أكتب إليكِ "قصيدة نثر"
(1) حديث الرحيل
يا سيدتي، ويا قسوة القدر،
في منفاي الاختياري،
حيث لا يتردد سوى صدى غيابكِ،
أسطر لكِ هذه الكلمات الموشومة بوجع الفراق.
لقد كان رحيلكِ فريضةً
أتقنتِ صياغتها ببراعة موجعة،
وكأنكِ نسجتِ من أضلعي قضبانًا لسجن وحدتي،
وانطلق بقلبي قطار المشرقين،
حاملًا معه شظايا ذكراكِ.
في وحدتي القاتلة،
تلفحني جمرات الفراق التي أضرمتِها في دروب لقائنا الخالد.
أذوب انكسارًا في لجّة خطاياكِ،
بينما تتراشقني قضبان سجنكِ المتقن،
دافعةً إياي نحو جدرانه الصماء.
تطردني الجدران، فأرتدُّ مثقلًا إلى القضبان،
أسيرًا لدائرة لا تنتهي من الشوق والاحتراق.
ترفعني سماء ذكراكِ علوًا،
ثم تهوي بي أرض الواقع سفلًا،
وكأنني هدفٌ مباح،
ينتظر من يجهز عليه بضربة قاضية من الحنين.
أتمزق بين جاذبيتين متنافرتين،
أتبخر كدمعٍ عجز عن السقوط،
أحترق بنيران الذكرى،
وأصير رمادًا تذروه رياح الفراق القاسية.
وأنتِ هناك، بعيدة كقدر محتوم لا سبيل لإنكاره.
وما أنا في هذا الفراغ الشاسع،
إلا ظلٌّ تائه، لا تملؤه إلا خطوات طيفكِ الغائب.
***
(2) حديث التوسل والشفاعة
(أ) حديث التوسل:
أنا طفلكِ
فقدكِ كأمّه
يصرخ
أين أنتِ
تعالِ
سمعه الحجر فانفلق
والبشر فخشع
والأمهات فانفطرن
فهل من رحمة
فأنتِ أفضل أمّ
عودي إذن.
أدعوك
بثوب
الخاشعين
والسائلين
والملائكة المقربين.
أستغيثكِ
بيد غارق في لجج الخضم.
أستجيركِ
ببكاء دموع كقطرات المطر
أستعطفكِ
ببكاء دماء تنفجر من عروقي غراما
أسترحمكِ
من موت بعد موت يلاحقني
أتوسل إليكِ
بكلمات السماء
أن تعودي.
(ب) حديث الشفاعة
في مدارات ذاتكِ الوضاءة، أبحرتُ بعيدًا،
أراكِ ترنو إلى عرش كبريائكِ المتوهج.
فأسوقُ إليكِ، لا خاضعًا بل متضرعًا،
جلالَ شمسٍ تستكين عند أهدابكِ،
وخشوعَ قمرٍ يرتل ثناءكِ في سكون الليالي،
ودرَرَ نجومٍ تتناثر إكليلًا فوق هامتكِ.
وحتى الثقب الأسود، سيد الفناء والجذب،
يرتجف وجدًا أمام سلطان جاذبيتكِ السرمدي.
وقطرات الغيث الندى، تحسد ارتشافات ثغركِ العذب.
بهم أتوسل، ومن ورائهم قلبي الخافق،
حبًا يزحف إليكِ، وجثوًا يرتجف بين يديكِ،
وخشوعًا يذوب عند قدميكِ المهيبتين،
ودمعًا ودماءً تسيل قربانًا على أعتاب رضاكِ.
***
(3) حديث التضحية والفداء
ارجعي
كم بسطتُ يديّ على الأشواك.
لتقلكِ من عثرات اندفاعكِ
فخطوتِ بهدوء كموجة البحر الطليقة
وانطلقتِ في حرية آمنة مطمئنة.
وأنا بين النزف الجسدي بالأشواك
والسعادة الروحية أيتها المائية
الطليقة
ولا تثريب عليكِ
فظهري وكتفيّ وراحتي يديّ طوع أمرك.
لتتقلدين القلادة الذهبية
وتعتلين عروش الملائكة
بصولتي
وصولجاني
أتذكرين يوم أن تقمصت روحي، وخرجت من جسدي؟
تقمصت دور فراشة رشيقة
حطّت على أزاهيرك الزابلة
فكان رحيقكِ في أنفي أجمل عطر.
وكانت كالأزهار تتراقص مع الرياح نشوانة
وأسقيتكِ من أعذب الكلمات
تنساب ماء عذبا تسقي أخرّتك الوليدة
وأحييتكِ من موت من بعد موت
فسرت دماء الحياة في عروقكِ روحا
ألبستكِ أجنحة
تجنح بين أجنحة الملائكة
مرة من بعد مرة
ألا يحقّ لي أن تَعودي
كمطر في أفواه الظامئين.
(4) حديث الغفران
قولي عائدة.
لا لوم ولا حساب
ولا صغار ولا خطايا
بل ملكةٌ تعتلي عرش الغفران.
أرسل إليكِ كفّي راحتي
ترفعكِ
من عناء أشواك خطاياكِ
في كل درب، سجن بقضبان من نار
كسرّت قيودهم
أطفأت نيرانهم
هدمت جدرانهم
فرشتهم بأزاهير العفو
فعبق بعطر من الأرض للسماء
وكتبت قصيدة الغفران
بأحبار من أنهار قلبي.
ولحنتها
بمزامير داوود.
وغنيتها
بأحبال البلابل
***
(5) حديث الوهم والذكريات
ليكن ترياق الرحيل ذكراكِ وأطلالكِ
أنتِ الداء في رحيلكِ
والدواء في الترياق
أقبل على ذكراكِ كفراشة مأخوذة باللهيب.
تعشق احتراقها وهي تعلم
أرسمك في مقلتي، كراسم العطشان سراب الماء.
وأربعك في فؤادي وردة خالدة
لا تذبل رغم فصول الجفاء.
أترنح بين حدود الوهم والحقيقة
وأدفع عذاب الغياب بنشوة الذكريات
ألوذ بصورتك فتسكرني ملامحها.
وتتخدر جوارحي على صيحات الشوق.
وتفيق على قسوة الحقيقة.
كمن يستفيق من حلمٍ عذب إلى واقعٍ قاس.
أمضي، وأعلم أن الفراق منكِ إليكِ
قدرٌ لا مهرب منه.
والحب في صدري صلاة دائمة لا تعرف فتورا
كما تتدفق الأمواج نحو الشاطئ،
أعود إليكِ مهما ابتعدتِ،
فأنتِ الملاذ والملجأ،
والطريق الذي لا ينتهي.
بقلمي: إبراهيم أمين مؤمن