من أ. إلى م. وبالعكس
(هل ثمَّة مَنْ يكتبُ مثلنا؟)
الجوابُ الثَّالثُ
يا الغريبة:
أتذكَّرُ أبي -رحمه الله- جَمَعَنَا صغارًا في بطَّانيةٍ واحدةٍ، ثمَّ حَزَمَنَا إلى ظهرِهِ، ثمَّ على غير هدى سارَ بنا، دون أنْ يتزوَّدَ -حتَّى- بالماء، والعجيبُ أنَّنا لَمْ نمتْ! اِخْتَرَقَنَا الرَّصاصُ وسَحَقَتْنَا القذائفُ وطَارَدَتْنَا الطَّعناتُ واللَّعناتُ إلَّا أنَّنا نَجَوْنَا وسَقَطَ الصَّيادُ والطَّعَّانُ واللَّعَّانُ وخَابَ الشَّاتِمُ والشَّامِتُ. وما زالتِ الحربُ قائمةً، وما زلنا نقاومُ، وما زلتُ -في سرِّي- أتساءَلُ: أين يختفي البحرُ وقتَ الحربِ؟ ولماذا تبدو السَّماءُ بعيدةً جدًّا وباردةً؟
نُحبُّ اللهَ، يا صديقتي، ثمَّ النَّاسَ جميعًا، وقد نُحبُّ أنفسنا، لكنَّه التَّذلُّلُ لا يكون إلَّا لاثنين: لله، ثمَّ للوالدين. وكلُّ محبَّةٍ فيها تذلُّلٌ لغيرهما هي من الهوانِ، حتَّى محبَّة الأوطانِ، والوطنُ الَّذي يأكلُ أبناءه ليحيا لا يستحقُّ سوى الرَّجمِ وأرحم منه تكون الغربةُ.
كلُّ طريقٍ لا تُرْجِعُنَا بعد أنْ تَأْخُذَنَا هي خائنةٌ. وكلُ جهةٍ لا نَهْتَدِي إليها إلَّا بالخرائطِ والسَّماءِ هي مراوغةٌ. وكلُّ رفيقٍ يتخلَّى عنَّا في منتصفِ المسافةِ أو قبلَ المنتصفِ بقليلٍ هو غادرٌ، وإنْ سقطَ بالتَّعبِ الْمُغَبَّرِ والمباغتِ أو بطلقةٍ عابرةٍ أو عامدةٍ. نُريدُ أحبابَنَا كلَّهم معنا، في الحلِّ نُرِيدُهُمْ وفي التَّرحالِ، وإنْ لَمْ يُطَاوِعُونَا سَرَقْنَا صورَهُم وروائحَهُم ومذاقَهُم وشيئًا من أَثَرِهِمْ وعاداتِهِم ثمَّ مضينا، ثمَّ تبادلنا معهم الرَّسائلَ أو النِّسيانَ، الرسائل الهائمة، والنِّسيان النَّاقص والمعيب بالتَّذكار.
الطَّينُ هو الأصلُ، لكنَّه ليس سواء، فثمَّة بشرٌ من نورٍ وماءٍ، وبشرٌ من لونٍ وماءٍ، وبشرٌ من نغمٍ وماءٍ، ومن كَلِمٍ طيِّبٍ وماء، ومن ماءٍ وماءٍ... وماؤهم كلُّه طهرٌ وعطرٌ ونقاء، ولا أظنُّ أنِّي بالتَّفاؤلِ أدفنُ رأسي في الرِّمالِ، إنَّما أرفعها عاليًا صوبَ السَّماء، ومثلكِ أستغيثُ، ومثلكِ أجأرُ وأتضرَّعُ، وكلَّما سَقَطْتُ صاحتْ أُمِّي: يا ألله! وأسعفني أبي بالصَّلاةِ.
وما زالتْ رسائلكِ تقولُ كلَّ شيءٍ ما عدا قَوْلَكِ...
فَمَنْ أنتِ؟
أخوك/ م.