المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ذلك الرجل


محمد الكحلاني
08-20-2011, 02:27 AM
ذلك الرجل
- أجبني ، لماذا رحلت !؟

http://a3.sphotos.ak.fbcdn.net/hphotos-ak-ash4/297542_274705772543302_100000116443511_1294637_443 1164_n.jpg


ذات صباح ، خرج من المنزل في عجلة من أمره ، يلقي بأي شيء يعترض طريقه ، حدثٌ طارئ ؟ . . ربما ، أنفاس تتسارع ونبض يعلو، هكذا هي أنفاسنا عندما نهرع ، توترها الشرايين والنبضات ، فتعيش قلقاً يشابه قلق الأم وخوفها على فلذة كبدها ، في يده اليمنى ملفٌ أخضر اللون لا يفارقه ، يحوي العديد من الأوراق الهامة ، وفي يساره مفاتيح عتيقة ، تلك التي اعتادت أن تصدر أنغاماً تُجاري نشيد شاعر مفعم بالغناء، ينشد في كل يوم قصيدة لا تتكرر.


في حركته العجلة جاذبية تلفت انتباه نظرات التأمل ، ولكنها لم تعد تثير جيرانه ، لقد اعتادوا على صخب إيقاع أيامه ، باب غرفته ، ونافذته ، ومكتبته ، جميعها تكيفت مع نمط حياته كما تكيفت كل الجمادات من حوله ، يقترب من النافذة فترتعش إيذانا بانفتاحها ليومه ، يغلقها فتتشبث بأطراف المكان ، لباب حجرته صرير تحفظه الجدران ، ولمكتبته مزيج من عبق الأوراق والكتب ومشاعر مدفونة في كل صفحة ، وبصمات من الود في كل تذكار نقشه على مقدمة كتاب ، الذكرى لمكتبته كالفوضى المنظمة التي يعشقها ، لكل كتاب رائحة ، ولكل صفحة إحساس يميزه انعكاس ضوئها في عينيه.


- أنا في طريقي إليك.
خطوة مترددة . . تتبعها خطوة ، يومه هذا مختلف ، هناك ما ينقصه ، تفحص ثيابه وملفه ،" لا ينقصني شيء " ، تقدم بحذر وروحه متوقفة عند باب منزله ، فزعة ، ينقصها إحساس قديم ، تحدق بخطواته المرتبكة ، تتفحص المكان وألوان الجدران ، صوت الباب ، رائحة الطريق ، مختلفة هي دنياه ، اقترب من سيارته التي أوقفها على الضفة الأخرى من الطريق ، وضع الملف على سطحها والتفت ، تأمل باب منزله وظل يفكر: " ما هذا الشعور الغريب!؟ " ، اعتلى بطرفه إلى نافذة حجرته ، رأى مكتبته وهي تحدق باتجاهه ، سمع ندائها أسطراً تتابعت في عينيه فتبسم: " أعشق غوايتك " ، اخفض رأسه ونظر إلى كفه الأيسر ، يده فارغة ، لقد نسي المفاتيح في الداخل ، هم بالعودة وملامح الكآبة تحاصر صباحه المختلف ، " يا إلهي! نسيت أن أوقظ أمي لصلاة الفجر! " ، غص بعبرة لم يعش مثلها منذ الصغر ، ارجع بصره إلى نافذة السيارة وإذا بدمعة عتاب ذاته والندم تسقط بحرارة على وجنته ، لم يشعر بها ، فالحزن ينمو بين أضلعه ويحرق كل بهاء بداخلها ، التفت وبدأت خطاه الآسية تدفعه باتجاه المنزل.


- لاااا !!
سمعها بخوف وفزع ، من قالها !؟ ، أتت في لحظة ، ومن كل الاتجاهات ، لا يقدر على تمييز مصدرها ، ومع سقوط دمعته الثانية على طريق منزله المعبد بالسواد ، سقط كتاب عتيق من على رف مكتبته التي تنظر إليه من نافذة حجرته المصدومة ، تطايرت أوراقه في السماء ، وارتفع صوت مكابح سيارة طائشة دهست كل ما كان طاهراً ، أردته صريعاً على ذات الطريق الذي اعتاد على ابتساماته وخطواته الآسرة ، أردته معطراً بدمائه ، أخذته وقد لف الحزن أشجار الطريق التي حاولت أن تحتضن بأغصانها أوراقه البيضاء المتطايرة ، لعلها تتنفس رائحة الحياة التي يبثها في كل مكان هو فيه . . ولو للمرة الأخيرة !


- هل أنت على ما يرام؟
- يا الله ! يا الله ! يا . . .
توقف الوقت ، وسلم الجسد آخر نبضه إلى القدر ، ظل قائد السيارة التي دهسته يحرك الجسد في محاولة لإعادته إلى الحياة، "أنا آسف . . أنا آسف . . . أرجوك" ، أخذ يكررها والرعب يسيطر على عينيه كلما نظر إلى الجثمان ، تلفت إلى المكان من حوله ، أحس بآهات حزينة تصدرها الرياح ونظرات حزن غاضبة تلعنه في كل شيء! قام مسرعاً باتجاه المنزل ، رفع يده إلى الجرس ، فإذا بها ترتجف كرجفة قلبه ، اقتربت يده أكثر ، فشهق شهقة أعادت رائحة الموت في تفاصيل الحادث إلى حواسه ، وكأنه يعيشه مرة أخرى ، يحاول تغيير الحال ، فلا يقدر ، ألتفت والحزن يمزق فؤاده ، اتجه إلى سيارته .. ورحل!


صباح الرحيل الموجع ، غيّر الزمان والمنزل والجيران ، كست الأحزان حجرته المليئة بالغياب ، وفي كل زاوية تنوح الجدران ، سكن الباب ، وتلاشت رائحة الأوراق من مكتبته التي تبدل تأملها للطريق من على النافذة إلى جرح يتكرر كل صباح ، جمدت الحياة في حجرته إلا من قلب ينزف وحيداً ، اتخذها مسكنه منذ فجيعته ، يتأمل فراشه ، ويحتضن ثيابه:

- " حبيبي . . لقد استيقظت وصليت فرضي قبل أن تغادر المنزل . . وتتركني وحدي ، بني . . خرجت بروحي فخذني إليها . . أخذت قلبي ومزقته فلا تعيده ، لا أريد البقاء هنا وإن عدت إلي . . أجبني ، لماذا رحلت !؟ إذاً لنرحل معاً يا بني . . لن يتلاشى هذا الحزن وإن احتضنتك تسعة أشهر أخرى . . لنرحل معاً"


محمد الكحلاني

حياه
08-28-2011, 04:59 AM
..


قصة مؤثرة يا الكحلاني محمد
بدأت بسرد أدق التفاصيل التي جعلتني أبحث عن قلقه و عن ارتباكته الصباحية
التي يتبعها ظل موت .
جميلة النهاية بصوت بكاء الأم

سعيدة بالقراءة
شكرا لك .

محمد الكحلاني
09-03-2011, 12:57 PM
حياه

شكراً لطيفكِ الذي أنار المكان
كل عام وأنتِ بخير

:34: