام أمي
غياب أبي الطويل عن المنزل وحكايات أمي الخارقة حوله جعلتنا نحيطه بهالة من نور
كنت أفتخر في المدرسة بأبي
كنت أحب أن أمشي بجواره وأنا أمسك يده وأقول للجميع بأنه أبي
تخيلت علاقة كاملة مختلفة عن الحقيقة قليلاً بيني وبينه،
علاقة مدهشة بين أب وابنته، فيها كم هائل من الصدق والقليل من الكذب، القليل فقط
ولأن أمي كانت بجوارنا دائماً، كنت أقذفها بكل السلبيات في العالم
أمي هي التي ترفض رغباتنا
أمي هي التي تؤخر أشياءنا
أمي هي التي تضربنا وتصرخ علينا
أمي لا تفهمنا
أمي لا تتحاور معنا
أمي لا تجيب طلباتنا
عكس أبي، الذي كان يقضي معنا ثلاثة أيام يحاول أن تكون أجمل ثلاثة أيام في الأسبوع
أحياناً كان يصرخ علينا، وأحياناً يضربنا ضرباً مبرحاً
لكنه كان يبذل جهده لإسعادنا وكنا نعرف ذلك ونشعر به
لذلك كنا نعتقد بأن أمي قاسية معنا، وبأن أبي يدللنا كثيراً
ارتباطنا العميق بأمي، بمشاعر أمي بالذات جاء بعد فترة طويلة
عندما بدأ أبي في استغلال ضعفها تجاهه وحبها له
تحول أبي من رجل حنون، إلى شخص جديد لم نكن نعرفه
إلى رجل مزاجي، أوامره حسب المزاج
الأشياء التي يغضب منها وقتية ولا تلتزم بقاعدة معينة
صارت أوامره فجأة تنطلق من هوى النفس، ولا تعتمد على أي قانون تربوي حقيقي
حتى فقدنا نحن أبناؤه صبرنا تجاهه
وبدأت أنا بالذات في التمرد عليه، وعلى قوانينه الغير منطقية
مكثنا في بيتنا الصغير في بني ياس قرابة تسع سنوات
مر خلالها العديد من العدادين لحساب تعداد المنطقة
ازداد عدد الدوائر على جدار بيتنا، وتحول لونها من أزرق لأحمر ثم أخضر
أصيبت أمي بنفس حالة الحماس التي أصيبت بها أول مرة عندما رشوا جدارنا بدائرة خضراء،
لكنها لم تتصل بأبي وفضلت على أن تبقي الأمور عمّا هي عليه إلى أن يجيء ويرى كل شيء بنفسه
لكن أمي أصيبت بصدمة خاطفة عندما خرجت إلى الخارج ورأت جدار أبو عبدالله، مكتوب عليه "قابل للهدم"
لم تتمالك أعصابها واتصلت مباشرة بأبي،
ولأول مرة استغرب أبي، ثم أخبرها بأنه لا يعرف أي شيء،
وإننا جميعاً نمتلك حق الهدم، لذلك بدأ أبي يقلق من ألوان الدوائر على جدارنا،
ووعد أمي بأنه سيتصرف في أقرب فرصة
بعد ستة أسابيع من تلك المكالمة، سكبت أختي الجديدة، والصغيرة جداً، كأس الماء الذي كانت تلعب به بين يديها على الهاتف
لم يعد صوتنا مسموعاً.
صار أبي يتصل ويطلب منا أن نضغط أرقاماً معينة يعرف من نغمتها الجواب على أسئلته
اتصل مرة وكنت أنا على الهاتف، قال " لو انت واحد من العيال اضغط واحد، لو انت ماما اضغطي 2"
ضغطت 2
قال "لو اشتقتي لي اضغطي 2"،
استغربت لأنه لم يمنح أمي حق اختيار ألاّ تشتاق له، ضغطت 1،
مباشرة قال "هاتي أمك يا قليلة الأدب" ضحكت بصوت عال وناديت أمي
استمرت مكالماتنا مع أبي بهذا الشكل حتى عاد من عمله وغير لنا جهاز الهاتف
في أحد أيام شهر أغسطس من عام 1998 عاد أبي وهو يحمل وجبة العشاء
قال لأمي عندي لك خبر سيفرحك
جلسنا أنا وإخوتي حول الطعام نتعارك على الـ "French Fries"
وأمي تضع لنا دجاج كنتاكي الذي أحضره أبي معه
كان أبي يتكلم كثيراً، كثيراً
ثم قال: وهكذا نقلوني للعمل في أبو ظبي، لن أضطر لأن أغيب عنكم أسبوعاً كاملاً بعد اليوم،
وأيضاً... سننتقل إلى أبو ظبي، وستسكنين في فيلا كبيرة لوحدك أنت وأولادك"
قالت أمي: لن تغيب عنّا بعد اليوم؟!
أجاب أبي: وسننتقل جميعاً إلى أبو ظبي...
توقفنا عن العراك...
نظرنا كلنا باتجاه أبي....
تزوجت أمي أبي عام 1983
ومنذ تلك السنة حتى ذاك العشاء،
لم تهنأ بوجود أبي بجانبها غير بضعة أيام يغيب بعدها لأسابيع طويلة
ثم يعود إليها لبضعة أيام أخرى
كان خبر ترقيته ربما أجمل خبر سمعته أمي في ذلك الوقت
اتسعت ضحكتها وازدادت حيويتها وهي تتساءل بينها وبين نفسها عن شكل حياتها وزوجها بجانبها طول الوقت
عندما ذهب أبي للمرة الأخيرة إلى عمله
جلست أمي مع إخوتي، وسمحت لهم بالنوم في غرفتها وهي تخبرهم بأننا سنبدأ بالبحث عن بيت جديد لنا
كنت أنا في غرفتنا لم أذهب للنوم معهم
شعرت بأني كبيرة على مثل تلك الأمور،
كنت أبلغ من العمر 14 عاماً ولم أكن أحب أحضان أمي
كان بيتنا الصغير في بني ياس يتألف من 3 غرف
غرفة لأمي وأبي، وغرفة لنا جميعاً نحن الأبناء،
وغرفة في الخارج جعلتها أمي صالون المنزل وحمام صغير
كان الحمام عبارة عن "تواليت" ومغسلة فقط، فزوده أبي برشاش للاستحمام
كنا سعيدين بانتقالنا من بيتنا
كنا سعيدين بأننا أخيراً سنسكن في فيلا كبيرة مثل بيت جدي
وبأن أبي سيبقى معنا ولن يضطر للذهاب للعمل
لم نكن نعرف أن هذا التغيير سيكون علامة مفصلية في حياتنا
ونقطة هامة ستحددشكل العلاقة بين أبي وأمي
للأبد...