صفات العابدين: رحلة إلى عظيم الأجر!
ثمة لحظة في عمر الروح، لا تُقاس بالسنين، بل بمقدار ما توقّف القلب فيها عن الجري وراء العالم، وبدأ يلتفت نحو الله. لحظة تُشبه الانتباه المفاجئ وسط ضجيج الحياة، كأنك كنت نائمًا داخل جسدك واستيقظت… لا على صوتٍ، بل على سكينة غامضة تسكنك لأول مرة. إنها لحظة الشوق العميق، الشوق الذي لا يعرف وجهة إلا وجه الله، ولا قرار إلا في القرب منه.
في هذه اللحظة، لا تعود الفضائل مجرّد صفات تُدوَّن في كتب التزكية أو تُلقَّن في المجالس، بل تصبح ملامح واضحة لنورٍ داخلي يتكشّف شيئًا فشيئًا، كمن يخرج من كهف ذاته ويرى أن النور لم يكن بعيدًا، بل كان في عينيه، ولكنه كان مطفأً.
هنا تتجلّى مسارات الروح في رحلتها نحو المعنى الأسمى، وتتضح معالم تلك النفوس التي أدركت أن الحياة ليست سوى معبرًا، وأن الغاية الحقيقية تكمن في الاتصال الأبدي.
إنّ المسلمَ ليس فقط من نطق بالشهادة، بل من سلّم قلبه لله دون مفاوضة. والمؤمن ليس فقط من آمن بالغيب، بل من استراح إليه كأنه يراه. والقانت لا يعيش طقوس العبادة، بل يعيش في العبادة ذاتها، كأن حضرة الله هي الهواء الذي يتنفسه. والصادق هو من تطابقت روحه ولسانه، حتى أصبح كلامه امتدادًا لنقائه.
ثم هناك الصبر... ذاك الحارس الصامت عند أبواب البلاء، لا يصيح، لا يشتكي، لكنه يبتسم لِما لا يُفهم، ويحتضن ما لا يُحتمل. والخشوع؟ إنه السجود الداخلي الذي يحدث حتى لو كان الجسد واقفًا. العين التي تبللها الدهشة لا الحزن، والقلب الذي يُفتّش عن الله، حتى في حركة ورقة، أو في دقّة نبض.
أما العطاء، فهو أسمى صور القوة. ليس لأنك تملك، بل لأنك تؤمن أن ما عند الله خيرٌ وأبقى. هو أن تُعطي وأنت في أمسّ الحاجة، لأنك لا تنتظر مقابلًا، بل نورًا يفيض. والصوم، هو إعلان ثورة الروح على استهلاكها. صمتٌ عن الشهوات، ونُطقٌ بالنية، وانسحابٌ من عالم الضوضاء إلى عمق الذات.
والعفة، ليست كبتًا، بل سموًّا. هي أن تقول "لا" لأنك تعرف قيمة الـ"نعم". هي أن تحبّ طهرك، كما يحبّ الله نقاءك. والذكر... ذلك الحبل الخفيّ الممتدّ بين الأرض والسماء. الأنفاس التي تصعد باسم الله وتعود بالطمأنينة، والذكريات التي تتلاشى، لكن اسم الله يبقى.
كل هذه الصفات، ليست ألقابًا تُمنح، بل مقاماتٌ تُعاش. هي درجات في سُلّمٍ من نور، لا يصعده الجسد، بل ترتقي فيه الروح، خطوة بخطوة، كلمة بكلمة، دمعةً، ثم بسمة، حتى تصل إلى ذلك المقام الذي لا يُرى بالعين، لكنّه موصوف في الآية: "أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا".
هذه هي مسارات الشوق، ودروب النجاة، ونور الرشاد، نتعلمها من أولئك الذين ساروا على هدى النور، تاركين لنا بصماتٍ من ضياء.
1. المُسلمون والمُسلمات:
هل فكّرت يومًا أن الراحة ليست في بلوغ ما تريد، بل في ترك ما لا تملك السيطرة عليه؟ أن السلام الحقيقي لا يأتي حين تنتصر، بل حين تسلّم قلبك لله دون قيد أو شرط؟ إنه ليس هروبًا، بل عودة. ليس استسلامًا، بل فتحًا باطنيًا… نحو النور.
كم ثقلٌ انزاح عن أكتافهم حين توقفوا عن محاربة الأقدار! كأنهم يسيرون على حوافّ العالم، والعاصفة تهدر خلفهم، لكن في عيونهم سكينة لا يصنعها إلا من وضع قلبه بين يدي الله وقال: أنت ربي، فدبّر أمري.
الإسلام ليس بابًا يُطرق مرة، بل مسارٌ يُسلك كل لحظة. هو أن تستيقظ في الصباح على نيةٍ طاهرة، وأن تمشي بين الناس وقلبك موقن أن ما أصابك لم يكن ليُخطئك. أن تُنفق وتعلم أن الرزق لا يُنقصه العطاء، وأن تُبتلى… دون أن تنكسر، لأنك تعلم أن يد الله هي التي تُمسكك، لا قدرك وحدَه.
تلك المرأة التي رفعت يديها بعد صلاة الفجر، ولم تطلب شيئًا إلا أن يُرضيها الله، وذلك الأب الذي خسر ماله فابتسم وقال: الحمد لله على كل حال، وذلك الشاب الذي غادر طريق الحرام لا خوفًا من الناس، بل حياءً من ربٍّ يراه… هؤلاء هم المسلمون حقًا، الذين عرفوا أن الإسلام ليس قولًا، بل سكونًا داخليًا لا تزلزله العواصف.
فيا رب، علّمني كيف أُسلمك قلبي، دون أن أُبقي فيه رغبةً أقاوم بها قَدرك، واجعلني من أولئك الذين مشوا في الدنيا بأقدامٍ على الأرض، لكن بقلوبٍ معلّقة بالسماء.
فإذا ما استسلمت الروح وانزاح عنها ثقل الدنيا، بدأت ترنيمة أخرى تُرتّل في أعماقها: ترنيمة اليقين، إيمانٌ لا يتزعزع حتى وإن غابت البراهين.
2. المؤمنون والمؤمنات:
ثمة يقين لا يُبنى على المنطق، ولا يحتاج إلى برهان. هو كالنور الذي لا تراه العين، لكنّه يدلك على الطريق… دون أن يُخطئ.
المؤمنون لا يسيرون بأقدامهم فقط، بل ببصيرةٍ تنظر إلى الغيب وكأنه حاضرٌ في أكفّهم. إنهم لا يسألون: لماذا؟ بل يقولون: ربّي أعلم. ولا يركضون خلف الإجابات، لأنهم أدركوا أن الإيمان نفسه… هو الجواب. كأنهم أشجار ضاربة في عمق الأرض، تمرّ عليهم العواصف، لكن لا تخلعهم. يهتزّ ظاهرهم، لكن جذورهم ثابتة، تمتدّ في تربة اليقين.
الإيمان ليس صخبًا ولا خطبًا، بل هو صمتٌ راسخ في وجه المتغيرات، أن تسير في الظلمة وأنت متأكد أن الشمس خلف السحاب. أن تنام دون أن تفهم كل شيء، لكنّ قلبك يبتسم… لأنك واثق أن الله لا يُضيع أحدًا. انظر إليهم في وقت الخوف، لا يصرخون، بل يتوضأون. وفي ساعة الضيق، لا يشكون، بل ينظرون إلى السماء وكأن فيها بيتهم الأول.
وتلك الأم التي تمسكت بصبرها كالجبل، حين تأخر شفاء ولدها… لكنها لم تتوقف عن الدعاء، كأنها تعلم أن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن. هؤلاء هم الذين آمنوا حقًا، لا لأنهم رأوا، بل لأنهم استراحوا للغيب، واطمأنوا به.
اللهم… اجعل لنا جذورًا في أرض الإيمان، وفرعًا في سماء الرضا، ولا تجعلنا ممن يتبعون الضياء، بل اجعلنا ممن يصنعون النور حين يغيب.
وإذا ما استقر اليقين في القلب، لم تعد الطاعة عبئًا، بل صارت حياةً تُعاش بكل خلية، قنوتٌ لا ينقطع، وكأن الروح وُلدت لتُسبّح.
3. القانتين والقانتات:
ثمة أرواح تمشي في الأرض، لكنها تعيش وكأنها في حضرةٍ لا تنقطع. لا يتحدثون كثيرًا، لكنّ الصمت فيهم مُسبّح، والخطى فيهم صلاة.
القانتون… ليسوا فقط أولئك الذين يُطيلون الركوع، بل الذين أطالوا الإقامة في محاريب قلوبهم. يتعاملون مع الحياة كما يتعامل العابد مع السجادة، بخشوع، وسكون، واستحضار دائم لوجه الله في كل شيء.
كأن فيهم حضورًا خفيًا، وفي أعينهم أثرُ سجدةٍ لم تجف. يعرفون أن الطاعة ليست طقسًا، بل طريقة عيش. أن تُخفض صوتك، لا خوفًا، بل أدبًا. وأن تُحسن إلى الناس، لا طلبًا لردّ، بل لأنك تعيش في عين الله. القنوت ليس انكسارًا، بل امتلاء. أن تمتلئ بحضور الله حتى لا يبقى فيك مكان للغرور، ولا للرغبة في الانتقام، ولا حتى للضجيج.
رأيتُ امرأة مسنّة، تُمرّر أصابعها على حبات المسبحة، وفي عينيها سلامٌ يشبه نهاية رحلة طويلة. رأيت رجلًا يغضّ بصره بهدوء، ويضع مالًا في يد سائل دون أن ينظر… وكأن فعله ليس للناس، بل لعينٍ فوقه. إنهم يعرفون أن القرب من الله لا يُقاس بالمسافة، بل بمقدار ما سكنت الروح إليه.
اللهم… اجعلنا من الذين يُقيمون في طاعتك إقامة محب، لا ضيفًا عابرًا. واجعل فينا من القنوت سُكونًا، ومن سُكونه نورًا لا ينطفئ.
ففي حضرة هذا القنوت، لا يبقى مكان لزيف، تتجلى الروح على حقيقتها، صدقٌ يفيض من الكلمات، ومن الصمت، ومن كل نَفَس.
4. الصادقين والصادقات:
ليست كل الكلمات تُقال بالحروف… بعضها يُقال بالعين، وبعضها يُقال بالصمت، لكنّ الصدق… لا يحتاج إلى تبرير، لأنه حين يصدر من القلب، يصل إلى القلب، دون أن يضيع في الطريق.
الصادقون لا يتكلّفون النقاء، بل يتنفّسونه. يمشون في الحياة كأنهم يحملون أرواحًا من زجاج، شفافة، لا تخفي شيئًا، ولا تخشى الانكسار… لأن الله هو من يمسك شظاياهم إن سقطوا.
أن تكون صادقًا… هو أن تُشبه نفسك حين لا يراك أحد، وأن لا تحتاج إلى وجهين في زمنٍ امتلأ بالأقنعة. هو أن تقول الحقيقة، حتى لو خسرت، وأن تصمت عن الباطل، حتى لو وجدت ألف مبرر للكذب.
إنهم لا يعِدون إلا وهم ينوون الوفاء، ولا يُظهرون ما ليس في دواخلهم. لا يُراوغون بالكلمات، ولا يُزيّنون ما يُفسد الجوهر. كأنهم مرايا تمشي، تعكس ما في الداخل دون تعديل، ولذلك… يحبهم الله، ويثق بهم الناس حتى في غيابهم.
الطفل الذي نظر إلى والده بعد خطأ ارتكبه، وقال بصوتٍ خافت: أنا الذي فعلت. تلك الجرأة على الاعتراف، هي أول بذرة في شجرة الصدق.
سمعت عن رجل يرفض شهادة زور، حتى ولو كان الثمن سُمعته أو راحته… لأنه لا يبيع ما بينه وبين الله، من أجل ما بينه وبين الخلق. الصدق ليس صفة، بل أسلوب حياة… لا يليق إلا بالنقِيّين.
اللهم… اجعلنا ممن إذا تكلّم صدق، وإذا وعد وفى، وإذا صمت، صمت بصفاء، وإذا عاش… عاش كما هو، لا كما يُتوقّع منه أن يكون.
وليس كل صدق ينجو من الألم، ففي دروب الحق، غالبًا ما تنتظرنا رياح لا ترحم، وهنا تبدأ قصة أخرى، قصة صبرٍ ليس مجرد احتمال، بل فنُّ النهوض بعد كل سقطة.
5. الصّابرين والصّابرات:
الصبر ليس انتظارًا خامدًا، بل حياةٌ تنمو في الظل، دون أن يراها أحد.
الصّابرين والصّابرات لا يُكثرون من الشكوى، ليس لأنهم لا يشعرون، بل لأنهم اختاروا ألا يُثقلوا قلوبهم بما لا يُغيّره القول. وجوههم قد تبدو عادية، لكن في أعماقهم مواسم كاملة من المطر المؤجل، وخرائط لحكايات لم تُحكَ، ودموع لم تجد طريقها للخروج. هؤلاء الذين إذا اشتدّ البلاء، لم يُصِرّوا على معرفة الحكمة فورًا، بل تَكفّل إيمانهم بإضاءة الطريق في الوقت المناسب.
في كل مرة يبتسمون فيها رغم الانكسار، يشهد الكون على معجزة صغيرة، لا تُدوَّن في التاريخ، لكنها تُكتَب في صحائف النور. الصّابرين والصّابرات لا يصرخون، بل يُسلّمون. لا يتعجلون الفرج، بل يُربّون الرجاء في دواخلهم كما تُربّى الأشجار في الصقيع، صامتة… ثابتة… موقنة أن الربيع سيأتي.
إنهم لا ينكسرون لأنهم لا يُقاومون، بل يتمايلون كأغصان الصفصاف مع العاصفة، ثم يقفون من جديد، وكأن شيئًا لم يكن. هم الذين لا تُلهيهم الزوابع عن وجهتهم، ولا تُخيفهم العتمات، لأنهم حفظوا أسماء الله في قلوبهم، ورددوها حتى صارت النور الذي يهتدون به.
هؤلاء هم الصابرون… الذين يجعلون من المحنة صلاة، ومن الألم سبيلًا نحو معنى أعمق.
ومن رحم هذا الصبر، تنشأ حالة من السكينة لا تُقاس بالراحة الظاهرة، بل بخشوعٍ يسكن الروح، خشوعٌ لا يُرى بالعين، لكنه يضيء ملامح من عرف الله حق المعرفة.
6. الخاشعين والخاشعات:
الخشوع ليس بكاءً فقط، ولا ارتجاف صوت. الخشوع أن تسكن جوارحك حين تضطرب الدنيا، أن ترى في الصلاة لقاء، لا أداء. أن تمشي إلى السجادة كما تمشي العاشقة إلى من تحب. أن تنسى ما خلفك وما أمامك حين تقف بين يدي الله، لأنك وجدت في وقوفك هذا المعنى الذي أضاعه الناس في سباق الحياة.
الخشوع لا يحدث فقط في المساجد. يحدث حين تمسك يدًا ترتجف فتسكنها بلطفك. حين تُنصت لكلمة حقٍّ تُقال وأنت قادرٌ على ردّها بسيفك، فتكتم غضبك لأنك تراه. حين تردّ الإساءة بصمتٍ لا عن ضعف، بل عن توقيرٍ لربٍّ يراك. يحدث حين لا ترى نفسك مركز الكون، بل عبدًا بسيطًا في حضرة ملك الملوك.
حدّثني أحدهم عن الخشوع، فقال: هو لحظة لا يشهدها أحد سواك، ولا يراها أحد إلا الله. رأيت الخشوع لا في عيون الناس، بل في ارتجاف الكتف عند السجود، وفي رجفة النفس وهي تتهجّى أسماء الله خفيةً. رأيته في رجلٍ طوى الدنيا خلفه وهو يرفع يديه فجرًا، كأنّه لا يستقبل القبلة، بل يستقبل الله نفسه. لم يكن يهمس بدعاء، بل كان كأنّه يودع روحه في كل كلمة، لعلها تُرفع قبل أن يسقط الفجر عن جبينه.
الخشوع أن تحب الله حبًّا عظيمًا، حتى يصبح الخضوع له راحة، والانكسار بين يديه قوّة، والتسليم له طمأنينة لا تُشبه شيئًا.
أولئك هم الخاشعون والخاشعات… الذين صلّت قلوبهم قبل أن تتحرّك ألسنتهم، وسجدت أرواحهم قبل أن تلمس جباههم الأرض.
وحين تخشع الروح وتدرك ضعفها أمام عظمة الخالق، يتلاشى الكبر، وتتفتح أيادي العطاء، فليس العطاء إلا فيضًا من هذا الخشوع، ومواساةً تتجسد في صدقةٍ تُروي القلوب.
7. المتصدقين والمتصدقات:
ثمة أيدٍ لا تُعطي من فائض ما تملك، بل من امتلاء ما تشعر. كأنهم لا يُخرجون مالًا، بل يُخرجون من أنفسهم شيئًا خفيفًا، لكنّه عند الله عظيم.
المتصدّقون لا يتباهون بما يقدّمون، لأنهم لا يرون ما يُعطى… بل ما يُغرس. كأنهم يزرعون في قلب الآخر زهرة، وفي قلوبهم يقينٌ بأن الزهرة ستنمو في الجنّة. العطاء عندهم ليس حسابًا يُخصم، بل نورٌ يُضاف. يعرفون أن يدًا امتدت بالخير، لن تعود فارغة أبدًا.
يعطون وقتهم، وإن ضاق. ويمنحون الكلمة الطيّبة، وإن خذلتهم الكلمات. يتصدّقون بالبسمة، بالسؤال، بالستر، بالدعاء، ويؤمنون أن الرحمة ليست عملة… بل لغة.
رأيت أحدهم يقف في زاوية الطريق، يمدّ يده لا بالمال، بل بغطاءٍ لطفلٍ نائم على الرصيف، ثمّ مضى… دون أن ينظر خلفه، وكأنّه يقول لله: خذها مني… وأكمل بها لطفك. هؤلاء هم المتصدّقون والمتصدّقات، لا ينتظرون شكرًا، ولا يطلبون أثرًا، لأنهم علموا أن الأثر عند الله لا يضيع، وأن كل ما أُعطي، عاد إليهم مضاعفًا… لكن من حيث لا يشعرون.
اللهم… اجعلنا ممن يفتحون الأبواب للناس، ولو بكلمة، وممن يغسلون الحزن عن القلوب، ولو بدمعة.
فإذا ما امتلأ القلب بالعطاء، أدرك أن السمو لا يكمن في الامتلاك، بل في التحرر، هنا تبدأ رحلة أخرى نحو التطهير، رحلة صيامٍ ليس فقط جوعًا، بل انسحابًا نحو عمق الذات.
8. الصّائمين والصّائمات:
الصيام، بوابةً إلى السماء لا تُفتح بالأيدي، بل تُفتح بالصبر. ليس هو جوعًا عابرًا، ولا عطشًا يُروى عند المغرب، بل هو تمرينٌ روحيّ على أن تكون خفيفًا، متحررًا من ثقل الرغبات، حاضرًا في لحظتك دون أن تُمسك بها.
الصائم الحقّ لا يكتفي بإغلاق فمه، بل يفتح قلبه، يُنظفه من الضغائن، ويُطهّره من الأنا المتضخّمة. عيناه تصومان عن فضول لا ضرورة له، ويداه عن لمسٍ لا يرضي الله، ولسانه عن لَغوٍ لا يُثمر. وكلما اشتدّ به العطش، شعر بنداءٍ خفيّ يصعد من روحه لا من جسده: "اقترب".
يُشبه الصوم رحلةً في صحراء النفس، حيث لا ظلّ إلا ظلّ الله، ولا زاد إلا اليقين، ولا صوت إلا همسات الضمير إذا صفا. والماء ليس ماءً فقط، بل وعدٌ بالرحمة، والتمرة ليست ثمرة فحسب، بل شهادةٌ على أن الله لا يُضيّع من انتظر.
في الصيام، تتعرّى النفس من عاداتها. تُفتَّش عن معنىً أعمق من الشبع، وتُعيد اكتشاف النعم الصغيرة التي اعتادت ألا تراها. إنّه شهر يربّيك لا ليكبحك، بل ليطلقك، ليعلّمك كيف تكون سيدًا على شهوتك، لا عبدًا لها.
ولذا، فإن الصائمين والصائمات لا يُعرفون بوجوههم الشاحبة، بل بنورٍ خافتٍ يسكن سلوكهم. تراهم أكثر سكونًا، أقل ضجيجًا، كأنهم يُصغون إلى شيءٍ لا يُسمع، وكأن أرواحهم تُرتّل تسابيح خفيّة كلما مرّ وقتٌ دون طعام.
إنه تدريب على التخلّي، على التصالح مع الفقر الإنسانيّ أمام غنى الله، على أن تشعر بالمحروم لا بعين المتفرج، بل بحرقة المجرّب.
والصوم، حين يُؤخذ كعبادة لا كعادة، يصير بوابةً للترقي، حيث تمشي النفس بثيابٍ من خفة، وتدخل على الله بقلبٍ أنظف، وأملٍ أوسع، ورضا أعمق.
وفي خلوة الصيام، حيث تتعرى النفس من رغباتها، تتجلى قيمة الطهر الحقيقي، عفةٌ ليست كبتًا، بل اختيارًا، حصانةٌ تُبنى من نور الإيمان.
9. الحافظين فروجهم والحافظات:
العفة ليست جدارًا نُبنى خلفه، بل نورًا نُضاء به من الداخل. هي ليست تجاهلًا للجسد، بل خطاب احترام نهمس به لأنفسنا كل صباح: أنت أمانة، وسأصونك.
في زمن يُباع فيه كل شيء، تصبح العفة عملة نادرة، لكنها أثمن ما نملك. ليست ضعفًا أمام الرغبة، بل شجاعة في مواجهتها، وترويضها، وتذكيرها بأن ما لا يُمسّ لا يعني ما لا يُراد، بل ما يُؤجّل حتى يحين وقته ويحلّ حلاله.
العفة لا تعني تجاهل النداء البشري في دواخلنا، بل تعني أن نُصغي له دون أن نُطيعه، أن نحتضنه دون أن نتهاوى معه. إنها قُدرة الروح على أن تقول: أعرف الشهوة، وأعرف جمالها، لكني اخترت نقاءً لا ينهار بعد لحظة، وفرحًا لا يتبخر مع أول نسمة ندم.
في هذا الصمت الطاهر، ثمة انتصار لا تراه العيون. انتصار على الانجراف، على التفريط، على خيانة النفس قبل خيانة الآخرين.
العفة أن تمشي في طريق مزدحم بالنداءات، وتسمعها، لكنها لا تُغريك. أن تتأمل الجمال دون أن تقتحم حرمته. أن تتذكر دومًا أنك مسؤول عن نفسك، وأن نفسك ليست مِلكك وحدك، بل أمانة مودعة عندك.
فمن صان أمانته، لم يخذل ذاته، ومن عرف حدوده، عرف حريته، ومن حافظ على طُهره، حافظ على معناه. فإذا ما صُنت الروح وحفظت حدودها، أصبحت كل لحظة فرصة لذكر الله، ذكرٌ لا ينقطع، كأن الأنفاس كلها أصبحت ترتيلاً، والقلب مسجدًا لا ينام.
10. الذّاكرين الله كثيرًا والذّاكرات:
إنه الذكر... ذاك النبض الصامت الذي لا يُرى لكنه يُحيي. ليس همسًا يتردد على الشفاه فحسب، بل حضورٌ متوهّج في عمق القلب، وارتباطٌ سرمدي لا ينقطع.
الذِّكر ليس تكرارًا، بل امتدادًا، هو أن يسكن اسم الله في داخلك حتى وأنت صامت، أن تمشي في الطرقات وقلبك يُسبّح، أن تُصافح الناس ونفسك تُردّد: الله… الله، هو أن يتوضأ لسانك بالحمد، ويتطهّر قلبك من شوائب الدنيا بكلمة: سبحانك.
في زمنٍ يعلو فيه صخب العالم، يصبح الذكر حصنًا منيعًا من التيه، صوتًا خافتًا يذكّرك بأنك لست وحدك، وأن فوق كل قلقٍ، يدًا إلهية تُمسك بخوفك، وتنفخ في روحك سكينة.
الذكر لا يقتصر على المسبحة، بل يمتد إلى تفاصيلك الصغيرة، حين تفتح عينيك وتقول: الحمد لله، حين تبتسم برضا لأن الله معك، حين تتجاوز الألم لأنك قلت: لا حول ولا قوة إلا بالله، حين تصمت عن الغضب لأنك تذكرت: إن الله مع الصابرين.
الذِّكر حياة أخرى داخل الحياة… هو أكسجين الأرواح حين يختنق الأمل، ونور يزهر في قلب العتمة، وسِترٌ لا يُرى لكنه يُشعرك بالأمان. إنه استحضارٌ دائمٌ لله في اليُسر والعُسر، في الصحة والمرض، في الضحك والبكاء، هو أن يُصبح الله محورَ وجودك، ونبضك، ومركز ثِقتك في هذا العالم المترنّح.
الذّاكرون والذّاكرات لا يضيعون… لأنهم وإن ضلّوا الطريق أحيانًا، إلا أن الذكر يجذبهم برفقٍ إلى الله، كأنهم يلبّون نداءه الذي لا يتوقّف: فاذكروني أذكركم.
وأخيرًا:
في رحلتنا بين هذه السطور، لم نكن نبحث عن كلمات، بل عن نبضٍ للروح. عن همساتٍ خفيةٍ تُشبه خطواتِ نورٍ على دروبِ الظلام. لقد كانت كل فضيلةٍ محطةً نتعلم فيها أن القرب من الله ليس مسافةً تُقطع، بل حضورٌ يُدرك. أن الإيمان ليس مجرد نطق، بل سكونٌ في القلبِ يُثمر تسليمًا ويقينًا.
لقد رأينا كيف أن الصوم لم يكن جوعًا عابرًا، بل بوابةً تُطلق الروح من قيود الجسد، وكيف أن الصدق لم يكن مجرد قولٍ، بل مرآةً تُظهر نقاء الباطن. كيف أصبح الصبرُ ليس فقط احتمالًا، بل فنًا للنهوض، وكيف غدا الخشوعُ ليس انحناءةَ جسدٍ، بل انكسارَ روحٍ بين يدي من تُحب.
في كل عطاءٍ كان هناك وعدٌ بالبركة، وفي كل عفةٍ كانت هناك حمايةٌ لجوهر الإنسان. وفي كل ذكرٍ، كان هناك حبلٌ موصولٌ لا ينقطع، ينير دروب التائهين، ويُسكن قلوب الوجلين. لم تكن هذه الصفات غاياتٍ بذاتها، بل جسورًا عبرنا عليها إلى أنفسنا الحقيقية، إلى ذلك المقام الذي لا يُرى بالعين، لكنه موعودٌ بكلمةٍ من الله.
ولأنهم سعوا بهذه الأرواح الشفافة، وتلك القلوب المطمئنة، وتلك الأنفس الخاشعة، وعدهم الله وعدًا حقًا. وعدًا يتجاوز حدود الدنيا، ويُعلي قيمتهم في ملكوته. إنه وعدٌ بـمغفرةٍ تُطهر ما قد علق بالأرواح من غبار الطريق، وتُزيل كل أثرٍ لخطأ أو زلل، فَيُصبحون كأن لم يُذنبوا قط. مغفرةٌ تُحوّل ظُلمات الماضي إلى نورٍ يسبقهم إلى الجنان.
وليس هذا فحسب، بل أجرٌ عظيمٌ لا تُحصيه الأرقام، ولا تُدركه العقول. أجرٌ يتجاوز كل حسابات البشر، نعيمٌ مقيمٌ لا يزول، ورضوانٌ أبديٌ لا يفنى. جناتٌ تجري من تحتها الأنهار، وخُلدٌ في نعيمٍ لا يُمَلّ، وصُحبةٌ لا تتبدل، ولقاءٌ بمن أحبوا واشتاقوا.
ذاك هو الجزاء الذي أعدّه الله لمن سَلّم وأمن وقنت وصبر وصدق وخشع وتصدق وصام وحفظ وذكر. فليس المهم كم أعطينا، بل كم نما إيماننا في الظلام.
اللهم اجعلنا ممن إذا أعطوا شكروا، وإذا صبروا احتسبوا، وإذا ذكروا الله... وجدوا.
جهاد غريب
يوليو 2025