حين تلمس السماء القلب!
هل شعرت يومًا بوميضٍ خافتٍ ينبعث من أعماقك؟ ليس من ذكرى عابرة، أو حلمٍ بعيد، بل من مجرد نظرة إلى تلك اللجة الزرقاء، أو السواد المخملي المرصّع باللآلئ، إنها لحظة تتلقفها الروح فورًا، كأنها تعرفها منذ الأزل، حين تتجلّى السماء ليس كفضاءٍ شاسعٍ فوقنا، بل كمرآةٍ شفافةٍ تعكس أعمق الأسرار الكامنة في القلب.
هناك، حيث تلتقي اللانهاية بالمتناهي، ويتلاشى الفاصل بين ما هو مرئي وما هو محسوس، تولد تلك الرجفة التي لا تأتي من الشفق، ولا تذوب في زوال الليل، بل تبقى ساكنة، عميقة، كوشمٍ أبديٍّ على جدار الروح.
إنها رجفة ليست رجفة خوفٍ ولا برد، بل هي دهشة وجود، ارتعاشة صمت أمام عظمةٍ لا تُدرك كنهها العقول، لكنها تلامس شغاف القلب مباشرة. وكأن الكون، بكل اتساعه وسكونه، يهمس إلينا بسرٍّ قديمٍ عن أنفسنا، عن كوننا خيوطًا متشابكة في هذا النسيج الكوني.
ما الذي يجعلنا نرتجف أمام سماءٍ مليئة بالنجوم، أو عند رؤية شروق الشمس يصبّ ذهبه على الأفق؟ ليست الألوان وحدها، ولا الأبعاد الفلكية، بل هو ذلك الصدى الذي يتردد في أعماقنا، صدى الأصالة والجمال المطلق، الذي يوقظ فينا ما كان نائمًا، ويُعيد وصل ما انقطع بين الروح ومصدرها الأول.
تتسلل أشعة الشمس الأولى عبر نافذة الروح، فتُضيء زواياها المنسية، وتُبعث الحياة في كل خلية. السماء، بتجلّياتها المختلفة، ليست مجرد سقفٍ للعالم، بل صفحة قلبٍ كونيٍّ نُطالِع فيها أسرارنا.
هي تُحدث فينا صحوةً لا تُشبه الصحوات المعتادة؛ صحوة تُلغي حدود الزمن والمكان، وتدعونا لنتجاوز حواسنا الخمس، لنُلامس ما لا يُلمس، ونُبصر ما لا يُرى بالعين المجرّدة، وكأن السماء لا تكتفي بأن تظل فوقنا، بل تسكن فينا لتُعيد ترتيب العالم من الداخل.
إنها تذكرة بأننا لسنا مجرد كائناتٍ مادية، بل نحن أرواحٌ تسكن أجسادًا، أرواحٌ تتوق إلى الوصال، إلى الاندماج في هذا الجمال الكوني العظيم.
تلك الرجفة التي تُلامس القلب، لا هي من رياحٍ عابرة، ولا من نورٍ خافت، بل هي من وهجِ الحقيقة، من لمسةٍ علويةٍ تجعلنا نُدرك أننا جزءٌ من كلٍّ أكبر، وأن سرّ وجودنا يكمن في هذا الاتصال الروحي العميق. هي ليست مجرد إعجابٍ بصري، بل هي تماهٍ صوفيّ، انصهارٌ للذات في بحر الكون اللامتناهي.
تُرى، أهي الرجفة نفسها التي تأتينا حين نرى البحر يتقاطع مع ضوء القمر، فيتوهج كأنفاس كائن سماوي؟ تلك اللحظة التي لا يكتفي فيها الجسد بالمشاهدة، بل تُنصت الروح، ويتسع القلب لأكثر من مشهد، لأكثر من إحساس.
حين نصغي إلى حفيف الريح في جنح الليل، نشعر كأننا نسمع أنفاس كائناتٍ خفيّةٍ تتراقص بين النجوم. إنها لحظات لا يكتفي فيها البصر بالتأمل، بل تتوق الأذن لالتقاط سيمفونية الكون الخفيّة، وتتوق الروح للذوبان في وصالٍ حسي شامل، كأن الريح تُقلّب صفحات كتابٍ كونيٍّ مُذهّب.
لقد أدرك الأقدمون هذا السرّ، فنسجوا من النجوم حكاياتهم، وجعلوا السماء جسرًا بين عالمهم الفاني والماوراء الأبدي، كما فعلت الحضارات القديمة التي رأت في كل نجمةٍ قصةً، أو إلهًا، معتبرينها دليلًا لا على الطريق فحسب، بل على سرّ الوجود ذاته.
ما تظنه ضعفًا أمام اتساع السماء، هو في جوهره انتماءٌ صامتٌ لقوةٍ خفيةٍ تنبض بك. ما تلك الرجفة سوى توقيع الكون علينا، نحن أبناءه الشرعيون، المنتمون إليه أكثر مما نعي.
نحن لسنا مجرد مشاهدين على مسرح هذا الكون؛ نحن فاعلون فيه، متلقّون للّمسات، ومُشِعّون لها بدورنا. ويظل في القلب أثرٌ دافئ، ورجفة خفية، كأن الزمن توقف ليُصغي إلينا.
وعندما تُسدل السماء ستائرها الليلية، وتُضيء كواكبها ونجومها، لا يبقى في القلب سوى ذلك الأثر الدافئ، تلك الرجفة الهادئة التي تُخبرنا بأننا وُجدنا لنُحب الجمال، ونستشعره في كل ذرةٍ من هذا الوجود، وأن أرواحنا تتنفس من فيض السماء، وتُروى من غيثِ هذا الكون المعطاء.
في المرة القادمة التي ترفع فيها رأسك إلى السماء، تذكّر أنك لا تنظر إلى فراغ، بل إلى مرآة روحك، إلى إشاراتٍ صامتةٍ تُخاطبك بلغةٍ لا تُقال. دع تلك الرجفة تدبُّ في أوصالك، واستقبل همسات الضوء كما لو كانت رسائل موجَّهة إليك وحدك. فذلك الارتجاف الخفي... ليس من البرد، بل من الضوء الذي يعبر القلب قبل أن يلامس العين.
ألم يقل جلال الدين الرومي: لقد وُلدتَ بجناحين، فلماذا تُصرّ على الزحف؟ ارفَعْ رأسك، ليس لترى السماء، بل لتتذكّر أنك منها... وأن كل ما فيك يشتاق إليها، كما يشتاق الضوء إلى مصدره، والنجم إلى مجرّته.
جهاد غريب
يوليو 2025