المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حديث الغمام


عبدالله الدوسري
08-11-2007, 06:53 AM
لا أسمع صوتا ً ،، لا أحس بمس الأرض ،، وثمة شعور عجيب بانعدام الوزن والغوص في سحابة معتمة مقتحمة ،،


أنادي ولا يند عني صوت ،،


إني موجود وغير موجود ،،


ترق السحابة وتمضي في التلاشي ،،


عند ذاك تتضح ظلمة الليل المشبعة بإشعاعات النجوم ،،


عاد وجه الأرض إلى صورته المألوفة وغاب الوجود وكأنه لم يكن



فأكتب ،، ولكن بمجموعة من قصص قصيرة ،،


أرجو أن تنال رضاكم



*


*

عبدالله الدوسري
08-11-2007, 06:56 AM
( 1 )



* احتضار *



إن يد اليأس تطرق بابه وسيجد له مكانا ً في نشرة الراحلين ،،


سينقضي الحلم مثل هذه السحابة المسرعة ،،


وسيغادر الحياة كزفرة !!





* * *



عادت زوجته من عملها ،،


وقالت وهي تلقي بعباءتها وتجلس على الكنبة : نظرات جارنا الجديد كانت تلهب وجهي كالسياط ،،



أخذ ينظر إليها نظرة غريبة ،،


نظرة تذوب حنانا ً ورقه ،،


نظرة تقبل وتعانق وتسفح الدمع ،،



قالت له : لا تبدو على ما يرام ،، ما بك ؟!


فقال : لا شئ ،، مجرد إرهاق ،،


قالت : أنت تحمل نفسك فوق طاقتها ،، حسنا أن عدت مبكرا اليوم لترتاح



أشعل سيجارة وأخذ يدخنها متطلعا ً إلى سحائب دخانها ساهما ً وكأنه قد نسيها ،،



قامت بترتيب المنزل ثم عادت بالشاي ووضعته أمامه ،، وأخذت في حديث لا ينقطع إلا خلال رشفات الشاي ،، عن قرب الامتحانات النهائية وعدم استعداد الكثير من طالباتها ،، والضيق بحرارة الجو ،، وصديقة لها ستتزوج قريبا ً وأخرى حامل ،،



ثم انتبهت لشروده فقالت : أين ذهبت ؟! ،، كأني كنت أكلم نفسي ،،


نظر إليها طويلا ً محاولا ً التركيز فيما قالته



فأردفت : ولم تشرب من الشاي ،، ما بك يا عزيزي ؟! ،،



قال : لعلها متاعب العمل ،،



هكذا الأسئله والأجوبة كل مره منذ ثلاثة أيام ،، ويبقى لها العذاب الصامت الذي يجد عبثا ً في البحث عن مبرر لوجوده



* * *



لمحته وهو يهم بالكلام بحال تدل على أنه استسلم للاعتراف ،،


استصرخته في الأعماق أن يفعل ،،


دعت ربها أن يأمره بالكلام ،،



لكنه استرخى دفعة واحدة بسرعة تثير الحنق ،،


وراح يدخن ويقرأ ،، وهذا ما أثارها أشد من صمته ،،


نظرت إلى الكتب المتناثرة على الطاولة ،، على حافة العالم ،، الحاسة السادسة ،، عالم الأرواح ،،



سيجن ويجرها في أثره !! ،،



قالت : ما تقرأه مؤخرا ً يخيفني ،،


ابتسم لها ابتسامة باهته ،،



فقالت : كذلك هي حالك ،، بت تتكلم بإيجاز وزير ،، ومنذ فترة لم تخرج كعادتك ،، أنا قلقة عليك ،،


قال : سوف تضحكين من نفسك عندما تتأكدين من ضلال أوهامك ،،


قالت : قلبي لا يكذبني قط ،،



ما أصدق قلبها ،،


إنها تنطق عن قلب صادق وا أسفاه ،،


قلب ملؤه خوف حقيقي ،،


قلب يكابد نزاعات أحزانه ووحدته ،،



وهو يتعذب أيضا ً عذابا ً مضاعفا ً لنفسه ولها ،،


وقلبه ينصهر ويتطاير شررا ً وسيتلاشى في الفراغ ،،


لعل الأرحم لو تذهب إلى أهلها اليوم حتى نهاية العطلة الأسبوعية ،،



ولكنه لن يطيق ذلك ،،


فحنينه القاسي وأشواقه الملتهبة ويأسه العميق يمنعه من التهرب منها وتشدّه إلى مثواها الحنون ،،



تمنى أن يقبلها حتى يكلّ فوه ،، ويضمها إلى صدره حتى يخذله ساعداه ،،


أن يغرقها بدموعه وأن يستحم بدموعها ،،


كان بوده أن يمثل دوره بمهارة يخدع بها حبيبته حتى لا ترهقه بأسئلتها الملحة ،،


ولكن كان ذلك فوق طاقته ،،



يقرأ ويدخن ويختلس إليها النظر ،،


يتحمل نظراتها المعذبة بصبر حابسا ً دمعه شادّا ً على إرادته ،،


ويصر على ذلك وهو يشعر بأن كل شئ يخصه هباء ،،


الحياة هباء ،،


الحب هباء ،،


ويرى كل معنى يتلاشى في النسيان والضياع ،،



وهو في الحقيقة لا شئ يبكي لا شيئا َ ،،


البكاء نفسه لا حقيقي كالقراءة ،،


كهذه الأنغام التي تنعي الحياة كلها ،،



لم َ لا يجذبها إليه ويفضي إليها بكل سره ؟! ،،


ولكن أي فائدة ترجى من ذلك إلا أن تزيد من تعقيد الأمور واختلاطها وقسوتها ووحشتها ،،


لم َ يحول سلامها إلى مأتم والغناء إلى حداد ،،


لن يؤخر ذلك ولن يقدم ،،



أجل إن وحدته تزداد عمقا ً ويأسا ً ،،


لكنه لم يذعن للجبن والأنانية ،،



فعلى الأقل هي لم تفقد الأمل ،، تبدو جديرة بالحياة ،، تحياها ببساطه ،، لا تعرف الموت ولا اليأس ويبدو كل شئ لعينيها خالدا ً سعيدا ً خاضعا ً



تزوجته رغم فارق السن الواضح بينهما ،، تحبه كل ليلة أكثر من سابقتها ،، تنام قريرة العين وتتركه يطوي جفونه على أحزانه التي تجلها ،،



لكنه في الحقيقة منذ أيام لا يغمض له وعي ،،


يظل محملقا ً في الظلام وخلايا رأسه تحترق بالأفكار المحمومة ،،


وهيهات أن تدري شيئا ً عن أحاديث الظلام ،،


عن رعب الظلام ،،



يطمس معالم كل شئ إلا الموت وحده يرى بلا ضوء ،،


وهو كالظلام لا شئ يؤخره عن ميعاده ،،


وإذا جال بالخاطر فقد كل شئ معناه وقيمته



يتساءل ما العمل ؟! ،،


ماذا يطلب من الحياة في الأيام الباقية ؟! ،،



ويجيئ الجواب : كل شئ ،، لا شئ !! ،،



يستوي كل شئ ولا شئ ،


ولكن النفس تأبى التسليم وتخشى الفراغ فتتعلق بالأحلام


لذلك لم تتبدد الأحلام ولكن بقي السهاد


ولم يجد مفرا ً من قراءة القرآن تعبدا ً وتقربا ً ،،


ومطالعة كتب الأرواح سعيا ً وراء طمأنينة ولو تكن وهميه ،،


وسلام ولو على غير أساس ،،



ليس لشئ كثافة الموت وثقله ،،


وهو يكاد يراه ويلمسه ،،


وفظاعة الحقائق حملته على دفن السر في أعماقه ،،


على الانفراد به وحده وعلى كتمانه عن الإنسان الوحيد في دنياه


يا لها من تعيسة الحظ ،، فلتبق في قلق وهو على أي حال أهون من اليأس ،،


ولتمرح بما لديها في جو خال من الحقيقة الرهيبة



* * * *



طال بهما السكوت ،،


وفرغت فناجين القهوة التي أمامها ،،


هو لم يطلب لقاء صديقه إلا لأمر هام ،،


فقطع الصديق حبل الصمت قائلا ً : ما الأمر ؟! ،،


فقال : أردت أن انفرد بك بعيدا ً عن كل شئ ،،


عاد يتفحصه مليا ً فرآه جاد على غير عادته ،،


ثم قال بقلق : أنت لست على ما يرام ،،


فصمت ،،



عاد يقول بجزع : أخبرني عما بك ،،


رفع إلي عينيه الذابلتين وقال : أنا في مسيس الحاجة إليك ،،


سأعترف لك بكل شئ ،،


الحق أني سأموت في خلال أشهر قلائل ،،



فغمغم : ماذا قلت ؟! ،، هل عدت إلى وساوسك ،،


قال بهدوء نسبي بعد أن أزاح الاعتراف عن صدره هما ً ثقيلا ً :


الأمر أجل من معاناة فكر ،، ذهبت إلى عدد وفير من الأطباء وقد أجمعوا على خطورة الحال ،،


قال صديقه : لا أحد يمكن أن يكون على يقين من ذلك إلا الله ،،


فقال بفتور : طبعا ً ،، إنه فوق كل شئ ،، ولكن حالتي تزداد سوءا ً ،،


قال : كلام مجانين ،، فألف حكاية تثبت أن كلام الأطباء ما هو إلا هراء ،،


فقال متنهدا ً : ولكن السرطان ليس هراء



صمت صديقه قليلا ثم قال : المؤمن لا يقطع رجاؤه بالله ،،


قال : وهذا ما أردت لقاءك له ،، اسمع قال لي الطبيب بأن هناك أملا ً ضئيل لحالتي في إجراء عملية جراحية ولكنها خطيرة لذلك سأسافر غدا ً إلى الخارج ،، يمكن القيام بها هنا ولكني فكرت كثيرا وقررت أن أسافر ،،


قال : ومتى تعود ؟! ،،


قال : لا أدري ،،


قال : وأسرتك ؟! ،،


قال : هذه أوراق وتقارير مرضي بعد أسبوع من الآن خذها إلى زوجتي ،،



* * *


افترقوا على ذلك ،، صاحبه يعلم بأنه عنيد ولا يتخذ خطوة إلا بعد حوار طويل مع نفسه ،، فاستسلم ودعا له كثيرا ،،



أما هو فالهم الذي خف عنه ترك مساحة كبيرة في صدره ،، أخذ يحملق نحو الفراغ وهو يجلس في سيارته وقت ليس بالقليل ،، وأخيرا استعان برب العباد واتجه إلى خارج مواقف المقهى ،،


اعترضت طريقه سيارات عديدة وجمع من الناس محتشد وآخرون يهرولون من هنا ومن هناك ،، انتظر قليلا إلى أن رأى رجل قادما من وسط الزحام وهو يتمتم " لا حول ولا قوة إلا بالله " ،،


فأوقفه وسأله : ما لذي هناك ؟! ،،


فقال : أحدهم كان يهم بقطع الشارع غارقا في التفكير أو الذهول ،، لأن السائق الذي صدمه يقول أنه ظهر أمامه فجأة ،،


قال : وماذا حدث له ؟! ،،


فقال : مات ،، وتناثرت الأوراق التي كانت معه في أرجاء المكان



* * *

عبدالله الدوسري
08-11-2007, 07:01 AM
( 2 )



* زيارة *




وقف يودع آخر صديق كان في السهرة ،،


أنهى ترتيب البيت وأجلى عينيه في أرجاءه فأطبقت عليه الكآبة ،،


تضاعفت كراهيته وتمنى لوحدته النار ،،


وباتت الرغبة في التغيير قوة قاهرة لا تقاوم ،،



* * * * *



لقد فترت متعته في بيوت أخوته ولا تختلف عنها لقاءات الأصدقاء ،،


ذاك جميع جمله تبدأ بعبارة " أم العيال قالت " !! ،،


وذاك سعيد بنجاح ابنه ،،


وذاك اللعين يعلق على انتشار الشيب في رأسه ،،



* * * * * *



الزيارة هي الأمل الباقي الوحيد ،،


تأجيلها أصبح غير محتمل ،،


الصبر نفد ،، والشوق تأجج واشتعل ،، والعزيمة صممت ،،


أقنع نفسه بأنه لا يجوز أن يتلعثم كصبي أو يخجل كمراهق ،،



* *



وفي مساء اليوم التالي ارتدى ملابسه وغادر المنزل بعدما تعطر بشذا الأمل ،،


خمس سنوات انقضت على آخر زيارة كان فيها هناك !! ،،


ولكن واجب العزاء لا يسمى زيارة ،،


لذلك تكون آخر زيارة قبل عشرين سنة انقضت في عذاب الحرمان ،،


بعد تلك العصماء التي بدأها الأب بإتمام الدراسة وأنهاها بتفضيله لابن العم ،،



* * * * * *



طرق الباب وبعد برهة جاءه صوت لم ينساه يوما ً يقول : من ؟! ،،

فقال بارتباك : أنا ،،




أطل نصف وجهها من فرجة الباب وقالت : أنت !! ،، مرحبا ً بك ،، تفضل في المجلس ،،



* *



ذهبت إلى الداخل ،،


بقيت صورتها التي أتمها بخياله ،،


وجه ما زال يقطر بماء الشباب ،،


انهالت عليه الأحلام كالشلال ،،


أقام قلبه واستقر في وادي الراحة السعيد ،،



* *



عادت في جلال الاحتشام وهي تحمل كأس عصير ،، فتناثر الحديث ،،



كيف حالك ؟! ،،


وأنت ؟! ،،


كم تغيرت لم أعرفك في البداية ،،


هموم الدنيا ،،


كيف وأنت لم تتزوج ولم تحمل متاعب مسئولياته ؟! ،،


غربتي أثناء الدراسة ثم عملي الشاق واهتمامي بأخوتي قبل تزويجهم وفجأة وجدت القطار فاتني ،،


ما تزال في عز شبابك ،،



واستقرت عيناه على صورة في الحائط وقال : جميعنا فقدناه ،،


فقالت : لك طول العمر



وأمسكوا عن الحديث ،،


ربما ليستردوا الأنفاس ،،


أفرغ بقية العصير في جوفه وغرق في العرق ،،



* *



فارق كبير بين الحقيقة والخيال ،،


تصور أنه سيوجه الحوار إلى الهدف دون صعوبة ،،


وأنه سيثب إلى جانبها مثقلا ً بأشواق العمر ،،


وأنه ،، وأنه ،، وأنه ،،


وهذا مناخ لجلسة تنضح بالجدية والأدب ،،


والمرأة مصونة لا تسمح بقدح شرارة عبث ،،


وهذه الصورة المطلة عليهما تشاركهما الاجتماع وتصد عنه النزق بل وتغرقه في الحزن ،،



* *



ترى فيم تفكر ؟! ،،


ألم ترد على خاطرها ولو صورة فاتنة واحدة من الماضي الجميل ؟! ،،


هل تهيمن على خواطرها كما تهيمن على سلوكها ؟! ،،


ود لو تطالعه العينان بلمحة تذكر ،،


أو مداعبة ،،


أو حياء عابر ،،


أو ظل ابتسامة تتعدد التفسيرات لها ،،


لكنه لا يرى إلا نظرة رزينة ،،


نظرة قريبة لقريب تلاقيا في خريف العمر ،،


هل انتهت وجفت ينابيعها ؟! ،،



وقال في نفسه : على أي حال لن أغادر بجعبة خاوية إلا من الفشل ،،


ولن أسمح للتردد يحملني الندم إلى ما تبقى من العمر ،،


فيكفي ما حملته من قسوة أبيها ،،



* *



قذف إلى الماء متسائلا ً : هل تضايقك زيارتي ؟! ،،


فقالت بهدوء : أهلا ً بك فهذا بيت خالتك على أي حال ،،


ثم مع تردد واضح قالت : ولكن ،،


أدرك ما تضمر فقال : صدقيني لم أكن أعلم بعدم وجودها عندما أتيت


لاذت بالصمت فقال يائسا ً : إذن تضايقك زيارتي


فقالت بسرعة : لم أقل هذا


فقال بحرارة : منذ وفاة أمي وأنا وحيد ،،


ولكن العذاب حقا ً هو سماع كلمة خالي أو عمي تقال لي من وقت لآخر ،،


لعلها ابتسمت ولكن وجهها تورد يقينا ً وهمست : أنا فاهمة ومجربة ،، خاصة بعد زواج ابنتي ،،


فقال بشجاعة متصاعدة : ستسعدني دائما ً زيارتك ،،


ثم أضاف : وخالتي ،،



ضحكت وآثرت الصمت ،،



* *



فشعر بأنهما انتقلا من عصر إلى عصر ،،


وقال : الوحدة مرة ،، والحياة مرة ،،


أتطلع إلى شئ جديد ،،


حتى أني أفكر في تجديد بيتي بالكامل ،،



قالت : جميل ،،


فقال بجرأة : حتى أني عزمت الزواج !!،،



خيل إليه أنها أجهضت دهشة بلباقة ,,


وتمتمت : الزواج !!



فقال بثقة : إني على أتم ما يكون من الصحة ،،،


فابتسمت في ارتباك وقالت : ربنا يزيدك صحة وعافية


قال : وددت أن أعرف رأيك ؟!

قالت : لم لا ،، مثلك يتزوجون كل يوم ،، بل الكهول أيضا ً ،،





يا للنساء !! ،،


ولكنه قال بمرح : هذا ما قلته لنفسي ،،



قالت : ستسعد أمي حتما ً بالبحث لك عن زوجة مناسبة ،،


فقال : وما الزوجة المناسبة ؟! ،،


قالت : أن تكون قريبة من سنك


قال : ستكون في تلك الحال أرملة أو مطلقة


قالت : وما المانع ؟! ،، فأستاذ جامعي قدير ،، مثلك يحتاج لمن تفهمه لا لمن يكمل تربيتها ،،


فركز بصره الثمل في عينيها الحائرتين وقال : إني أعرف من أريد ولا حاجة إلى البحث ،،



فتساءلت : ماذا تعني ؟! ،،


فقال باستسلام وضراعة : أنت الزوجة التي أريد !! ،،



غضت بصرها وقطبت دون أن تنبس ،،



* *



فرجع يسأل في إلحاح : ما رأيك ؟! ،،


قالت : أهذا سبب زيارتك ؟! ،،


فقال : أي نعم وربي


قالت بصوت متهدج : الزواج لا يمكن أن يخطر لي ببال ،،


قال : دعيه يخطر ،، كان أعز أمانينا ،،


فقالت وهي من الحياء في ضيق شديد : ذاك تاريخ مضى وانقضى ونسي ،،


فقال بحرارة : إنه يعيش معي إلى الآن ويزداد قوة ،،


قالت بانفعال شديد : الحقيقة أنك تتناسى أنني أم وسأصبح جدة ،،


فقال : تزوجت وأنت صغيرة ،، بل صغيرة جدا ،، وكذلك فعلت بابنتك ،،


فغضت بصرها في أسى وهمست : لا تحرمني سكينة القلب ،،


فقال : وأنت لا تحرميني من الأمل الوحيد الذي كان وسيبقى في حياتي ،،



* *



تساءلت وهي تغوص في الحصار : ماذا سيقولون ؟! ،،


فقال : الدهشة تعيش ساعة واحدة ثم يلوذ الإنسان بسعادته ،،


فقالت باستسلام ورغبة في إنهاء الحديث : دعني أفكر ،،



فرأى من المناسب كذلك إنهاء الزيارة ،،



دعته للبقاء مجاملة ولكنه وقف ومد يده للمصافحة ،،



* *



خرج إلى الهواء الساكن متلهفا ً على نسمة من نسائم الصيف ،،


إذا كان الخيال لم يتحقق فإنه أيضا ً لم يتلاش ،،


كان بوسعها أن تجعل من الزيارة الأولى والأخيرة فشعر كأن الحياة تبتسم ،،


ومضى إلى بيته بروح جديدة يكاد يغرق في السعادة



* * *

عبدالله الدوسري
08-11-2007, 07:04 AM
( 3 )



* الخيانة *



بدت السماء غامضة في مولد المغيب ،، انخفضت الأصوات في نغمة حزينة موحية بالختام ،،



لم يقل شيئا ً ذي بال ،، أو هذا ما بدا له !! ،،



فمنذ عرفها احترف الانفصام الشخصي حتى أتقنه ،،



ولكنها سرعان ما اغرورقت عيناها ،، رغم ضبطها لمشاعرها وكراهيتها أن تبكي أمامه ،، اغرورقت عيناها ،،



وببصر مائع نظرت إليه وقالت : جئت إلى هنا مع صديقتي ،، فلمحتك صدفة ،،


فقال : لماذا إذن هذه الدموع ،، ألم نتفق على اللقاء غدا ؟! ،،



أرادت أن تقول شيئا ولكن الصوت تعثر في حلقها ،،


أما هو فتابع حديثه قائلا : لدي الآن اجتماع عمل ،، والجميع ينتظرني هناك ،،


ولكنها أمسكت بذراعه وأشارت إلى طاولة قريبة وكأنما تدعوه للجلوس ،،



ليست هذه هي المرة الأولى التي تبكي أمامه ،، لسبب أو بدون سبب ،،


ولذلك نظر إلى آخر طاولة في المقهى فاطمأن بأن المسافة إليها تحجب حتما الرؤية !!،،



جلس وهو ينظر إليها ،، فقال في نفسه : لكم أكره أن أراك مكسورة ،، يغدو حينها مذاق الدنيا كالتراب



* * *



تذكر طاولة العشاء الجانبية حين رآها لأول مره ،، تشد عينيه بقوة ليست بلا سبب ،، توقظ مشاعر نائمة وتنبه أحاسيس مدفونة في الضباب ،،



سمرة رائقة نقيه ،، عينان لوزيتان دعجاوان ،، وبريقهما المضئ المفعم بالنبض والاقتحام ،،


التقت عيناهما مرة ولكنه لم يقرأ فيهما المعنى الذي يتلهف عليه ،، إنها تقف منه موقفا ً حياديا ً في الظاهر ولكنها تخاطب أعماقه بألف لسان ،،



فقال لنفسه حينها : لا شك أن وراء هذه القشرة الناعمة الصامتة اللا مبالية مدينة مسحورة ،،


لم يشأ أن يجردها في خياله من ثيابها ،، وهي عادة مزمنة لم تفارقه ،، فتجريدها غير مجد لأن سحرها لا يستقر في موضع بالذات ،، شائع كضوء القمر ،، وبه جانب مجهول تتعلق به الآمال ،،




نسي المحيطين به من أصدقاء ،، في عينيها رأى الليالي المعربدة بأنغامها الجنونية ،، وهي وإن لم تبتسم إلا أن عينيها عكستا نظرة راضيه موحية كأرض خصبه لم تزرع بعد ،، وكلما وجد فرصة آمنه حدج الفتاة بنظرة فتتلقاها بالرضا الهادئ المثير للطموح بلا دليل ،، ولكنه أصر على محاصرتها متحررا من الكبرياء والخجل كما كان في الرحم



بدت في أول موعد لهما باقة من عبير لطيف يدعو إلى استباحة الأسرار ،، أن تتحقق أحلام لم تخطر بالبال هو ما يطمّع في المستحيل ،، وآمن بأن هذه الفتاة من معدن يخلق النشوات ،،



قال لها : الحياة جميلة وأنت زهرتها



وعرف بعد جملته تلك ،، مسرات الحياة بلا خوف أو ندم ،،


دق قلبه باعثا ً حرارة جنونية في كافة المراكز المتلهفة ،، الجسم الصارخ والنظرة المتآمرة مع الغرائز ،، ولا شئ يعرف الصمت ،،



وحل شعور سعيد ،، فانغرست بذور التفاهم ،،


ونفسه المتمرسة تؤكد بأن طريق الحياة شاق ومحرق وطويل يحتاج إلى استراحة من الظل الظليل ،،


ومن خلال حيرة ضبابية تلتمع بوارق إغراء لا سلكية ،، وتحقق حلم الجنون في دوامة من الذهول ،، وانصهر التأمل في وقدة طاغية ،، وسبحت موجة من النار في الظلمة الدامسة ،، واستحكمت لحظات من الفناء المطلق فالتهمت الماضي والحاضر والمستقبل ،، هي ساذجة بقدر ما هي فتاكة بقدر ما هي لذة طاغية




هي فتاة لم تعرف رائحة الرجل من قبل ولكنها بين يديه باتت أنثى عاشقة ،،


أحيانا ً يجري المرء وراء غاية معينه ثم يعثر في الطريق على شئ ما يلبث أن يؤمن بأنه الغاية الحقيقية ،،



كان يصف لها حبه ذات مره ،،


فقالت بصراحة فاتنة : كلامك جميل ،، ومن ناحيتي فأنا لا أتصور الحياة بدونك !! ،،



فقال بنشوة غريبة : ما أجملك ،، ما أجمل الحب ،، هو الحب الذي يشدني إليك يوما ً بعد يوم ،، وهو الذي يكمن وراء كل كلمة من كلماتي إليك ،، اسمه لم يجر على لساني قبل الساعة ولولاه ما كان ثمة مبرر أو معنى لأي كلمة قلتها



لعنة الله على الكذب ،، لذلك دائما يفقد حديثها الصادق معناه في نفسه كأنه الصمت ،،



وكان يخاطب أعماقه معنفا : إذا مضيتُ في الأكاذيب فسوف أجن ،، لم َ أضعف أمام الحقيقة بالرغم من أني قاتلت حتى أوشكت أن أقتل ،،


قل لها الحقيقة ،،


آه ،، ستصرخ من الفزع وينطفئ شعاع عينيها الذي يلهم الحب ،، لقد حرمت من كل شئ حتى نعمة اليأس



ولكنه قال : اعترف لك بأنني لا أجد لحياتي معنى ً إلا عند اللقاء ،،



ابتسمت وقالت بفطرتها العذبة : الحق أني لا أنقطع عن التفكير في مستقبلنا ،،



عاتب في باطنه الأشياء التي تقف أمامها بالمرصاد ،،


عاتبها على توانيها في امتلاكه والسيطرة عليه ،،


وعلى هزائمها غير العادلة أمام عدوتها التي لا تعلم عنها ،، أنت ِ المسئولة عما سيقع ،،



فقال وهو يداعب وجنتيها : دعينا لا نفكر إلا في حبنا ،،



اختفت الدنيا وقتلت البراءة ،، لا شئ سوى ملمس الحرير ورائحة الصمت الآخذ في الاستفحال ،،



العزاء الحقيقي تجود به عندما تعزف الأنفاس المترددة ألحانا ً من الغايات ،، عندما يسود النسيان المطلق الأرض والأفلاك وأي شئ عداها ،، ويحذر قلبه بـأنها لو أرادت أن تتخذ منك أسيرا ً فعلى الدنيا السلام ،، فهي الجحيم إذا سيطرت



يسأل نفسه أحيانا هل يحبها حقا ؟! ،، فيجيب بأنها غذاء دسم وراحة أبديه ،، لا كالعذاب الذي يخلفه الاستسلام للعادات والتقاليد والواجبات مع الأخرى ،،



وحتى مع الأخرى ،، يسهد متفكرا ً حتى مطلع الفجر ،، ويتذكر أبيه وعمه فلا يملك إلا الدعاء لهما بالرحمة ولنفسه بالمغفرة ،، وينظر إلى المسكينة التي ترقد بجانبه ويقول عن مآسي السيطرة أستطيع أن أحكي عشرات القصص ،، ولكن ماذا لو انقلب السحر على الساحر !! ،،



فالحياة بدون الحب لا طعم لها ،، غثيان ،، فتور كالرماد ،، ودون ذلك الجنون والدم ،، والعذاب والدناءة والخيانة ،، يا لبشاعة هذه الكلمة



* * *



جاء النادل وقال : ماذا أحضر لكما يا سيدي ؟! ،،


فأجاب : لا شئ ،، سنجلس قليلا فقط ،،



كم من هموم تتلاشى لو اعترف لها بكل شئ ،، هي تعطيه كل شئ صادق وهو لم يعطها إلا حزمة من الأكاذيب ،،


في محضرها ترتفع به المشاعر إلى آفاق من السعادة والأنس والصفاء ،، جاذبية لا تخمد ،، عذوبة مسيطرة لا مهرب منها كالقضاء ،، نسمة تستقر في ذروة لا يرقى إليها أي شئ ،،



اللعنة على النبضات التي تموت وهي على طرف اللسان ،، وتشكيلات السحب التي تبعث بها الرياح ،، وعصارة الألم المنصهرة وراء الأحزان ،، والسؤال الأعمى والجواب الغشوم ،،


قضي على البشر منذ قديم بأن تمضي حياتهم على الأرض معهم عند عبور عتبة الموت قبل أوانه ،، كالظل تتبعهم حاملة الأفعال والنوايا



نظر إلى السقف الذي تسبح في سمائه الأحلام الدامية وقال : اسمعيني جيدا ،، اذهبي الآن وغدا سأخبرك بأشياء لا تعرفيها عني



سمع منها همسا غير مبين كأنما تريد أن تتكلم فتمنعها غصة ،،


ثم جاء صوتها كأنما يزحف من جحر وهي تقول : تريدنا أن نفترق أليس كذلك ؟! ،، أخبرني ،، ألم تعد تحبني ؟! ،،



انصهرت أنفاسه في جو من السموم ،، ورهبة الفراق تغري بالدمع ،، أراد أن يتكلم ،،



ولكنها قالت : أيها القاسي ،، لماذا أنت محبوب ؟! ،،


فقال : أريد أن أعترف لك ،،


قاطعته قائلة : أعلم ،، لقد رأيتها هي أيضا برفقتك ،، منذ متى وأنت تخونني ؟!


قال : لم أخنك لحظة ،، ولكنها زوجتي


فقالت بلا ملامح : إذن فأنا مجرد خيانة



* * *

عبدالله الدوسري
08-15-2007, 03:40 AM
( 4 )


* يوم الزفاف *


وجد أنه بغتة كما يجد إنسان نفسه تحت شاحنة وكان أنعم ما يكون عينا ً بالسلامة والأمن ،، خفق قلبه خفقة عنيفة كسقوط في فراغ كوني ،، بل هي صرخة فزع باطنية تصدعت لها الضلوع دون تسرب فتاتها إلى الخارج ،، وعجب كيف استطاع أن يضبط مشاعره ويلاقيها في آخر لقاء بابتسامة غير مبالية ،، فلعله شغل عن القارعة ولو إلى حين ،، بالصراع الذي نشب بين نفسه وبين الذهول الذي طوقها ،،


كان مأخوذا ً بسرعة الحوادث وغرابة الأقوال حتى خيل إليه أنه في حلم غريب وأن المطر ينهمر فوق رأسه بالحجارة وأنه يتلفت باحثا ً عن مأوى ،،


وراح يستجدي نفسه أقصى ما لديها من قوة ليستر جرحه الدامي عن العيون اليواقظ وليتفادى من موضع الهزء والزراية ،،


وما فتئ يقول : تجلدي يا نفسي وأنا أعدك بأن نعود إلى هذا كله فيما بعد ،، بأن نتألم معا ً حتى نهلك ،، وبأن نفكر في كل شئ حتى نجن ،،


يا لها من متعة ساخرة بالموعد في هدأة الليل ،، حيث لا عين ترى ولا أذن تسمع ،، حيث يباح الألم والهذيان والدموع ،،


سأصرخ في جوف الأرض مخاطبا ً الشياطين ومناجيا ً الدموع المتجمعة بباطنها من أعين المحزونين ،، فالدنيا تبدو لناظري حمراء كعين الجحيم ،،



يوم الزفاف ،، كأنه عنوان لحن على ربابة ،، حيث يشيع القلب إلى مثواه الأخير محفوفا ً بالورود مودعا ً بالدف والزغاريد ،، وباسم الحب ترقص ربيبة القصر على أنغام غافلة ،، وباسم الكبرياء هجر إبليس الجنة ،،



إنه يتكلم ليثبت أنه حي ،، لكنه حي يتألم ،، شد ما يتألم ،،


ترى هل جرى في خاطره يوما ً أن يكون لحبه نهاية غير هذه النهاية ؟! . .


كلا ،، غير أن الإيمان بأن الموت حتم مقدر لا يمنع من الجزع حين حضوره ،، وهو ألم مفترس لا يعرف المنطق أو الرحمة ،، أخانه أحد ؟! ،، اختلطت الأمور عليه ،، غير أن هذا المساء يعده بخلوة حافلة للحزن ،،



وقال : الاغتيال خير من الكفر وأنجح ،، أأريد أن أقتل أم أقتل ؟! ،،


وحيد مهجور كأني صدى حنين هائم منذ أجيال ،، تأمل الآلام التي ترصدك ،، آن لك أن تحصد ثمار ما زرعت من أحلام في قلبك الغر ،، وسوف تسير في طريقك بقدمين ترسفان في الأغلال وفي حلقك شجا ،، والحب حمل ذو مقبضين متباعدين خلق لتحمله يدان ،، فكيف تحمله وحدك ؟! . .


فقد صارت الهوة التي تفصلهما أعمق من المكان والزمان ،، وقد كان يعالج الزمن بجرعات الصبر والمكان بأمل اللقاء ،، ولكنه يخاصم اليوم عدوا ً مجهولا ً وقوة خارقة غامضة لا يدري من تعاويذها ورقاها حرفا ً واحدا ً ،، فليس أمامه إلا الصمت والتعاسة ،،


تراءى له حبه معلقا ً فوق رأس كالقدر ،، يشده إليه بأسلاك من الألم المبرح لا يدري متى تنقطع .


* * *

عبدالله الدوسري
08-15-2007, 03:44 AM
( 5 )


* يد السماء *


ابتعد عني !!



لا بد أن تهتف بها صارخة وبكل غلظة ،،


أمامها عيناه مفتوحتان في دهشة ،،


وملامحه تنطق بشعور طفل أذنب رغم أنفه ويريد البراءة ،،


فكيف تجعله يتوقف في مكان لا تريده فيه ؟!


أهذا وقت التراجع والعدول النهائي ؟!


كيف ؟!


وما تصورته الأفظع قد تم منذ أن نطق لسانها بكلمة " أحبك " !!



إما التسليم المطلق أو إعلان الفشل وإحالته من شعور إلى واقع ،،


ذاب عقلها في ضياع ،،


لا صوت منه ،،


أو اعتصار لذاته ،،


أو حتى تغيير لوضعيته ،،


وتساءلت : ألم نتفق على هذه اللحظة معا ً ؟! ،،


تقف على حافة هاوية عظيمة ،،


يتساقط تحت قدميها فتات الصخور ،،


ومن بعيد يصلها صوت ارتطام الآهات ،،


فأيقنت بأن الهاوية شديدة الإنحدار ،،


لن تخرج منها سليمة إذا سقطت



ابتعد عني !!



تأبى الخروج منها ،،


أية غرابة ،،


بدا أنه يحتاج منها أن تحتاج إليه ،،


ترمق النداء قويا ً ملحا ً في عينيه ،،


لا تملك عصيانه ،،


نداء يحرجها ،،


فهو لا يجبرها على شئ ،،


إنما يترك لها الرأي والقرار ،،


يترك لها أن تضغط بكل ما تملك من رغبة ،،


على كل ما تملك من مقاومة ،،


وكالإعصار تحرك ذلك الإحساس الطاغي الذي ينسيها أي شئ ،،


إلا أن تنتفض مقبلة عليه ،،


تحيطه بذراعين تثلجتا بالحنان ،،


وبقبلات منهمرة مذعورة تغسل وجنتيه


كلمته تزيل منطقها ،،


لمسته تسلب إرادتها ،،


محبته تغتصب ملكها ،،


وفجأة أحست بلا وجود لأرض صلبة من تحتها !!


ولكن في نفس اللحظة التي كانت تهوي فيها وقد سلمت بالكارثة ،،


تأتيها يد من السماء وكان ليس لها صاحب ،،


توقف سقوطها ،،


تلتف حولها فتشعرها بأنها في أمان كامل


قال وهو يجلس : كدنا نهلك


نظرت إليه في إعياء وكأن صوته يأتيها من عالم آخر ،،


لم يبال ببلاهة عينيها ،،


فواصل حديثه : لن أراك حتى يقوم أبي بتحديد موعد لزيارة أبيك


* * *

عبدالله الدوسري
08-20-2007, 01:54 AM
( 6 )


* هو وهي *



نوم قليل وفترة انتظار ثملة بالدفء تحت الغطاء الثقيل ،، النافذة تنضح بضياء خفيف ولكنه يتجلى بقوة في ظلام الغرفة الدامس ،، ها هو الفجر يسبح في بحر الصمت الشامل ،،


أي سرعة جنونية في هذا الزحام الذي لم تعرف له الأشجار مثيلا ً منذ غرست في العصر الحجري ،، المجنون يجري بلا وعي نحو حادثة يرصده عندها المجهول ،،



هو : صباح يوم جديد ،، قديم ،، جديد قديم ،، قديم جديد ،، إن لم يوجد قديم حسن فليوجد جديد سيئ ،، أي شئ خير من لا شئ ،، الموت نفسه تجديد ،،


تحمل يا مسكين ،، في زمن النار لا نسمة ترطب الفؤاد إلا أنت يا حبيبتي ،، للأشجار الباسقة فضل لا ينكر ،، انظر إلى أعلى إلى السحب البيضاء ورؤوس الأشجار لتنسى سطح الأرض المتآكل ،،


إني أسير العقل الراجح والخلق الكريم والعينين الدافئتين ،، منذ الصبا ومنذ الشباب ،، عجيب أن يخلد الحب في هذا الغبار المنتشر ،، ها هو الهاتف يرن ،،


لو انتظرت دقائق لذهبنا معا ً ،،


فقالت بمرح : أصر أبي أن يكون فطوري في البرازيل



أتذكر وأحلم وأحلم وأتذكر ،، قصة طويلة ترجع إلى أقدم عصور الحياة في بيتهم القديم ،، لعبنا معا ً ،، ويجئ الحجاب مصحوبا ً بالحياء والحذر ،، والرقيب يتدخل هادما ً المسرات ،، لكن الحب اقتحم القلوب في حينه ،، انهالت المداعبات العابرة والعبارات الرمزية ،، أحبك على غلاف قصة وفاء الجيلين ،، خطبة لسنوات عديدة لا أدري متى تتوقف !!،،


إني مسئول مطارد تحاصره التساؤلات ،، أين الصواب ؟! ،، لم َ أشك في كل شئ ؟! ،، كيف حاق بي هذا الضياع ؟! ،، أكاد أسمع ما يقال من ورائي ،، فوق ذلك تهيم الأحلام ،،


إني أفكر وكأن كل شئ سيبقى على حاله إلى الأبد ،، العمر يذهب والحب ثابت لا يتحرك ،،


لم نلتق كثيرا ً في المستشفى ولكنا عدنا معا ً بسيارتي المهترئة ،،


قالت وهي تترجم مقطعا من أغنية كنا نسمعها : أنا نور حياتك بدوني عالمك مظلم


وصلنا إلى بيتهم فودعتها بقبلة فاترة شأن المشحون بأفكاره ،، لا مساحة بيننا لمزيد من القلق ،،


قالت : ماذا بقي لنا سوى الحب ؟! ،،


نظرت إليها متسائلا ً ،، فقالت وهي تغلق الباب بعصبية : عليك أن تتذكر دائما ً ذلك ،،


أطبق علي السكون ،، ما الذي تعنيه بذلك ،، اللعنة على كل شئ ،،


حائر لا موقف لي ،، حتى متى ؟! ،، متى أنظر إلى نفسي نظرة ناقدة موضوعية ؟! ،، أحبها والحب لا عقل له ،، أريدها بكل قوة نفسي ،، كيف ؟! ،، ومتى ؟! ،، متى تتيسر تلك السعادة الملعونة ؟! ،،


آه حبيبتي ،، تثور كالبركان لأتفه الأسباب ولكنها صافية القلب



هي : دائم البحث عن شئ مفقود ،، لو عرف نفسه لوجد لها مرفأ ،، ينطح الصخر ويقبض على الهواء ،،


مسكين حبيبي ،، بل مظلوم ،، مظلوم عندما أجبرته ظروف وفاة أبيه على ترك دراسته ليعمل ويعيل أمه وأخواته تحت أثقال الديون الكبيرة التي يرث سواها ،، أبيه كان صديق لأبي ،، وجيران عهد طويل عندما كنا نقيم بالشقة المقابلة في البيت القديم الذي نملكه ،، كانت صداقة عمر وهي التي جعلت أبي يصر على الخطبة رغم معارضة أمي ،،


سنوات دراستي في الطب كانت جميلة عدا النظرة التي ألحظها في عينيه ،، لقد كان متفوقا ً أكثر مني ،، يا لعزة نفسه التي غالبا ً ما تحنقني ،، حتى وظيفته الحالية في المستشفى عندما أخبرته بشأنها لم يوافق إلا بعدما تأكد ألا وساطة لي فيها ،، كم أعشقه لذلك ،،


ولكن مهلا ً ما تلك القبلة التي ودعني بها ؟! ،، لا أحب هذا ،، إهانة أو ما يشبه ذلك ،، إذا تكرر ذلك فسوف أصارحه ،، لا تقبلني إلا وأنت تحبني لا يشغلك شئ عن حبي ،، ماذا بقي لنا سوى الحب ؟! ،، يا إلهي ألا يوجد بصيص أمل ؟! ،،


توضأت لأصلي العصر ،، وبعد ذلك جلست مع أمي لمشاهدة المسلسل التليفزيوني ،، انتزعتني موسيقى البداية من الصراع ،، بقوتها الانسيابية دعت حبيبي فهبط من الغيب وجلس بجانبي ،، انقلبت فجأة إلى أنثى حالمة ،، أمي لن تلبث قليلا ً إلا وتذكره بما أكره ،، يا عزيزتي فهل تبتسم حياتي بدونه ؟! ،،

عبدالله الدوسري
08-20-2007, 01:56 AM
هو : لقاءات أسبوعية في المقهى الشعبي مع صديقي تنفخ بالوجدان نغمة الحلم الغابر ،، الجلوس هنا يتجسد في حال يضطرب له روتين الزمن ،، وتواجه السماء بالأرض وتعانق الشرق بالغرب ،، مناجاة تستعير من مخزون القلب البائد خفقة خاطفة تعيش حياة باسمة فأغرق في ذكريات من الأفكار الحرة المستوردة ،،


إني راض بالعدم ،، أتقبل الواقع حتى بلا اقتناع ،، ما الأشياء إلا نور يهبط فجأة فيبدد الظلمات ،، والألوان تلوح أحيانا ً حتى في الموت ،، حقا ً إنه كون خالي ،،


يا صديقي المسكين متى تسكت ؟! ،، يطلق في عطسة واحدة عشرات الشعارات العقيمة ،، ولكن الجلسة هنا لا تحلو إلا به ،،


علمني زمني أن أفكر ،، علمني أيضا ً أن أستهين بكل شئ وأن أشك في كل شئ ،، هل تترك السفينة للغرق ؟! ،، أبوها ضابط كبير ودخله من عقاراته كبير ويسكن في شارع كبير تماما ً كبيته الكبير ،، فلن أنسى موقفه عند وفاة أبي ،، واقتراحه بشأن الزواج الذي رفضته شاكرا ً ،، فأين سيذهب احترامي لنفسي ،، بل ماذا سيقول الناس عن أهلي ،، أهلي !!،، إني كالثور الذي يحرث أرض شاسعة ،، أم مشلولة وثلاث أخوات أكبرهن لا تزال في الثانوية ،، أما الديون ،، يا صديقي صه !!،، الحب باقة من الورد معطر بالأمل ،، بين الحلم والواقع خيط رفيع لا يرى إلا عند التأمل ،،


قال صديقي ودخان المعسل يكاد يحجب وجهه : ما هي توقعاتك لمباراة الغد ؟! ،،


فقلت دون اقتناع : سنهزمكم شر هزيمة ،،


فانطلق في حديث طويل عن فريقه ،، في عصر اليوم اشتريت هدية بسيطة ،، اقترحتْ في المكالمة بأن نذهب في جولة بالسيارة ،، أنوثة ونظرة عينين ووشاية نبرة ،، باللغة حين تقول الكلمة شيئا ً وتشير إلى شئ آخر ،، تلاشت البراءة الساذجة وحلت محلها مفاوضات وتوسلات من أجل لثمة فوق الخد أو الشفة ،، أطيب ثمرة في الشجرة بسمة ،، اللقاء حوار طويل بين القلوب ،، أما عطرها فهو الحريق في الغابة ،،



هي : لو ابتسمت الأيام لعشت رومانسية سرمدية ،، لكم أحبه ،، دخلت غرفتي ونظرات أمي تلهب ظهري ،، الوحدة تغدق علي شفافية وهّابة للرؤى ،، للأفكار خطوط لا أتجاوزها ولكنها لا تقف إلا في أعماق اللحظات المطوية في القلب ،، انكمشت في الظلمة متلفعة الكآبة ،، وتذكرت حديث رئيس القسم ذات يوم عندما راجعت معه التقرير ولم يبق إلا أن أذهب ،، فأنا لا أطيقه ،،


ولكنه مال بكرسيه إلى الوراء وقال لي : دكتورة ،، عندي حكاية تهمك ،،


" ماذا عنده يا ترى ؟! " ،،


قال : هي مدرسة شابة ،، كانت مخطوبة من ابن عمها،، يئسا من الزواج عندما لم يجد وظيفة هذا غير سلوكه وفضائحه ،، تفارقا وتزوجت من مالك لأحد محلات العطور ووافقت على رغبته في البقاء كربة منزل ،،


دهشت واستأت ،، ولكني سألته بهدوء : لماذا تتصور أن هذه الحكاية تهمني ؟! ،،


فسألني متجاهلا ً سؤالي : لكل مشكلة حل ،، ولكن ما رأيك في تلك المدرسة ؟! ،،


فقلت في شئ من الجفاء : لا أستطيع أن أحكم على واحدة لا أعرف ظروفها ،،


فقال بهدوء غريب : أنا أعتبرها عاقلة ،، فربة المنزل خير من مدرسة عانس !!


غادرته بوجه لا أشك أنه عالنه باستيائي ،، له نظرات طامعة لا يمكن تجاهلها ،، والحق أني طالما كرهته لذلك ،،


وعندما رويت لحبيبي ما دار بيني وبين المدير قطب غاضبا ً وهتف : سأطالبه بألا يتدخل فيما لا يعنيه ،،


فقلت بتوسل : الأفضل أن نهمله كي لا تسوء العلاقة بينكما


فقال بامتعاض : المسألة أن موقفي منك ضعيف لا أدري كيف أدافع عنه ،،


فقلت بلطف : لست متهما ً ولا أطالبك بدفاع


فقال : إني مسئول وحزين



وصمتنا هاربين إلى رحمة الضحكات حولنا في مطعم المستشفى ،،


حتى جاءني صوته متشكيا ً : كأننا نسينا حديث الحب ،،


فقلت مدارية حزني : لسنا في حاجة إلى مزيد منه


فقال وهو يرمقني بامتنان : أحبك ،،


فقلت وأنا في غاية من التأثر : أحبك


تخيلت حياتنا الماضية والحاضرة ،، كأنها خيال لا حقيقة ،، ورغم ذلك هفا فؤادي إلى البيت الذي يجمعنا معا ً ،، بيت بسيط ولكن يخفق بين جوانحه الحب ،،


وفاض من قلبي نبع حنان متدفق عندما أمسك بيدي وقال بصوت دلني على أنه يشاركني أشواقي : شد ما أريدك أكثر من أي شئ في الوجود ،،


انضباطي خلقة مركبة في أعماقي منذ الصغر ،، حواري مع رغباتي الجامحة دائما ً ينتصر ،، لم تؤثر فيّ تجارب شاهدتها عن كثب أثناء الدراسة بين الزملاء ،، حافظت على تصوري الوقور لمعنى الحرية ،، لم أتزعزع ،، لم أتساهل في رزانتي ،، ولم أبرأ من الحزن ،،

عبدالله الدوسري
08-20-2007, 01:59 AM
هو : طلبت مني طبيبة الأطفال أن أصلح جهازها ،، في الأربعين من عمرها على أقل تقدير ،، مقبولة المنظر ،، ممتلئة في تكوين حسن ،، مثيرة رغم رزانتها واحتشامها أو ربما لرزانتها واحتشامها ،، يقال أنها ورثت عن زوجها السابق عمارتين ،،


قالت : على أبيها أن يساعدك


فقلت : وفيمَ يساعدني ؟!،، وقبل كل شئ أرفض ذلك


فقالت بإعجاب : جميل أن أسمع ذلك ،، الأخلاق أهم شئ في الدنيا ،، فقد رفضت العديد ممن تقدموا للزواج مني لطمعهم الواضح في أموالي ،،


نبرتها لا تدع مجالا ً للشك في صدقها ،، وإني أجدها مثيرة للغاية ،، وإني مخزن بارود عند أي إثارة ،، معاناتي في هذه الناحية تستحق الرثاء ،،


وقالت : هي فتاة ممتازة ولكن الزمن ****ها ،،


طعنة وأي طعنة ،، مقصودة أم جاءت عفو الخاطر ؟! ،، يا عجوز الغابرين هي بعمر بناتك ،،


على أي حال أفسدت تركيزي في حل مشكلة الجهاز ،، ولم يخفف من حدة توتري قولها : الحب هو العمر الحقيقي ،،


وغادرت غرفتها مشحونا ً بالسخط عليها والإثارة منها ،،


قابلت حبيبتي في أحد الممرات فقالت من فورها : هل أصبحت فني الصيانة !!،، هنيئا ً لك الترقية ،،


قلت : يا عزيزتي المرأة عاقلة متزنة وأنا احترمها كأم


فضحكت ضحكة باردة وتساءلت : وهل عاملتك كابن ؟! ،،


فتساءلت محتجا ً : تحقيق واتهام ؟! ،،


فقالت بسرعة : لا سمح الله ،، هل أنت غاضب ؟! ،،


قلت : أنا لا أغضب منك أبدا ً ،، هيا بنا لتناول الغداء ،،


ولكن ليت الأمر انتهى عند ذلك ،، فعندما عدت إلى المنزل وجدت والدتها تجلس مع أمي فتوجست شرا ً ،،


وقالت أمي على الفور : ها هو قد جاء ،، فقولي له ما تشائين بنفسك



" يا له من مساء " ،،


قالت : المسألة يا بني إنها على وشك الضياع ،،


" آه ،، فهمت مقدما ً هي الاسطوانة القديمة " ،،


قلت : إني مصغ يا خالتي ،،


قالت : حتى متى ننتظر ؟! ،، لا اعتراض لي على مشيئة الله ولكن الانتظار يبدو بلا نهاية ،،


قلت : أنا لم أقصر في شئ ،،


قالت : لا أحد يتهمك ،، ونحن لا نكن لك ولأسرتك إلا كل احترام ،، ولكن العمر يجري ،، وأنت فتى عاقل ،، بيدك إنقاذها ،، وربما إنقاذك نفسك أيضا ً ،، إنه مجرد سوء حظ ،،


وبعد انصرافها قالت أمي : لهم عذرهم يا بني ،، هذا ما يجب أن نسلم به ،،


" لم أقل شيئا ً "،،


فقالت : حتى أبوك رحمة الله عليه لم يقتنع تماما ً بالارتباط لولا إصرار صديقه ،، ولو سمعنا كلام أمها من أول الأمر ما انتهى بنا الأمر إلى هذه الخاتمة المهينة ،،

عبدالله الدوسري
08-20-2007, 02:00 AM
هي وهو : هذا المكان سجل لهما أجمل الذكريات ،، اللعنة على كل شئ ،، لا يوجد شخص يستحق الاحترام ولا فعل يستحق الثقة ولا وعد يستحق التصديق ،، ذلك التاريخ المنحدر ما بين الهدوء والثورة ،، اختنقت الأنفاس تحت ركام من الأتربة ،، فلتكف الأفواه عن إلقاء الشعارات فقد شربت الأرواح العشق حتى الثمالة ،،


قالت : أعوذ بالله من صمتك ،،


هدوء نظرة عينيها يضاعف من إحساسه بالمطاردة ،،


ولكنه قال باستهانة : لا جديد تحت الشمس ،،


قالت : أراك متأثرا ً من الزيارة أكثر مما توقعت


قال : الهموم كثيرة


قالت : أعلم ،، نعيش في مجتمع لا يرحم ،، ستفرج بإذن الله


قال : الوقت مهم أردنا أم لم نرد ،، ومسئوليتي ثقيلة ،، وعمي لم يترك شئ إلا وابتلعه حتى الأرض الباقية فكل شئ باسمه ،،


فقالت بحزم : لست معفاة من المسئولية ،، إني مثلك تماما ً ،،


قال : لا مفر من التسليم بأني أهدر مستقبلك


قالت : ومستقبلك أنت ؟! ،،


قال : أي مستقبل ،، أنت طبيبة أمامك ينتظر غد مشرق أما أنا ،،


شحب وجهها وهي تتمتم : لأول مرة أجدك منهزما ً ،،


فقال بتردد : ربما لأنني أنتصر على أنانيتي لأول مرة


فهتفت بفزع : رباه ،، أتفكر حقا ً في ،،


وأشفق من إتمام جملتها فقال وهو يمرق من جرحه : إني أحررك من قيدي ،،


قالت بانفعال شديد : لا أطيق سماع ذلك


قال : أعيدي التفكير في حياتك بعيدا ً عن ظلي الثقيل


قالت : إني حرة ولا سلطان لأحد علي


قال : الأمر يتطلب إعادة نظر


فتفكرت في وجوم ثم قالت : إنه منطق سليم ولكني أشك بسلامته في ظل حب حقيقي


فقال بسرعة وحرارة : حذار من الشك فيّ ،، لا تزيدي الموقف سوءا ً ،، فالحب أيضا ً هو التضحية


قالت وكأنها على وشك البكاء : لا حاجة لك إلى التضحية


قال : إني أحاول عمل الصواب ،،


فقالت بمرارة : وماذا عن حبنا ؟! ،،


قال : صدقيني ،،


أشاحت بوجهها عنه زاهدة عن سماع أي كلمة أخرى ،، وفصل بينهما صمت أثقل من الليل الزاحف ،، انسحبا كلا إلى داخل ذاته وباعد اليأس بينهما إلى ما لا نهاية حتى فقد اللقاء أي معنى ،،


وقامت متثاقلة وهي تقول : لا وجه لبقائي هنا ،،


فقام ضامر الحيوية ،، كأنهما غريبان سيذهب كل إلى وطنه ،، ورفضت أن يوصلها إلى المنزل ولكنه لم يدعها رغم إصرارها ،،


لا شئ أقوى من الحب إلا الألم ،، تخايلت لعينهما الوحدة المتربصة في نهاية الطريق ،، وطوال الطريق لم يتبادلا كلمة واحدة ،، ولا تحية عندما أصبحا أمام منزلها ،،

عبدالله الدوسري
08-20-2007, 02:02 AM
هي : رأيت صورة وجهي معكوسة في نظرة أمي التي استقبلتني بها ،، ها هي تداري عينيها في إشفاق وما يشبه الخوف ،،


قلت لها على مسمع من أبي : هنيئا ً لك ،، نجح مسعاك ،،


فغرقت أكثر في الصمت حتى اغرورقت عيناها ،،


وإذا بأبي يقول : إني مطمئن إلى رجاحة عقلك ،،


" فلم أقل شيئا ً " ،،


قال بهدوء : لن تندمي ،، وسوف أذكرك بذلك في يوم قريب ،،


ونطقت أمي لأول مرة بقولها : لا يهمنا في الدنيا شئ سوى مصلحتك


ولكنها دنيا جديدة تماما ً علي أن أعايشها منذ الساعة ،، دنيا لا يوجد بها أثر لحبيبي ،، دنيا على القلب أن يصبر عليها حتى يجيئه الفرج بموته ،،


ودهمني شعور قاس بتقدم عمري وأنني أطرق أبواب العنوسة برجاء خائب ،، فشاب شعري وتساقطت أسناني ووهنت عظامي ،، وتبدت لي غرفة نومي قديمة بالية لم يبق من ألوانها إلا خيال ،، وثار غضبي عليه ،، أثبت أنه أضعف مما تصورت ،، وأنه خليق أن يبقى حائرا ً بلا مرفأ إلى الأبد ،، الحقيقة أنه ضاق بحمل المسئولية ،، إنه يهرب من عجزه ،، وفي ظنه أنه لن يرمى بعد اليوم بالعجز عن الزواج ،،


إنني يجب أن أسعد بالتحرر منه ،، إنني أخف مما كنت في أي يوم مضى ،، هجرني وخانني ،، من غيره يسأل عن تعاستي ذات الأنياب الحادة ،، يجب أن أهنئ نفسي على التحرر منه ،، ذلك الفقير الحقير المعدم البائس ،، من الآن فصاعدا ً أستطيع أن أزن الأمور بعقل غير مشلول بقيود القلب ،، أنا حرة ،، حرة ،، حسبي ذلك ،،


مرارة التجربة التي طحنتني مزقت أقنعة الحياء الفارغة ،، أنضجتني أكثر مما قدرت ،،


ولكني عندما انفردت بنفسي انهار سد المقاومة فأجهشت في البكاء ،، ليكن هذا وداعي الأخير للماضي العقيم ،، قد أكون خسرت أثمن ما في حياتي ،، ولكن لأدع كل شئ للزمن ،،


ماذا كان يعني رئيس القسم ذلك اليوم ؟! ،، يا للتعاسة التي تتمطى بلا حدود ،، هل يشفي الزمن حقا ً من الحب ؟! ،، متى وكيف ؟! ،، لن يفيد البكاء وإن رويت الدهر بالدموع ،، سأعالجه بالازدراء كما سقاني الذل ،، والداي يمعنان في الهرب حتى ينظما صفوفهما ،، أول النصر هزيمة ،، هرب وتحررت ،، احملي ألمك بشجاعة حتى يتبخر ،،


انتظرت رؤيته في المستشفى صباحا ً مصممة على لقائه كزميل وكأن شيئا ً لم يكن تماديا ً في إعلان اللامبالاة ،، لكنني لم أستطع ،، لم أنظر نحوه ففضحت تعاستي ،، ترى كيف بات ليلته ؟! ،، شاركني العذاب أم غط في نوم من الراحة والحرية ؟! ،،


وكان لا بد للسر أن ينكشف فعرف في القسم وأحدث في الظاهر على الأقل وجوما ً ،، لم تعلق واحدة في القسم بكلمة ،، لعل المفلسات قد سعدن ،، فالتعساء يتعزون بالتعساء ،،



وقال لي رئيس القسم : علمت وأسفت ،،


" فلذت بالصمت" ،،


فقال : لكنها نهاية محتومة ،، وفي تقديري أنها جاءت متأخرة ،،


ثم بنبرة أقوى : مثلك لا يصلح لها أن تعلق مستقبلها بوعد مجهول كأنك لا تدركين قيمتك الحقيقية ،،


" ولم أنبس بكلمة " ،،


فقال : عندما قلت لك يوما ً إن لكل مشكلة حلا ً كنت أفكر في هذه النهاية ،، وإن يكن كل وجود إلى زوال فالحزن لن يشذ عن هذه القاعدة ،،


وطوال حديثه تصفحني بنظرات جريئة لم يعد يخفف منها الحاجز الذي كان قائما ً ،، كم أكرهه ،،



وفي المساء قال لي أبي : أود أن أصارحك بأنه لو كان كامل الإخلاص لما تخلى عنك أبدا ً ،،


ورغم أنني ملت لتصديقه إلا أنني قلت : لأنه لم يعد يحتمل المزيد من اللوم فقد أقدم على ما يسميه بالتضحية ،، إني أعرفه تماما ً ،،


فقال : ما يحزنني حقا ً أنني السبب في هذه المأساة ،،


فقلت باستياء : لقد انتهى كل شئ


فقال وهو يبتسم : بهذه الروح نقهر الأحزان ،،


قبلت رأسه واستأذنته معتذرة بالنوم ،، وا أسفاه ،، هو يمعن في البعد وها نحن نتحدث عن حياة جديدة ،،

عبدالله الدوسري
08-20-2007, 02:04 AM
هو : داعبت أختي الصغرى وهي تجلس على ركبتي ،، جاءتني الأخرى بفنجان شاي ووقفت مرتبكة ،،


ابتسمت وقلت لها : هاتي ما عندك ،،


فقالت بسرعة ولهوجة : ستقيم المدرسة في الأسبوع القادم حفلة تخرج ،، ويلزمني فستان مناسب


قلت : ولكنك لن تتخرجي هذا العام ،،


فقالت : أجل ولكن ستكرم المتفوقات في جميع المراحل ،، وأصرت المعلمة أن ألقي كلمة المتفوقات ،، وسوف تحضر مديرة المنطقة ،، ولكني أستطيع الاعتذار إذا ،،


فقاطعتها قائلا : لا عليك سوف نذهب غدا ً إلى السوق ونشتري ما يعجبك ،،


قالت : صدقني لولا إصرار المعلمة على وقوفي أمام الجميع لما خشيت أن أرتدي أي شئ


فقلت : إنك تستحقين نور عيني ،، سأراك بإذن الله طبيبة عظيمة ،،


" كدت أغص لهذه الأمنية " ،،


فقالت الصغيرة وهي تعبث بنظارتي : وأنا أريد فستان ،،


فقبلتها وقلت : لك ذلك ،،


قالت الوسطى وهي تسند كتفها على الباب : أنا متفوقة ولم تشتري لي هدية ،، أم أن الهدايا لأناس دون غيرهم ؟ ،،


قلت : سنذهب جمعينا غدا ً إلى السوق فتختاري هديتك بنفسك ،، هل يرضيك ذلك ؟! ،،


فقالت أكبرهن : هيا بنا دعوه يشرب الشاي ،،


ثم جاءت وحملت الصغيرة من حجري ورمقتني بامتنان وهمست : شكرا ً ،،


بعد ذهاب شقيقاتي قالت أمي : أود أن أحمل عنك بعض حزنك ،،


فقلت : الحق أنني لا أدري ماذا أفعل بحياتي ،،


قالت : سنبلغ يوما ً شاطئ الأمان


فقلت : سأبلغ الشيخوخة قبل ذلك ،،



حملتها وأرقدتها على فراشها ثم قبلت رأسها ،، أغلقت باب غرفتي وأشعلت سيجارة وسرعان ما ذكرتها ،، جرح القلب والكرامة ،، أهيم على وجهي بلا مأوى ،، الحرارة المشتعلة في رأسي تبخر لذة الجلسة مع أسرتي ،، لا رغبة لي في الخروج ،، فلا مهرب من السهر في غرفتي رغم ضجر الوحدة ،، أجلس وأدخن وأرهف السمع للصمت ،،


هنا معبد تقدم به القرابين إلى الأمل الراحل الذي أصبح رمزا ً للسعادة الضائعة ،، هنا تنقض شلالات السخط على كل شئ بغير استثناء ،، اسمع واهنأ بشئ من العزاء ،، إن أضجرك الكلام فمد بصرك إلى الطريق ،، راقب الآتين والذاهبين ،، حركة سريعة لا تتوقف ولا تنقطع ،، وجوه مكفهرة وضاحكة ماذا وراءها ؟! ،، كل يحمل مأساته أو مهزلته ،، أضواء الميدان قوية مثيرة للأعصاب ،، ومثيرة للأعصاب أيضا ً سيارة رئيس القسم الفارهة ،، وأغرب الأغاني تنطلق في الطريق ،، لا يبقى شئ على حاله التي كان عليها إلا الشجر والبيوت ،، ويدوي تعميم في مكان ما فينشر الأكاذيب في الجو مع الغبار ،، تعب ،، تعب ،، فلأعد إلى الكلام ،، خرابة صغيرة بعشرين ألف ،، الجرائم التعليمية ،، كم مضى من أقساط الديون ؟! ،، كم عدد أصحاب الملايين ؟! ،، الأصدقاء والأعداء والطفيليون ،، المهربون والقوادون واللصوص ،، حكايات ألف ليلة وليلة ،، نادل المطعم عنده أيضا ً حكاية وعند سائق التاكسي ،، متى تبدأ الولادة ؟! ،، الرشوة على الملأ وبأعلى صوت ،، فيتامين ( و ) لعلاج الشلل رغم أعراضه التي تسبب السرطان ،، شيخ العصابة له كتيبات ،، الدوائر الحكومية كانت مكانا ً للرقص فأصبحت مكانا ً للغناء ،، أنواع الجبن والأجهزة والمفروشات ،، البنوك الجديدة ،، كم ارتفع سهم شركة الفضاء ،، ويسود صمت شامل ريثما تذهب امرأة غير محتشمة ،، وتعقد مقارنة بين تضخم تضاريسها والتضخم المالي العام ،، ومتفائل يؤكد بأن زوجها يخونها ،، لا خلاص إلا بالخلاص من الفساد ،، حرب أبدية مع الذات والويل لعملاء التطبيع ،، كفى ،، كفى ،،


لم أحتمل الوحدة فخرجت ،، في الوقت متسع لقليل من التسكع ،، الفرار منك جهد ضائع يا حبيبتي ،، مرض الحب بطئ الشفاء وأخاف أن يكون من الأمراض المزمنة ،، لا يعزيني عن إساءتي إليك إلا أنني أسأت ضعفين إلى نفسي ،، في تخبطي أذهب إلى المقهى فألقى صديقي ،، يا صديقي لقد انفصلت عن خطيبتي ،، غير موافق طبعا ً ويطالبني بإعداد لقاء بينه وبين أبيها ،، الوداع يا صديقي مضى وقت الكلام ،، أعدك بأن أكون عدوا ً للكلام بقية العمر ،،



ولما قابلت مدير القسم في الصباح قال : آسف ،، ولكنك فعلت الصواب ،، وسوف تضحك لك الدنيا ،،


وتلاقيت مع طبيبة الأطفال في نظرات مسترقة باحت بمودة لا خفاء فيها ،، دافئة وعميقة ومراوغة ،، إنها غير مقصرة في إبداء مفاتنها ورزانتها معا ً ،،


كأنما تقول لي إني امرأة فاضلة ولكن لا حيلة لي مع مفاتني ،، فهل يعجبك هذا الطراز من النضج الأنثوي المتخطي حلقة الشباب ؟! ،،


المسألة بالنسبة إلي مسألة جوع أولا ً وأخيرا ً ،، لعلها تنظر إلي باعتباري حملا ً على حين أنظر إليها بعيني ذئب ،، لكن كيف ومتى وأين ؟! ،، يا عزيزتي ،، يا أنفاس السحاب التي تتمايل الأغصان شوقا ً إليها ،، أنظري ما الذي فعلته بي ؟!

عبدالله الدوسري
08-20-2007, 02:05 AM
هي : الأمل في الزمن ،، هو أيضا ً يميت ويحيي ،، سيهلك الفيروس ذات يوم ويتجلى وجه الشفاء ،، ولن يخذل الله مؤمن ،، اليوم نتبادل الحديث كزميلين ،، كزميلين غريبين لم يذوبا في قبلة قط ،، وأحيانا ً أراه مثلي يستحق الرثاء ،، لم أعد أدينه ولم أعد أحترمه ،، التجربة الجديدة التي اقتحمتني هي مدير القسم ،، يستقبلني ببشاشة غير عادية ،، ويحاورني مداعبا ً معلنا ً إعجابه ومودته ،، إني أتوقع وأفكر تحت مظلة من الكبرياء تأبى التسليم بالهزيمة ،، من ناحية أخرى قدرت أمي أن الهدنة انقضت وأنه آن لها أن تتكلم ،،



فقالت لي ونحن نشرب الشاي : علمت أن ذلك الضابط مستعد أن يتقدم من جديد ،،


إنه يمت بصلة قرابة لأبي من بعيد تقدم منذ عامين ورفض ،، والظاهر أنها لاحظت استيائي فقالت : نحن على اتفاق أنه طالما لا يوجد ارتباط فالأمر يفصل فيه العقل وحده ،،


فقلت معترضة : ولكنه متزوج ،،


فقالت برجاء : ولكنه سيجعلك أميرة في قصرها ،،


فقلت بحدة : لست سلعة للبيع ولست متعجلة ،،


فقالت بإشفاق : الزمن يجري بسرعة ،،


فقلت بتحد : لن أكون أول عانس في التاريخ ،،


لزم أبي الصمت طوال الوقت ،، ولم أكن صادقة تماما ً في التعبير عن حالي ،، فالحق أنني راغبة في إثبات وجودي ولكن ليس على حساب كرامتي ،، الكفاءة يجب أن تشمل الاحترام ،، المدير على الأقل لم يتزوج قط ،، والفجوة بين عمرينا معقولة لدرجة ما ،، أما الحب فمن الحماقة أن أفكر فيه الآن ،، وجعل أبي يرمقني بنظراته الفاحصة ،، أنظر يا عزيزي ما الذي فعلته بي ،،



هو وهي وهم : الحمد لله ،، كل شئ طيب لولا حزنه هو ،، الجو في هذا الوقت لطيف فمتى تسلو هي وتنسى ،،


الحمد لله ،، فالأيام تمضي بين الأعمال والطعام والأحاديث ،، الشباب يستأثر بهم المستقبل ،، والشيوخ يتوقعون ضيف لا ريب فيه ،، اللهم جنبنا الشرور والفتن ،، السماء والبحر والشجر والجبال وأسراب البشر تسبح بحمدك ،، سقيا لعهد الطفولة الساذج كما تذكره الذاكرة ،، وعهد المراهقة ومنازعاتها وما أثارته بفتنة اليقظة ،، وعهد الشباب وتحدياته وغناها بالشجاعة والاقتحام ،، وعهد العقل وحواره الدائم ،، وأخيرا ً عهد الإيمان الخالص والأمل بالرحمة ،، أصبح الموت آخر المغامرات الواعدة ،، مناجاته تهون حمل الأعباء على حاملها ،، سيجئ في ساعة سافرا ً عن وجهه وسوف يقال له بكل مودة اقطف الثمرة وهي في تمام نضجها


* * *

عبدالله الدوسري
08-31-2007, 02:39 AM
( 7 )


* المجنون الصغير *



انفرجت بوابة موقف السيارة في البيت المقابل لبيتنا وأنا أسير على مقربة منها ،، فرأيت في الفناء وجه يتألق بنور الشباب لفتاة كانت تسقي حوضا للزهور ،، وبمجرد أن وقعت عيناي عليها عانقت سرا ً من أسرار الحياة المتفجرة ،، تفتحت بها أبواب السماء فأغدقت عليّ فيضا ً من بركات الحب ،،



كان ذلك البيت يملكه صديق قديم لأبي وهو رجل مهيب يحترمه جميع سكان الحي لقوة شخصيته ،، يعيش مع زوجته وابنة وحيدة بعد زواج إخوتها ،،


كانت تلك المرة هي الأولى التي ألمح فيها ابنة الجيران وقد كانت حينها في الرابعة أو الخامسة والعشرين من عمرها ،، أما أنا فقد كنت في الرابعة عشرة !! ،،



ومن عجب أن صورتها رغم العاطفة التي ابتعثتها اختفت تماما ً وراء سحب الماضي ،، بل تعذرت على الوضوح حتى وأنا فريسة سحرها ،،


لا أعرف لون وتسريحة شعرها ولا لون عينيها ولا طول قامتها أو درجة امتلائها ،، ذاب كل ذلك في سائل سحري ،،


وكنت إذا تذكرته أو خيّل إليّ ذلك فعن طريق غير مباشر وبإيحاء عفوي كشذا العطر الذي يباغتك من " قزّاز " وأنت ماض غارقا ً في أفكارك ،، وكأن قلبي لم يكن يحركه شئ إلا إذا انتهى إليها بسبب خفي ،،


ولذلك همت في أزمنة متأخرة نسبيا ً بقسمات وملامح وسمات ولفتات لنجوم توهمت أنها تذكرني بما غاب عني منها ،، بل ما أحببت صفة في وجه إلا وكانت هي وراءه حقيقة أم وهما ً !! ،،



وبسبب ذلك الحب الخاطف عانت حياتي العاطفية من أزمات متواصلة معقدة كأنها السحر الأسود ،،


والعجيب أنه كان حبا ً بلا موقع ولا مواقف ولا تاريخ يذكر ،، رأيتها من خلال البوابة ثوان ليس إلا ففقدت إرادتي وألقي بي في طور جديد من أطوار الخلق ،،


آمنت بأني عاشق ،، وعرفت كيف يغيب الإنسان وهو حاضر ويصحو وهو نائم ،، كيف يفنى في الوحدة وسط الزحام ويصادق الألم ،، وينفذ إلى جذور النباتات وموجات الضوء ويستلقي فوق الأفق !! ،،



وجعلت أحوم حول بيت الجيران كل يوم علني ألمحها مرة أخرى ،، وسمعت مرة صوتا ً ناعما ً ينادي السائق فاهتز قلبي وافترضت في الحال أنه صوتها ثم آمنت بذلك ،،


ورأيتها للمرة الثانية في مناسبة حزينة ،، عندما صدمت سيارة شقيق صديق لي أمام البيت ،، كنت عائدا ً من المدرسة فوقفت مع الحشود المجتمعة مشدوها ً لمنظر الصغير وهو غارق في دمائه وصوت الإسعاف يطن برأسي ،، ولم أنتبه إليها إلا أثناء إغلاقها للنافذة ،،


رأيتها لحظات فخفق قلبي خفقة مباغتة ولكني لم أنعم بالرؤية بسبب الحادث ،، وفقدت النشوة في قلب كسير محزون ،،


واجتاحتني عواطف متناقضة كما اجتاحني تيار الخلق المتلاطم ،،


ولم أرها بعد ذلك إلا في إحدى الزيارات لوالديها برفقة زوجها وذلك قبيل انتقال جارنا من الحي ،،،


وكانت مدة ذلك التاريخ الذي مر بلا أحداث أقل من عام واحد ،، ولكنه كان أعجب عام في حياتي ،،



لم أجد ما يحذرني من التمادي في عاطفة لا جدوى منها ألبته ،، كنت صغيرا ً وكانت أفكاري عن الحب ساذجة مستعارة من الروايات وما عرفته من تاريخ الأدب العربي ،، فأيقنت بأني " مجنون ليلى " ،، وأقنعت نفسي أن حبي هذا يقطع بأني أحببتها في تاريخ سحيق مضى ،، ربما في العصر الجاهلي كما يزعم ريدر هيجارد !! ،،



وتمثل ذلك الحب في صورة قوة طاغية متسلطة لا تقنع بأقل من التهام الروح والجسد ،، قذف بي في جحيم الألم ،، صهرني ،، وخلق مني معدنا ً جديدا ً تواقا ً إلى الوجود ،، ينجذب إلى كل شئ جميل وحقيقي فيه ،، وبقي الحب بعد اختفاء خالقه ما لا يقل عن خمس سنوات مشتعلا ً كجنون لا علاج له ،، ثم استكن على مدى العمر في أعماقي كقوة خامدة ربما حركتها نغمة أو منظر أو ذوبان قبلة أو ذكرى فتدب فيها حياة هادئة مؤقتة تقطع بأنه لم يدركه الفناء بعد !! ،،



وكلما تذكرت تلك الأيام غرقت في الضحك أو أذهلني العجب ،،


وتساءلت بدهشة عن سر الحياة التي عشتها ،، وهل كان أصابني مس من الجنون ،، وأسفت غاية الأسف أنه لم يقدر لذلك الحب أن يخوض تجربته الواقعية ،، وأن تتلاقى في دوامته العنيفة السماء والأرض ،، وأن أمتحن قدراتي الحقيقية في معاناته ومواجهة أسراره على ضوء الواقع بكل خشونته وقسوته ،،



وحينما بلغت درجة من نضج الشباب والتجربة اقتنعت بأن ابنة الجيران ألقيت في حياتي كمثير ،، لم تكن إلا شفرة تشير إلى شئ ،، تعيّن عليّ أن أحل رموزها للوصول إليه ،،


ولقد تحللت حياتي إلى مآسي وانتصارات وسخافات ولكني أكره أن أذكر تلك الأيام كغيرها من خالد الذكريات باستخفاف ،، فكيف يستخف إنسان بأروع سني العمر ؟! ،،



مررت منذ أيام بحينا القديم فوجدت بيت الجيران قد هدم مخلفا ً أرضا ً جرداء تمهيدا ً لإقامة مركز تجاري ،،


ابتسمت وأنا أنظر إلى الأرض الفضاء ،، وعبرني إحساس بالأسى ،،


فتذكرت الفتاة ،، التي لم أرها منذ تلك الزيارة الأخيرة لأهلها ،، ولم أدر عنها شيئا ً بعد ذلك ،، حية أم ميتة ،، سعيدة أم شقية ،، وكيف هي حياتها في هذا العمر ،، وحين تبلغ شيخوختها؟! ،،


وأيا ً كان خبرها ،، ورأي العقل فيها ،، ألم يكن من حقها أن تعرف أنها لعصور عدة توجت على عرش من النجوم وأنها تسامت في محراب الوجود كالأثير المقدس ،،


وأنها فجرت في قلب صغير حياة ما زالت تنبض بين الحين والحين بذكراها


* * *

عبدالله الدوسري
09-03-2007, 04:46 AM
( 8 )



* المقهى *


كل شئ باق كما عهده ،، فتكاد ترف على شفتيه ابتسامة حنان يريد ثغر المراهقة أن يفتر عنها لولا مرارة الماضي وسقم الحاضر ،،


وتراءى لعينيه المكان من بعيد فخفق قلبه بقوة حتى كاد يصم أذنيه ،،


الماضي ملطخ بالعار ،،


مدفون الرأس في الطين من الخجل ،،


دائم الجأر بالشكوى من الخزي والألم ،،


ولكنه كله في كفه وهذا المكان في كفة وحده ،، بل إنه يرجح به ،،


إذ أنه رمزه الحي الباقي على الزمن ،، جمع في تفاصيله وموقعه وذكرياته الخزي متبجحا ً والألم ناطقا ً بالهزيمة مولولة ،،


وإذا كان الماضي أحداثا ً وذكريات هي بطبعها عرضة للتخلخل أو النسيان ،، فهذا المكان يقوم شاهدا ً مجسما ً يكشف مخلخله ويفضح منسيه ،،



وكان كلما تقدم منه خطوة تقهقر عن الحاضر خطوات ،، طاويا ً الزمن على رغم إرادته ،، فطفقت الصور الملتهبة تطارده وهو يجدّ في الفرار منها ،، ولكنه ما إن يتملص من قبضة إحداها حتى يقع في قبضة أخرى ،، مطاردة عنيفة وحشية أثارت في أعماقه بركان الحنق والحقد فواصل السير إلى غايته وهو على أسوأ حال ،،



أخذ يتبع صديقه ويفكر ،، أترى كل شئ كما كان ؟! ،،


لن ألتفت ،،


أي قوة ماكرة تغريني بالنظر ،،


أتعرفني المقاعد إذا التقت عينانا ؟! ،،


إذا بدا منها أنها عرفتني حطمتها ،،


ولكن كيف لها أن تعرفني ؟! ،،


لا المقاعد ولا الطاولات ولا أحد من الجالسين سيعرفني ،،


تركتهم يافعا ً وأعود إليهم جملا ً ذا قرنين ،،


قد نشقى أبد الدهر ثم لا تواتينا القوة على إبادة الحشرات السامة التي لا تنفك تلدغنا !! ،،



دخل مسرعا ً بعض الشئ ،،


متخيلا ً الأشياء وهي تطالعه متسائلة " أين ومتى رأينا هذا الوجه ؟! " ،،


نظر أمامه ،، جامعا ً عزمه على نفض الغبار الخانق عن وجهه ورأسه ولو إلى حين ،، وتشجيعا ً لعزمه فرّ بنفسه بعيدا ً وراح يتأمل ما حوله باستهانة ،، وحدث نفسه قائلا ً " لا تضق بالمكان ،، فلا تزال تعشق نكهته " ،،



نظر إلى الابتسامة الملتصقة بوجه الموظف التي يستقبل بها الزبائن ،، ولكنه مشى إليه في خطوات ثقيلة بطيئة يحاول بها التناغم مع خطوات صديقه ،،


وبالرغم من قلقه وجد أنه يتفحص ذاك الركن باهتمام مطابقا ً بينه وبين صورته المحفوظة في خياله ،،


فألفاه أضيق قليلا ً مما في ذاكرته وقد تغيرت الرسومات على جوانبه ،،


وسرعان ما حجبت الذكريات الحاضر كله ،،



تابع السير حتى وقف لحظات ينصت للصمت وصدره يعلو وينخفض ،،


قال صديقه : ألم أقل لك بأن المقهى سيعجبك ،،



وركبه توتر وضيق ،، فأدرك أنه لم يدخل المكان القديم فحسب ،، ولكنه نكأ جرحا ً متورما ً وغص في قيحه ،،


لم يكن في تلك اللحظة قد أتى حركة أو نطق بكلمة ،،


ومع أنه شعر شعورا ً عميقا ً أليما ً بأن الموقف أشد من أن يحتمل ،، إلا أنه لم يبدر منه ما ينم عن حياة ،،


أي حياة يا مراهق !! ،،


توقف صديقه ليتحدث بهاتفه ،،



أما هو فقد لازم جموده وخرسه ،،


بيد أنه كان متأثرا ً غاية التأثر ،،


وإن لم يتضح نوع التأثر بادئ الأمر بحال يطمئن إليها ،،


ولكنه ،، على دعوة صديقه الطيبة ،، لم يجد رغبة في الحديث معه ،،



أجل ،، أقبل دعوتك شاكرا وأقبّل يداك رحمة وأعدك بأن أستمع لحديثك ،،


فلا تسلني عن الأحزان ،،


يا عزيزي ،، اعتصرني ،، حللني ،،


اشفق ،، اسخر ،،


ولكن دع أسرار القلب ،،


فالأسرار ستظل أسرار ،،



لعله لم يستطع أن ينزع الذكريات المحزنة الناشبة في نفسه كمرض مزمن ،،


ومع أنه وجه إرادته بعزم وتصميم إلى إخلاء المسرح من الماضي في اللحظة الراهنة ليملك فكرة وحكمة القدر ،، إلا أن الماضي المطرود انعكس على صفحة قلبه ظلالا ً قاتمة كثعبان ترك جسد ما بعد أن خلّف وراءه سم يسري ،،


فأدرك لتوه أن في عبارة صديقه البريئة عند دخولهما المقهى أكثر مما أدرك في ماضيه كله !! ،،


الحقيقة المحزنة التي طالما أدمت فؤاده ،،


وهي أن ذلك الحب قد اقتلع من صدره !! ،، وطنت برأسه أنغام أغنية لا يعرف مصدرها " إني رأيتكما معا " ،،



أجل هو لا يتحسر على الحب بقدر ما يتحسر على تلاشيه ،،


ومضى يسائل نفسه ،، متى تنحسر هذه الموجة الطاغية حتى أتبين الطريق إلى هدفي ؟! ،،



قال صديقه : في صباح اليوم عملت بنصيحتك بشأن الأسهم فربحت مبلغا لا بأس به ،،


سكت قليلا ثم أردف : ألا تذكر بأنك قد أخبرتني عن تلك الشركة ؟! ،، المقهى خالي على غير عادته ،،



وقف انتباهه عند الجملة الأخيرة فوجدها غريبة تدعو إلى السخرية والرثاء معا ً ،،


يوجد شئ ،،


وأشياء تذكره صباح مساء بالنظرة المتسلطة والبسمة الساخرة وأحبك يا حياتي ،،


ولكن أي شئ وأي أشياء ؟! ،،



هز كتفيه باستهانة وأمسك بيد صديقه وقال : اللعنة على كل شئ ،،


ثم بصوت مجلجل قال للموظف : أريد كوبا من الموكا البيضاء


* * *

عبدالله الدوسري
10-09-2007, 03:18 AM
( 9 )

* الحديقة المسكونة *

مرارا ً وتكرارا ً يشيرون إلى الحديقة ويقولون لنا محذرين : لا تقتربوا منها فهي مسكونة بالعفاريت !! ،،
الحديقة كانت تقوم في طرف حارتنا القديمة ،، تبدو من بعيد جبلا ً من الخضرة الداكنة متعددة الرؤوس ،،
يقف بجانبها غالبا ً خمس سيارات تمثل طولها ،، وعرضها قريب من ذلك ،،
وقد يعبر سماءها دخان تحمله الرياح من سلسلة المطاعم التي تقع في الشارع الخلفي ،،

ما نوع أشجارها الباسقة ،، وما معنى وجودها في ذلك المكان ،، من الذي زرعها ولأي غرض زرعها ؟! ،،
لا علم لنا ،، ولم يهتم الكبار إلا للأشجار التي تظلل نصف الشارع وسيارتهم ،،

لها سور عتيق يحيط بها وبوابة وحيدة أغلقت بقفل علاه الصدأ ومفتاحه في علم الغيب ،،
وبجانبها شارع ضيق الاتساع اتخذناه ملعبا ً لنا في أوقات النهار ،،
أما إذا رمينا الكرة خلف السور فإننا نتركها خوفا ً من الحديقة المسكونة ،،

وجاوزت الصبا وولجت المراهقة ،، وولعت بهوايات جديدة منها القراءة ،،
وأشرقت على روحي استنارة تحفل بكل جديد وطريف ،، وتطايرت من رأسي ووجداني خرافات كثيرة ،،
ولم أعد آبه بعفاريت الحديقة ولكني لم أستطع التحرر تماما ً من رواسب الخوف الكامنة في أعماقي ،،
وكنت أسير مسافة طويلة فأخلو إلى نفسي في البحر أقرأ وأتأمل أو أدخن سجائر بعيدا ً عن أعين الرقباء ،،
وأومي ببصري من بعيد إلى الحديقة فأبتسم ساخرا ً من ذكرياتي ،، ولكني لم أفكر باجتياز بوابتها ،،

وأضيق بموقفي يوما ً وأتحداه وأطرح على نفسي سؤالا : ألم يأن لك أن تكتشف الحديقة ؟! ،،

بعد حوار غير قصير صممت على الإقدام والتنفيذ ،،
ليكن في العصر والشمس طالعة ،، فالليل على أي حال غير مأمون ،،
تسلقت السور وقفزت داخل الحديقة ،، وقفت عند حافتها مستطلعا ً فرأيت الأشجار الشامخة صفوفا ً منسقة كالطوابير ،، والعشب يغطي أرضها ويكسوها مع العديد من الأكياس والمعلبات الفارغة ،،
وتجاوب في الجو بزقزقة العصافير فبثت في الهواء عزفا ً وطربا ،،
واستأنست بكل شئ فتقدمت غير هياب ،،
لم أصادف إنسانا ً ولكني ثملت بالوحدة والسلام ،،
قلت لنفسي : يا للخسارة ،، ضاع عمر هدرا ،،
سامح الله الذين تصوروا أن تكون الجنة مأوى للعفاريت ،،

ومن ناحية أحد الأركان ترامت إلي ضحكة ،،،
الحق أن قلبي ارتجف ،، ولكن تلاشى خوفي في ثانية ،، لا ريب أنها ضحكة ابن آدم ،،
تفحصت المكان فلمحت حلقة الشبان ،،
وسرعان ما تبين لي أنهم ليسوا بالغرباء ،، جيران أو زملاء بالمدرسة ،،
اتجهت نحوهم ومنذ تلك اللحظة بدأت حياة جديدة يمكن أن أطلق عليها حياة الحديقة ،،

في الإجازة لأسبوعية نمضي الساعات في الحلقة ،، نتكلم ونقرأ وندخن ونتحاور ،،
ومع زقزقة العصافير هبطت أفكار ورؤى ،،
انتقلت الدنيا من حال إلى حال ،، ليس الأمر لهوا ً ولعبا ،، ولا رياضة عقلية تمضي إلى حالها ،،
إنها تشير إلى مسيرة ومغامرة وتجربة محفوفة بكافة الاحتمالات ،،

وكان من عادتي أن أجالس عمي بعد العشاء ،،
منذ تقاعده استقر في أعماق طمأنينة أبدية ونعم بسلام دائم ،،
ولا يخرج عن إطاره إلا إذا أغريناه بشؤوننا المتعددة ،،
ويطيب له أحيانا ً أن يناقشني في دروسي ومتابعة الأحداث التي أرويها والتعليق عليها ،،

ويوما ً ختم حديثه بقوله : ما أكثر العجائب هذه الأيام ،،
فاندفعت أقول له : العجائب لا نهاية لها ،،

فحدجني بنظرة متسائلة ،،
فقلت : إليك بعض الآراء ،،

وتكلمت بإيجاز وتركيز فأنصت إلي ذاهلا ً ثم هتف : أعوذ بالله ،، ليس أصحاب هذه الآراء بآدميين ولكنهم عفاريت

* * *

عبدالله الدوسري
12-05-2007, 12:00 AM
( 10 )

* الخوف *

ثم كان الخوف ،، حلق الشارب واللحية ،، استبدل بالثوب بنطلونا وقميصا ،،
اتخذ طابع الأجنبي كما تؤكد هويته المزورة ،، وتجنب الاختلاط بالناس ما وسعه التجنب ،،
عاوده الخوف من الزوايا والأركان ،، من الظلمة والضوء ،،
من الهواء المشحون بأنفاس الخلق ،،
يحذر نفسه من القضاء والمصادفة وسوء الحظ ،،
فعند ذاك يستقر سهم الموت في قلبه ،، وتتلاشى الحياة في غيبوبة المجهول

قوة القانون صلدة ،، فلم تبق إلا الضربة القاضية ،،
في سبيل الفكر اقتلع شخصه من جذوره ،، من الماء والحيوان والشجر ،،
وتعز عليه الطمأنينة إلا في غيبوبة الأحلام والكوابيس ،،
ومنذ فشل المهمة ونجاحه بالهروب لم يرده اتصال يسكن خوفه ،،
هكذا تتواصل المطاردة دهر بعد دهر ،، تدفعها قوة عمياء حتى قدسيتها تلاشت من قلبه

اذهب والله معك ،، والغربة في بلاد الغربة ،،
حتى في الوطن غربة ،،
قيل له في كل مكان ثمة جهاد وثمة حياة تتدفق وهي مقدسة مثل الموت !! ،،

ثم كان الخوف ،، ولكن لا دوام لحال ،،
الشروق والغروب ،، تلاحم الاعتقادات وتبادل التحيات ،، والتنفس والخفقان ،،
أحلام اليقظة وأحلام المنام ،، كل أولئك من شأنه أن يلطف التوتر ،،
ويستأنس الشوارد ،، ويحل عادة في محل عادة ،،
توهم بأن الأمور ستمضي غدا كما مضيت أمس ،، ثم أليس لكل أجل كتاب ؟! ،،
وأن تستسلم للمقادير أخف من أن تشقى دوما بعذاب الخوف ،،
وأن تعيش يومك خير من أن تعاني هولا لم يجئ بعد ،،

لذلك تمنى أن يكثر من الخروج ويجالس الجيران ويلاطف السكان ،،
من يخطر له أن ينعطف إلى هذه الحارة المنزوية ؟! ،،
من ينقب في صحراء عن حبة رمل مضرجة بالدماء ؟! ،،

إنه سجن بلا قضبان ،، وربما بلا ذنب أيضا سوى أوهام مجهولة وخرافات تصويرية ،،
عليه من الآن فصاعدا أن يحمل جسمه بعد أن حمله عشرين سنة ،،
حيثيات التحقيق والحكم تبلورت في مرثية ساحة خالية إذ تقول لا مفر ،،
سيطول بك الرقاد في الدهاليز،، رؤية الأشياء المألوفة فعالة ولكنها لا تخلق المعجزات ،،
المسكنات والمهدئات والوعود فعالة أيضا في مقاومة النوبات ،،
كيف يعود لعقله ولا شئ في يده غير الخواء ،،
ولكن يبقى الخوف ،،
فغدا أو بعد دهر سيقع في القبضة ،،
وعند ظهور اليأس يختال في أبهة النصر يتعزى عن الماضي بتربص النهاية المحتومة

عبدالله الدوسري
12-10-2007, 04:36 PM
( 11 )

* الصدى *

أخرج المفتاح ،، ولكنه أعاده ودق الجرس ،، فتحت الباب الخادمة ،،
نظرت إليه حتى عرفته فأضاءت عيناها بانتباهة مذهله

سألها : ماما في الداخل ؟! ،،
فأجابت : نعم ،، تفضل ،،

دخل غرفة الجلوس متمهلا ً وبلا صوت وبقلب يزدرد انفعاله بصلابة معهوده ،،
وقف في وسط الغرفة ينظر إليها بتمعن واستطلاع ،،

كانت مسترخية على الكنبة تقرأ في مجله ،،
ولكنها لم ترفع رأسها إليه وكأنها لم تشعر له بوجود .

فقال لنفسه لا تعجب لبرودها فكم قاست وكم عانت ،،
وهي على أي حال منبع المآسي فكيف لا تخلو من روح العنف ،،
وماذا توقعت حينما عدت ؟!

وابتسم ليليّن من قسوة وجهه ،،
ثم تنحنح مبقيا ً على تماسك أعصابه ،،
إنها أشد مما تصور ،،
إنها أقسى من التاريخ الدامي

لكنني عنيد ،، لم آت هنا لأسلم بهزيمة عاجله ،،
توقعت سخطا ً ولعنا ً وبكاء ومرارة ،،
ولكن ليس الصمت والتجاهل

جلس في مواجهتها وقال بصوت حاول جاهدا ً أن يبدو طبيعيا ً : مساء الخير !! ،،

لم ترد ،،
صدمة أشد من الأولى ،،
الماضي بكل مآسيه لن يخفف من قسوة اللطمة ،،

حق أنك آخر من يعجب لقسوة ما ،،
وعليك أن تؤدي حساب سنتين من المقت ،،
الحق أني لم أتوقع مقابلة لطيفه ولكني لم أتصور هذه القدرة على الإعدام

لم يؤثر فيه صمتها وقال :
اسأليني على الأقل عما جاء بي ،،
الغبار لم يعد يطلق والشوك أدمى الأقدام ،،
وأعترف بأن نفسي نازعتني إلى مأوى منسي لأسترد فيه أنفاسي ،،
شعور طبيعي بالحاجة إلى ظل بعد احتراق لعين ،،
وسمعت صدقا ً أو كذبا ً أشياء وأشياء عن غرابة المرأة ،،
ومع أن آخر صورة احتفظت بها منك كانت عابسة باكية لاعنة ،،
إلا أني غامرت بالتجربه !! ،،

لا كلمه ،، لا حركه ،، لا اهتمام ،،

فتابع : أتتوقعين أن أعتذر ؟! ،،
أن أعترف بخطأ ،، أن أعلن الندم ؟!،،
ولكنك تعرفيني ،، لا أدري ما الذي حدث صباح اليوم ،،
كنت في وسط اجتماع هام ،، وإذا بي أغادره وأتصل بك ،،
قالت لي الخادمة بأنك لست على ما يرام فقلت في نفسي ومتى كانت غير ذلك ؟!،،
ولكني أراك في أحسن حال

الجملة الأخيرة غير قابلة للتجاهل إلى ما لا نهاية ،،
سوف تدب حركه ،،
أجل ستنفجر أولا ً في غضب وتصب اللعنات ،،
ثم تلين رويدا ً ،،
وأخيرا ً ستسمع هذه الجدران عتاب !! ،،

وضحك ضحكة قصيرة ميتة وقال :
نحن الاثنان من أصحاب الأنياب والأظافر ،،
ولكني مشوق إلى معرفة النهاية

رفعت رأسها قليلا ً ثم أدارته يمينا ً وشمالا ً عدة مرات لبعث الراحة في رقبتها ،،
ثم عادت إلى قراءة المجلة !! ،،

قال : ما مضى قد مضى ،، لسنا بأول مفترقين ولا آخرهم ،، ولكن ،،،

وركبته رغبة يائسة في المزاح فتابع :
ما رأيك باستدعاء أحدهم ليطردني فتشهدي مباراة في الملاكمة ،،
وضحك عاليا ً ،،
لكنه ضحك وحده

من يدري فلعل حضوري خطأ من أساسه ،،
ولكني مصمم على ألا أندم عليه

قال : أعلم ماذا يقول صمتك ،،
جاء الخائن ،، جاء معذبي ،، جاء أخيرا ،،
ربما شوقي لك هو سبب قدومي ،، أذكر أحيانا يديك الصغيرتين وفمك الدقيق وشعرك القصير ،،
كنت جميلة كما أراك الآن ،، ولكني دائما لا أذكر تفاصيل عينيك ،،
فلم أكن قادرا على النظر فيها طويلا ً ،، لا أدري

ألم تعاهد نفسك على تجنب الذكريات ؟! ،، ولكن كيف ؟! ،،
إنها مستمرة في قتلك ،، وأنت لم تأت لتجلس أمام تمثال من حجر !!

إذن تودين أن أذهب !! ،،
لا أعجب كثيرا ً ولكني أتيت ،،
وهذا جزء لا يتجزأ من الحكاية ،،
ألم تغضبي بما فيه الكفاية ؟! ،،
ألم ترفضي اقتراحي بالارتباط منذ البداية ؟! ،،
ألم تكوني سببا ً مباشرا ً في معرفتي بالأخرى ؟! ،،
ثم لعنتني حتى جف صوتك

تساءلت لماذا تذهب بعدما كان ،،
ولكن لا أحد يعلم بسري سواك ،،
وأنا أؤمن بالغيب إيماني بالقسوة ،،
والوقت قد فات ولكني رأيت رأيا ً آخر ،،
غير أني أود أن أعلم حتام تتعلقين بالصمت ؟! ،،

لا أحد يمكنه المحافظة على بروده كما تفعل ،،
وجهها لا يفصح عن شئ ،،
أنها لا تتجاهل وجودي ولكنها تجهله !! ،،
تجهله بكل معنى الكلمة ،،
إنها لا تسمعني ولا تراني ،،
من أين لها هذه القوة كلها ؟!

ثم صرخ بأعلى صوته :
أهذه طريقتك في العقاب ،،
لا شك أنك تخيلت هذا اللقاء وتمنيت وقوعه وانتظرته طويلا ،،
فأي شيطان دفعني إلى زيارتك يا امرأه

ها هي أنفاسها تتردد قريبة منك ولكنها أبعد من نجم ،،
كالموت غير أنه ينضح بالعذاب ،،
وها هو الصمت وها هو السد !! ،،
فعليك أن تؤول حلمك بنفسك أو سوف يبقى الحلم بلا تأويل

آه ،، فلتعجب بها بقدر ما تحنق عليها ،، ما أصدقها من مُحبه
ثم واصل حديثه :
لا تطرديني دون كلمه ،،
أخبريني إذن أنت عن سبب قدومي ،،
فقد خطر لي وأنا في الطريق شئ تافه وبطريقة غير عادية ،،
وهو أنني لم أكن متعجبا ً من تفاهة هذا الخاطر !! ،،

يا رب السماوات ،،
ها هي تتثاءب مرة أخرى ،،
من الضجر لا من التعب ،،
ولكن طلاء التجاهل سيتقشر عاجلا ً أم آجلا ً ثم يتساقط ،،
والأحزان قد أنضبت في نفسك موارد سخية ،،
ولكني أجلس أمامك بشخصي وشهادة سنين من الحب ،،
وإن يكن حب مفلس أجدب

وقف قائلا ً بصوته الجهوري :
أصغي إلي ،، أنا لم آت عبثا ً ،، وسأذهب أقسى مما جئت ،،
ولكن الساقية تدور ولا تحمل من باطن الأرض إلا العلقم ،،
كم من نساء عبثن بي وأخريات قبلن قدمي ،،
وكان أن ضجرت ،، ضجرت حتى الموت ،،
ولكننا نكره الكلمات الطيبة ولا نصدقها ،،
وإذن فلتمض القافلة مثيرة للغبار ولرشاش الدم ،،
وقد تمادى بي الضجر حتى وقعت ،،
وبعد سنتين من النسيان ذكرني الضجر بك ،،
ماذا أريد ؟! ،، أن أرجع إليك ؟! ،، ولكن ماذا وراء ذلك ؟! ،،

ونحن نخجل من العواطف ونتباهى بالكلمات ،،
لا شئ سوى الشماتة ،،
ولست أصدق الواقع ولكني لم أجد مفرا ً من تصديق الألم ،،
فربما كان ذلك الضجر هو ألم ،، ألم الضمير

فسمع صوت كالصدى يردد :
ثمة آلام أعنف من ترف الضمير !!

انتفض كمن يفيق من حلم ،، وانتبه لنفسه ،،
نظر فيما حوله بذهول فوجد أن جميع الأشخاص في الاجتماع قد علت أصواتهم بالنقاش غير حافلين به

عبدالله الدوسري
02-06-2008, 09:52 PM
( 12 )

* شمسي *

" اللهم بارك لهما ،، وبارك عليهما ،، واجمع بينهما في خير " ،،
مشيت في خطى بطيئة متأملا ً فيما أمامي بعينين لا تريان شيئا ً ،، وعلت شفتي ابتسامة مريرة ،، وقد بدا لي كل شئ غريبا ً كئيبا ً يذيب النفس حسرات ،،
يخفق قلبي بعنف لسماع عبارات التهنئة وترديدي لكلمات الشكر والترحيب ،، كمن يسمع شيئا ً عظيما رهيبا يثير في الوجدان مكامن الشجن ويستدعي ذكريات قائمة موجعة الصدى ،،


لم تخلق هذه الليلة للحزن بل ليمتلئ الجو برنين الضحكات ووميض الأمنيات وإيماءات السعادة ،، وأنا سعيد أكاد أختنق بالفرح ،، وقد تم الهدم وبقيت الأنقاض رغم كل شئ ،، تجلى القلب مساحة في الفضاء خالية من أي معنى وبلا رموز ،، ورحت أقلب ناظري في الناس والأشياء كأني أبحث عن شئ أو لا أدري شيئا ،، أيا صغيرتي ،، لقد بدا لي العالم أكثر جمالا ً لأنك فيه ،، وبدت الحياة أكثر واقعية لأنك شمسها ،، وسينقضي الباقي من العمر بلا شروق لأنك ستنيرين أرضا أخرى

* * *

وجدت في تلك اللحظة رغبة خفية قاهرة في الفرار إلى الأمس ،، إلى تلك الفترة التي تبدو فيها الحياة كقطعة من العجين في يد الخيال يعبث بها كما يشاء ويصنع منها ما يملي عليه هواه بعيدا ً عن قساوة الواقع ،، ولكن هل ثمة طعم للدنيا في حواسي الآن ،،
ماتت رفيقة الدرب فاصطدم العمر بأحداث مروعة ،، وتركت بين يدي زهرة يانعة لم تتجاوز الخامسة ،، فهل ينتهي كل شئ الليلة كما ينتهي الحلم الجميل ،، ينتهي في لحظة قصيرة كأنه لم يدم أيام وسنين ،،


ها هي صغيرتي ووجهها الذي كست الشمس حمرته كأنها غمسته في الشفق ،، كنور الفجر الحالم وقد اكتسى بحلة فضية من ضوء الصباح المنير ،،

بدأ مخي وأنا أستمع لصوت ذكرياتنا يسخن ،، وترتفع حرارته حتى بدأ يفرز عرقا ً داخلياً غزيرا ً على هيئة رذاذ من الأفكار المتلاحقة ،، وصلني القلق على ليال مرضها أو امتحاناتها ،، وركضت بي جوارح الحنان من براءة طفولتها إلى شبابها المرح ،، فرحت أهيم محمولا ً على أكتاف أحلام اليقظة ،، ليت شعري كيف يكون وجودي بعد ذلك إذا خلا من ضحكاتها وأحاديثها وعذوبتها ،، ولكن وا أسفاه ،، إن انقضاء الليل ينسي قطر الندى ،، وللحياة جلبة تبتلع همسات الضمير والوحدة ،،

* * *

وها هو ابن أختي يتبختر كأنما امتلك الأرض ومن عليها ،، فليحفظكما المولى ،، ولكن تجتاحني رغبة لا تقاوم بلكمه !!،،
جاء لزيارتنا قبل أسبوعين ،، أخذا يترامقان بنظرات أعلم ما وراءها ،،
ابتسمت وأنا أضع فنجان الشاي وقلت : ماذا وراءكما ؟! ،،
قالت بسرعة ولوهجه : أبي لدينا رجاء بأن توافق على أن تعيش معنا ،،
فقال : أجل يا خالي ،، فلا أريد أن أكون سببا في فراقكما ،،
استجمعت قواي لأقبض دمع قلبي ،، ما أكرمك يا عزيزي ،،
ولكني قلت بمرح : قراري في ذلك لا رجعة فيه ،، لديكما حياة لتعيشا أيامها في بيتكما الخاص بعيدا عن ظل ثقيل لعجوز مثلي ،،
فقالت : أبي !! ،،
قاطعها قائلا : يجب أن نحترم رغبته ،، وقد وعدنا بالزيارة دائما ،،
فقلت بصوت خافت ومدمع محبوس : أتمنى لكما حياة سعيدة ،،

يا إلهي كيف نمت تلك الليلة ،،
كنت لا أنام إلا حين أراها نائمه – أو متظاهرة بالنوم – فأصبحت هي تقوم بذلك معي ،، يا عزيزتي لمَ كبرنا ؟! ،،

* * *

وتبعتها عيناي حتى غيبها باب السيارة المبهرجة ،، ثم عادتا تنظران إلى الأشياء المحيطة نظرة ذاهلة لا تعي التفاصيل ،، فأحسست إحساسا ً غامضا ً بالسمرة التي أخذت تشوب الكون والسكون الساري في مفاصلي ،،
وصافحني العريس بسعادة وقبّل رأسي ،، شددت قبضتي ونظرت إليه طويلا ولم أدعه يسترجع يده بسرعة

عبدالله الدوسري
12-10-2008, 01:54 PM
( 13 )

* موظف *

أن يمر يومك بلا جديد ،، فلا جديد في ذلك ،، وفي ذلك حلم يستحق أن تعيشه ،، أن تحبك السماء فتنتظر شروق الشمس وما تدري إلا والصباح الغائب المفتقد يهل عليك بفرحة مباغته ،،
ذلك لن يصبح بالحدوث وأنت مدينا لوظيفة ما بامتلاكك ،، تبدل زيك من شرطي إلى شرطة أو تنفض أحلامك من مدرس إلى مدرسة ،، كلها أمثله ،، بأن تصبح معرّف دون أداة تعريف تبين تفاصيل ذاتك ،، حتى إن قسوت على نفسك فلن يعيدك التاريخ إلى شخصيتك المجهولة ،،

تسمع اسمك يتردد ،، لا تدري كيف تردد ولا من كان أول ناطق به ،، تقتنص من قميص الليل رائحة حبيبة ولا تمانع إن تملق غيرك المنصب وسابقته بكساء السموم ،، غير مشفوع بـ يا حضرة المسئول ولم تناغيه أيا حبيبي ،،
تنصت ،، وتختلس من وجوه زملائك النظرات وتكاد تلمس المعاناة والذهول وراء الأقنعة ،، وممكن أن تقول بأن الحياة استعادت روتينها اليومي مع أوامر رؤسائك ولكنها في الواقع فقدت قدرا لا يستهان به من صميم مرءوسيك ،، فاستكنّ إلى الكرسي وراء مكتبك المشترك ،، وأسدل ستار كثيف على فترة أيام مجهولة مضت كسر ٍ مثير تحوم حوله الأسئلة وترتد خائبة ،،

وتلوح بشرى كالحلم باقتراب الترقيات ،، ورغم المرح والأحاديث انتشر الحذر في الجو مثل رائحة غريبة مجهولة المصدر ،، تحمل كل نكتة بأكثر من معنى وكل إشارة أكثر من مغزى وكل نظرة التبست فيها البراءة بالتوجس ،، أجل في ذلك ما يكفي ،، في زمن القوى المجهولة والجواسيس التي يعرفها الهواء وعلاقة الأشباح بالنهار ،، فقل لنفسك مستعيذا من مؤهلاتك أن الديناصورات استأثرت بالأرض ملايين السنين ثم هلكت في ساعة من الزمان ،، في صراع الوجود والعدم فلم يبق منها اليوم إلا هيكل ،،
انتظر ،، وتخيّل وتذكر ملاعب الرومان ومحاكم التفتيش وجنون الأباطرة ،، تذكر سير المجرمين وملاحم العذاب وبراكين القلوب السود ومعارك الغابات ،، وعندما يلفك الظلام أو تسكرك القوة وتطربك بنشوة تقليد الآلهة ،، فلا تستيقظ وفي أعماقك تراث وحشي يبعث فيك العصور السائدة ،، لا تنسى بأنك موظف

عبدالله الدوسري
02-13-2009, 12:30 AM
( 14 )

مواويل العالم الأخضر


قام مسرعا وفتح البوابة وتابع دخول السيارة التي لا يبين ما بداخلها ،، وأخذ يرقبها مبتعدة بلوحتها الخضراء والرقم 57 الذي تحمله ،،
عاد إلى رفاقه وسمرهم إلى منتصف هدأت الأصوت في الخارج ،، خرج ليطمئن متشاغلا باشعال سيجارة ،، داس عقبها وهو يلقي آخر نظرة ثم عاد إلى رفاقه وأغلق باب الحجرة بإحكام وقال : كل شئ هادئ ،،
قال أحدهم : تأخر اللعين " جون " هذه الليلة ،،
فقال آخر وهو يخرج حزمة مخبأة تحت الجدار : دعنا منه فلا وقت لدينا ،،
ثم راح يفتح الحزمة الملفوفة بعناية ويخرج مجموعة من الأوراق قائلا : لقد تأخرتْ هذا الشهر ،، "ناظم" هل تأكدت جيدا من الحركة خارجا ،،
فقال ناظم وهو يجلس بجانبه : أجل أجل ،، ابدأ بالقراءة فكل شئ على ما يرام ،،
وراح الجميع ينصت ،،

بينما تابعت السيارة التي تحمل الرقم 57 سيرها بعد تجاوز آخر نقطة للحراسة سالكة الطريق الطويل إلى الحي الكبير الراقي ،، أخذت تتلوى وتتعرج وتصعد وتهبط بين الربى الخضراء تغطيها الغابات بأشجارها الباسقة وأحواض الورد الزاهية بالألوان والعطور المتداخله في انسجام بديع ثم حقول الأزهار وتلال النباتات النادرة بأشكالها الجميلة التي ترسم شعار المنطقة عند النظر إليها من الأعلى ،، لوحة للطبيعة كأحلى ما تكون الطبيعة حين تلمسها أصابع فنان يعرف ما يفعل ويفهم العلاقة بين حساسية الإنسان وحيوية الطبيعة ،،
قال السيد جون وهو يغلق هاتفه : "علي" أريدك غدا أن تذهب إلى الإدارة العامة لكي تحضر طردا من العاصمة ،،
التفت علي من المقعد الأمامي قائلا : حسنا سيدي ،، هل وصل بيانو السيدة الذي كانت تنتظره ؟! ،،
فقال باقتضاب : أجل ،،

وقفت السيارة الخاصة بضابط الاستخبارات الكبير أمام بيته الفاخر ،، نزل مرافقه علي بسرعة وفتح الباب له وناوله معطفه وحقيبته ،، وتابعه وهو يصعد السلم بخطواته المتثاقلة ،، ثم عاد إلى السيارة متجاهلا نظرات الحنق الصامته المطبوعة على وجوه الحراس المنتشرين من باب البيت حتى أسواره العالية ،،
كان علي مكروها من الجميع ومصب لعناتهم ،، كانوا يكرهونه أكثر من السيد جون نفسه ،، كيف وهو ربيبهم الذي أتم تعليمه في أرقى جامعات العاصمة ثم عمل في عدة وظائف قبل أن يحظى بوظيفة مساعد ومرافق اهم الشخصيات بالمنطقة فلا يخطو خطوة ولا يقدم على شئ إلا مع "علي" وترتيباته ،، ولذلك كان عدو الجميع اللدود ،،

صرخ السيد جون في وجه الخادمة : أين ذهبتْ ؟! ،،
فأجابته بصوت خفيض وهو ترتعد : خرجت منذ وقت طويل لا أدري إلى أين سيدي ،،
أشار بيده لكي تنصرف محاولا الاحتفاظ بهدوءه ،، تناول هاتفه وقام باتصال سريع ،،
- هل وصلت ؟! ،،
- لا يا سيدي ،،
- أريدك أن تعود بسرعة لكي نحضرها ،،
- هل تعرف أين ذهبت ؟! ،،
- وأين ستكون برأيك ،، فهي لا تتغير ،،
- سأصل إليك بعد خمس دقائق ،،

أشار إلى مرافقه قائلا : ها هي ترقص وسط تلك المجموعة ،،
فقال : لا عليك سيدي ،،
وذهب بخطواته الرشيقة مخترقا رواد الحانة من الموظفين والضباط والساقطات ،، حتى وقف أمامها متجاهلا كلمات الرجل الذي كانت تراقصه ،،
صرخت : ماذا تريد هل أرسلك ؟! ،،
فقال بهدوء : لنذهب فقد تأخر الوقت ،،
فقالت وهي لا تكاد أن تثبت من السكر : سأبقى قليلا بعد ،،
قال بهدوءه المعهود : سأحملك إذا لزم الأمر ،،
فقالت وهي تضحك بدلال : إلى أين ؟! ،، إذا كنت تعني لغرفة نومي فسأسابقك إلى هناك ،،
فحملها بسرعة صاما أذنيه عن صراخها واحتجاجات من كانت تراقصهم ولم يتقف إلا أمام السيارة في الخارج ،، ولم يتوقف صرخها إلا بعدما قال زوجها وهو يفتح الباب : اصعدي ،،
أخذت تستمع إلى حديثه المتكرر صامته متكروه على نفسها في آخر المقعد لا تنظر إلا لجانب وجه "علي" الأيسر وهو يتابع الطريق ويأمر السائق بجانبه أن يزيد من سرعته ،،

في اليوم التالي وقف ناظم يتحدث إلى مجموعة من الحراس ،،
قال له أحدهم : هل سمعت عن تلك المواويل ؟! ،،
فقال ناظم : كلا لم أسمع بها ،، ولكن اخفض صوتك ،،
واصل حديثه : يقولون بأنها مكتوبة بعدة لغات ،،
فقال بسرعه : ألا تريد أن تخفض صوتك ،، حسنا وماذا سمعت أيضا ؟! ،،
قال الآخر وهو يخفض صوته : لا أدري ،، ولكنهم يقولون أن ما بها يبعث إلى الأمل ،،
ثم وقف الاثنان بسرعة وهما يشدان على سلاحهما عند مرور سيارة رسمية ،، وعندما ابتعت السيارة ،، امسك كاظم بكتف رفيقه وقال بصوت لا يكاد يسمع : إذا كنت تريد ان تعرف ما بها تعال في منتصف الليلة هنا ،،
فقال : هل تعرف عنها شئ ،، أخبرني ،،
أشار إليه بالسكوت وقال : تعال الليلة فقط ولا تخبر أحدا بذلك ،،

وفي مركز القيادة كان جون يتحدث في هاتفه وعلي يجلس بمقابلته ،، كان مركز القيادة يتوسط المنطقة في أكبر شوارعها ويعتبر أهم مكان للتواصل مع العاصمة ،، هذا الشارع الذي لا يصله المرء إلا بعد تجاوزه لعدة نقاط للتفتيش ان استطاع تجاوز البوابة الكبيرة الخارجية والأسوار العالية المرصعة بالنجوم ،،
قال : سنذهب إلى المنطقة رقم 61 ،،
وثب الفرح إلى حلقه ولكنه كتمه وارتفع منكباه بحركة عكسية كأنما ليخفي موافقته وقال : كنا هنالك قبل شهر ،،
فقال : أجل ،، ولكن وردتنا معلومات علينا التحقق منها ،،
صمت قليلا ثم قال : هل سترافقنا السيدة ؟! ،،
فقال : كلا ،، باتت سعيدة بالبيانو مما يريحني من مشاكلها ،،
قال : حسنا ،، هل نجهز الطائرة ؟! ،،
فقال : أجل ،،

وفي الطائرة جلس علي في مكانه المعتاد في مواجهة رئيسة وكل وقت ينظر إلى الخارج يقاوم رغبة جامحة للقفز يشعلها الحنين ،، وأخذ يجيبه على أسئلته واستفسارته إلى أن وصلا إلى مكان الهبوط وعدة أشخاص كانوا بانتظارهم ،،

وبعد الاجتماع الطويل مع المسئولين تسلل إلى الخارج عندما ذهب جون للقاء القائد العام ،، راح يمشي إلى ان وصل إلى البوابة الكبيرة ونفس النظرات الحانقة الصامته تقابله في الوجوه ،، توجه إلى أفقر الأحياء وأقدمها ،، فلا تكاد المناظر تتغير خارج المناطق التي يعمل فيها ،، نفس المخيمات والسحن المستسلمة ولم تكن المساكن إلا خيم أو بيوت من الصفيح ،، توغل في الأزقة وهو يلتقت كل حين خلفه ليتأكد أن لا أحدا خلفه إلى وصل لبيت خرب قديم من الطين بابه يستند على جدار متهدم ،، دخل إلى غرفة مظلمة وفتح بابا صغيرا يتوسطها ونزل بهدوء إلى سرداب ضيقه قاده لغرفة أخرى تحت بيت آخر ،، تحسس الجدار إلى أن وصل إلى مصباح من الغاز قام باشعاله ،، نظر إلى الغرفة الخالية إلا من صندوق في أحد أركانها وراح في بكاء طويل ،، ثم جلس على الأرض وفتح الصندوق وأخرج بعض الأوراق وأخذ يكتب ،،

عبدالله الدوسري
02-23-2009, 10:03 PM
( 15 )
الكرسي



جلس على الكرسي وابتسم معلنا امتنانه ،، تأزم من حوله بتوتر خفي ،، وتضاربت شعارات المجاملة مع الانفعالات العدوانية الباطنية ،، فنسي أن يمر للسلام على أمه وتوجه من فوره إلى الباب وأخذ ينظر إلى الشارع ،،

أما الأب الصامت فنظر إلى ولديه الآخرين وقال : عملت جاهدا هذا الشهر لأحصل عليه ،، سيأتي الدور عليكما قريبا ،،
فقال الصغير محتجا : دائما تعدنا وتتأخر ،، لا أريد سوى إكمال لعبتي ،،
وقال الآخر : أريد أن أرى أمي ،،
نظر إليهما الأب قليلا وغادر الغرفة وسارع بالرجوع إلى عمله ،،

بعد تقاعده من حراسة المدرسة أمّن له أحد معارفه وظيفة أخرى لخدمة مدير مستشفى ،، يحضر له القهوة في الصباح ويشتري له احتياجات بيته ويعود لكي يصنع له كوب الشاي الذي يفضله من يديه ،، تزوج ابنة عمه المريضة راضيا ،، وراضيا عن وراثة أبناءه بالشلل على أعمار متفاوتة ،، فالأكبر عند السادسة والآخران عند الرابعة والثالثة مما جعلهم مساجين في إحدى الغرفتين للبيت الصغير ،،

مرق بجوار ابنه الذي يسد كرسيه الباب قائلا : سأعود متأخرا بالغداء ،،
لم يرد عليه فقد كان مأخوذا بمنظر الشارع ،، يستبشر خيرا فأي شئ خير مما هو فيه ،، ومن السخرية أن أحلامه لا تتعثر إلا بما يشاهده ،، كما أن سنته الأولى بالمدرسة قد ماتت قبل أن تمتد يدا لتقتلها ،،
تورد الأفق أمامه وهو يتأرجح على الكرسي المدولب ،،
فما أكثر الأشياء التي تعذب الإنسان ،، ليته يستطيع الخلاص ولكنه يجد فيها ما يجد المقرور من المدفأة ،، لم لا يبقى في المزاودة إلا الأشياء التافهة ؟! ،، ينزع الخيال إلى الواقع المر فيتولاه عجب ساحر ،، تضفي عليه النوازع نسيجا رقيقا من الفتنة والقهر ،، سحر الأقدار المسيطر على المصائر ،،

قال الصغير : متى سيحين دورنا برأيك ؟! ،،
فقال أخيه : أنتظر ذلك ،، اشتقت لأمي ،،
قال : وأنا لعبتي في غرفة أمي ،، اسمع هل تعرف مكان المنوم الذي يأخذه أبي ؟! ،،
فأجاب : أجل ،، لماذا ؟! ،،
فقال : سيتأخر بالغداء اليوم كعادته ولن يلبث طويلا حتى يعيد الكرسي ،، أرى بأن نضع المخدر لأخيك حينها ،،
نظر إليه وقال : أنت مجنون ،،
فأكمل : هل رأيته وهو يمضي متبخترا صاما أذنيه عنا ؟! ،، ثم ان الأمر لن يتجاوز الساعات حتى يعيد أباك الكرسي ،،
قال : أمي كانت تستطيع السير حين زواجها من أبي ،، فهل برأيك سنسير ذات يوم ؟! ،،
فقال بسرعة : ربما ،، ولكنك لم تجب على خطتي !! ،،

عاد الأب لعمله محشورا في الحافلة ،، وما يحنقه حقا أنه يجد في تذمر من حوله إجابات جاهزة وحاسمة ،، وما يشغل غضبه أكثر وأكثر أنها دائما ما تريحه ،،
فها هو الجالس بجانبه يقول : هل قرأت عن التغيير الوزاري الجديد ؟! ،،
فقال متعجبا : كلا ،،
وعندما دخل إلى عمله لاهثا ،، قال له المدير : لماذا تأخرت ؟! ،،

عبدالله الدوسري
02-04-2010, 01:23 AM
قالت له زوجته وهو يهم بالخروج : خذ هذه الأشياء معك يا عزيزي ،،
حمل الأكياس وحاول أن ينزل ابنته الصغيرة التي كانت معتلية ظهره ،، وأبت أن توصل قدميها الأرض إلا بعد أخذ وعد منه بشراء لعبة لها ،،

فمنذ يومان كان يذهب إلى مكان جمع التبرعات ،،
يضع ما يحمله ويساعد قليلا لضيق وقته وللفوضى العارمة ،،
سار بسيارته حتى أوقفها أمام المركز وهو يبتسم لوعد صغيرته ،،
فاجأته فتاة تقول : هلا أخذتني معك ؟! ،،
نظر إليها متعجبا فأردفت : أنت ذاهب إلى هناك صح ؟! ،، يجب أن أتواجد هناك على الفور وأبي سيتأخر كثيرا حتى يقلني فخذني معك ،،
قال : لا مانع لدي ولكن إلى أين ؟! ،،
أجابت بعد ركوبها في السيارة : إلى الحي المنكوب بالطبع ،،

كان يحاول جاهدا ألا يذهب إلى هناك ،،
فبيته بعيدا عن ذلك الحي كما أنه لم ينساق إلى المشاركة بالتبرعات إلا بعد إلحاح زوجته ،،
وصلا إلى الحي فغادرته بسرعة وهي تقول : شكرا ،،

نظر بذهول فيم حوله ،،
أضواء سيارات الأمن ،،
وجموع تتحرك بجنون ،،
الكل يصرخ حتى ازدحمت برأسه أشياء لم يفهمها ،،
لم يفق إلا على طرق رجل الأمن على نافذته قائلا : تحرك ،،

سار على قدميه رافعا طرف ثوبه فوق الطين والمياه الآسنة ،، نظر إلى السيارات المعانقة لصفوف الدكاكين وبقايا الإسفلت الذي راح كما تتقشر الفاكهة ،،
واشتد ذهوله عندما سمع حديث رجل لآخر بأن ابنه مفقود ويظن بأنه في الحفرة خلف التل ،، والآخر يتمتم له بكلام لم يفهمه ،، حتى مر من جانبهما ،،
فأمسك بعنقه قائلا : هلا أنقذت ابني ؟! ،، هو جثة هامدة الآن أعلم ،، ولكن أريد أن أراه ،،
تلعثم وقال : أين ؟! ،،
فقال : هناك خلف هذه التلله هم يظنون بأن السيل لم يجرف ما به إلى هناك ولكني بحثت في كل مكان ولم أجده ،،
طمأنه بما استطاع وتابع سيره ،، وجد أنه أمام حفرة طينية كبيرة خلف التل ،، نزل على مهل حتى بلغها فغاصت ساقاه في الطين ،، تذكر حديث زوجته عن المشاركة والمواطنة فاستعذب الغوص بالطين أكثر نكاية بها ،،
كجامع لأحلام ضائعة ،، وتقفز برأسه الأسئلة ولا تجد الإجابات الآنية في زوايا المحال المحال أو على الأرصفة ،، تصوغها الأحلام المشروعة والمحفوظات المبتذلة ،،
توقف حينما اصطدمت قدمه بجسم صلب ،، فأدخل يديه فتبين بأن ما أمامه ما هو إلا صندوق ،، نظر حوله فشاهد رافعة ضخمة تجوب المكان ،، فأشار إلى سائقها بأن هنالك ما سيحمله ،،
وقف أماهم صندوقه الذي رُفع خلف التل ،، والتفت حوله وإذا بالرجل لا يزال يعترض المارة ويستنجد لابنه ،، حاول أن يرفع الصندوق فلم يستطع حتى شاهد الفتاة التي قدمت معه ،، أشار إليها فأتته مسرعة ،،
قال : هذا الصندوق ،،
فقاطعته قائلة : هل تريد من يساعدك على حمله ؟! ،، سنساعدك لا عليك ،،
وبصوت مرتفع قالت : أبي تعال إلى هنا ،، هذا هو الرجل الذي جئت معه ،، فلا تقلق ،،
وبلا مشقة تذكر وجد بأن حمله في سيارته بجانب الأكياس التي حملها من بيته ،، وألقى نظرة أخيرة قبل أن يغلق صندوق سيارته ،، فإذا به ضخم لا شبيه له إلا تابوت ،، أدخل رأسه وفتحه ليبصر وهج ذهب خالص وزكمت أنفه رائحة منتنة نافذة لحواسه ،، ولم يتابع ذهوله حتى وضع ما يحمله تحت السلم في بيته

* * *

قال صديقه : يا صديقي ما يحدث هو حصيلة وراث بيولوجي للإنسان تجعله قالبا بغريزته أو ناهبا بطبيعته ،،
تذكر الصندوق في بيته ولكنه قال : أنت تحكم على مجتمع بأكمله ،،
قاطعه قائلا : بل أنت محكوم من فوقك ومن تحتك بنهر عظيم يصب في بحر أعظم ،، وما أنت إلا ما تخلفه دلتا ً لا تظهر في الخارطة !! ،، كما هي حصيلة عالم تلعب فيه الفوضى المفبركة دورا رئيسيا ينشأ من انفجار كبير وينتهي بوفاة وانهيار وتحلل ،، فهل تذكر قصة علي بابا والأربعون حرامي ؟! ،، فلمن استنصرت بجهلك ؟! ،،
قال : ولكن الإنسان قادر بوعيه أن يتجنب الحروب مثلا ،، كما أثبت تكيفه على مر العصور ،، ولو غيبت المبادئ والأخلاق فخشية الخالق باقية ،،
فقال : اسكت فالحديث في ذلك عقيم ،، ثم أني تأخرت عن سهرتي الأسبوعية ،، هل سترافقني ؟! ،،
أجاب : تعلم بأننا نختلف كثيرا وفي هذا الأمر أكثر ،،
هز كتفيه وقال : حدثني عن عملكم التطوعي ،، يقال بأن هنالك جميلات يسرن فوق الطين ،،
ابتسم قائلا : هل هذا ما يهمك ؟! ،، لو تأتي معي اليوم فسوف ترى بنفسك ،،
ثم أردف بصوت هامس : لقد وجدت شيئا سأخبرك عنه ،،

* * *

فلم يعد الوطن يحتضن مشتغلين جدد بالفكر من خارج نظامه وتوجهاته ،، فلا يتيح لهم على الأقل الإسهام معه بإنتاج مفهوم آخر للعقل الإنساني التحولي ،، فهذا هو لب المجتمع ،، عقل طامع للتحرر من قيود المكان ليضرب في حدود الزوايا والأزمنة ،، مبلورا حداثة مغايرة ،، مختلفة ،، ومتجلية بإبداع فاحص ،، ناقد ،، ومستوعب لكل ما لا يفهمه أو يلتبس عليه ،، ويجتهد بالتالي لجعله مفهوما ،،لذلك غادر صديقه وفي رأسه ثقب يحاول لجعل الريش يليق بهذا الجنون ،،
أما صديقه فقد ذهب لسهرته حتى آخرها ،، وألقى بسيجارة ملفوفة إلى الفتاة التي أمامه قائلا : ألم أخبرك بأن صديق لي وجد كنزا ،،
فقالت بنبرة ناعسة : كلا لم تخبرني ،،
ضحك قائلا : صندوق ملئ بالذهب عليه نقوش عثمانية قديمة ،،
قالت : أنت تكذب ،،
قال : حسنا لا عليك مما أقول ،،

ولكنها تذكرت حديثه لاحقا في جلسة أخرى ،، حيث تواجد رجل كان على معرفة بصديقة مسئول كبير ،، وعندما وصل الأمر إلى الأكبر منه كان مجرد قطعة ذهبية أخذت من أرض تملكها إدارتها ،، فخاصم إدارات أخرى على أحقيتها ،، حتى صدر القرارات بالمطالبة من كل الجهات ،،

* * *

دخل إلى بيته وقد نسي لعبة ابنته ،، تناساها في حرب الشرعية والفضيلة وبرمجة عقل المجتمع على إيقاع تحريمي مرتاب ،، كيف ارتد العقل من حماسة العقل والانفتاح والإبداع إلى صراعات ومفسدات وكأن التيسير لا شرعية له ،، أصبح العيب أشد جرما من الكبائر والمحرمات المعروفة ومن الباب الآخر توقف نداء من أين لك هذا ،، وكل ذلك في مجتمع حي ومتوهج ومتحرك ،، ولكن ببطء ،، لذلك عاد في تالي يومه ليدفن ما وجده بمكانه

عبدالله الدوسري
05-02-2010, 03:59 AM
( 1 )

شئ ما يسحبني إلى الأرض ،،
أشعر بما حولي دون أن أراه ،،
لا أشعر بالفزع ،، كأنني كنت هنا من قبل ،،
نفس ما شعرت به عندما أصابتني الكره في وجهي وأنا صغير ،،

أرجوكم لا تأخذوني إلى المستشفى ،، غرف الطوارئ لا تنقذ أحدا ،، وحوادث السيارات لا تقع إلا بعد منتصف الليل ،، حين لا يكون هناك إلا طبيب عابس السحنة بملعقة صدئة ،، أنظر إلى أولئك الحمقى ،، لماذا يصرخون ؟! ،، معظم أفراد أسرتي ماتوا كبارا بعدما تجاوزا الخرف بمراحل ،، أنا مجرد فرد آخر لا أستحق كل هذا ،، ها هي ممرضة جميلة رغم كل شئ ،، لا تقلق يا قلبي لن أستسلم ،، فلست مستعدا للرحيل ،،
أشعر أني عائدا لتوي من السفر أحكي لها عن كل ما كان وأستمع للكثير من أحلامها التي لن تكون ،، فالغرفة الماسية ليست نهاية قوس قزح كما مانت تتصور ،،
الكثير من الكبوات والكثير من الوقت الضائع ،، ولكنك خارج الأسوار الآن أحاول البدء من جديد ،،

- أنت تغيرت ،،
- لماذا ؟! ،،
- لم تكن تتحدث هكذا من قبل ،،
- لم يكن شعوري هكذا من قبل ،،

قال لي أحدهم بأنك تستنفد طاقتك ،، ليس بامكانك الركض دائما ،، عليك أن تتوقف أحيانا ،،
لا تستطيع أن تعاند كل شئ فستهزم حتما ،، لن تستقيم وستذهب مع الريح ،،
فأنت لا تثق بمن يحاول تقنين نفسه من الداخل ،، كما أنك لا تستطيع أن تحجب الشمس بغربال ،،

عاهدت الكثيرون بالكثير ولم تبال في صراخهم ،،
أما الآن فحتى الخذلان صعب المنال ،،
ولكنها كتقطيب جرح أو اثنين وسيرون شخص آخر واضح المعالم يولد من جديد ،،

- ما الذي حدث ؟! ،، كانت لديك أحلام لا تحدها آفاق ،،
- أجل ،، ولقد استيقظت الآن ،،
وأخذ يقص عليها كيف أن أبيه اشترى له سيارة أجرة بعدما وعده مرات عديدة بأن يضبط حاله ،،

الشيخ الكبير كان أكثرهم حنوا علي وتعبا مني ،، ولكن حياتي التي لم أعشها أصبحت قريبة بإمكاني أن ألمسها ،،
الحلم لن يتحقق بمفرده ،، عليك أن تسعى إليه ،،
ولكني قد تأخرت عما كانوا يظنون ،،
انتهى النداء الأخير والشمس تغرب ،،
أشعر برعشة خفيفة ،، لن نبتعد عن هنا ،، عن خشونة الليل ،،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــ

( 2 )

عدت مرة أخرى إلى القرية ،، هذه الندبة الجميلة تحت أضلعي ةالتي لا أرغب التخلص منها ،، عدت متأخرا بعد أن ذهبت الشوارع للنوم والمصابيح تتسكع بانتظار الفجر ،، وحدي كالعادة حاملا حقيبتي وجسدي ،، تكومت في السيارة التي تقلني من أقرب مدينة والسائق يقودنا بسرعة الزمان أتدثر بمعطف سميك ،، نظرت للقمر فوق أسطح المنازل وحسبته رغيف خبز قضمه طفل وهرب قد يكون للجوع دور في ذلك ،، جلست ألتقط أنفاسي أمام بوابة البيت الكبير مترددا فمن بالداخل فيما يبدو نيام ،،

غفوت وكل ما أذكره أنني استيقظت مرات عديدة وكأنني أستعجل الصباح لأجد العتمة سائدة وأن خشب السقف يطقطق بحنان يشبه البوح ،، أخيرا أزحت ستارة النافذة بدأت أمامي فروع الأشجار مغمسة بشقوق الضوء الممتد بكسل فضي على الجبل ،، فتحت النافذة فتسرب الهواء إلى عري القلب ،، لا صوت للأشياء هنا فحتى فرشاة الأسنان تروح وتجئ بخفر وحياء ،، تناولت إفطاري مع رجال وشباب العائلة تتخلل قضمات الأكل أحاديث لا تلبث أن تنقطع ،، خرجت ببرودة نائمة والهواء يتمخطر في الطرقات ويهز كتفيه بتعال وما هي إلا لحظات حتى خرجت الشمس بعد فترة من وراء رؤوس الجبال بهيبة دافئة ،،

رغم تعاظم اللوحات الساحرة التي تتصدر القرية كنت أنصت إلى أنفاس الصباح واضعا قدمي على السجاد الترابي الذي يغطي الطرقات أقاوم رغبة تغمرني بالضحك عاليا أو تسلق أكبر شجرة ،، تأملت بعض المزارعين يضرب كل منهم بفأسه وبريق غامض كان يكسو عينيه ،، وبعض الصبية يسيرون بخطى باردة إلى مدرستهم وأكبر منهم كانوا يتجمعون لانتظار السيارة التي ستقلهم إلى القرية المجاورة ،، استوقفني صوت موسيقى منبعث من مذياع مجهول المكان يبث أغنية قديمة كأنها هدنة مؤقتة في سماء المدينة الصاخبة العائد منها ولكنه سرعان ما انطفأ ،، حتى وصلت إلى لوحة علاها الصدأ تكاد تسقط مكتوب عليها عبارات لإنشاء طريق عام يعود تاريخها لعشرون عاما ،،

كانت اللوحة تقف منتصبة كيأس خالد فأحسست بالعجز وأشاء أخرى ،، حبست دمعة قبطان يشهد أفول سفينة تغرق ولا يفعل شيئا سوى التجديف بقارب النجاة ،، حاولت أن أنشغل عن العبارة بتأمل المحلات الصغيرة والبيوت المصبوغة بدهان مميز الألوان ونزيف الأزهار ينمو على الأسوار الحجرية ومن فتحات حقائب التلاميذ الممزقة كالآمال المصطفة على ريف العين ،، كنت أحاول أن أتحاشى تلك اللوحة كأنني أهرب من أيام تفسد نفسها ،، كانت محاولة انشغالي تذكرة الهروب الوحيدة الممكنة من قسوة التجاهل ،، فما أصعب أن تكسب لحظات جميلة في ساعات وتفقدها في لحظة وتتحاشى عيون من حولك كالهارب من ظله ،،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــ




يتبع ،،

عبدالله الدوسري
06-28-2010, 12:13 AM
كان يروق لي اللعب في الشارع الضيق بين مبنى التعليم والحديقة المسورة ،، ومثل جميع الصغار كنت أرنو إلى أشجار السدر بالحديقة ،، أوراقها الصغيرة هي ينابيع الخضرة الوحيدة في حارتنا ،، وثمار النبق البنية مثار الأشواق والأحزان في قلوبنا الغضة ،، وها هي إدارة التعليم مثل قلعة صغيرة تحدق بها الحديقة ،، بوابتها مغلقة عابسة ،، في الليل دائما مغلقة ،، والنوافذ مغلقة فالمبنى كله يغرق في البعد والانطواء والعزلة ،، تمتد أيدينا إلى الأسوار كما تمتد إلى الشمس والقمر ،،
وأحيانا يلوح في الشارع الضيق ذو لحية مرسلة وثوب أسود فنهتف كلنا : عم صابر ،، عم صابر ،،
فيوقف عربته لنشتري منه بليلة أو بطاطا مقلية أو عصير مثلج كل في موعده الموسمي ،، كان يمر مرتان في الظهيرة لكي يدرك موعد خروج المدرسة الابتدائية وفي المساء وهو عائد لطريق بيته ،،

الجميع مولع بصابر ،، كل على رغائبة ،، فالصغار منا لما يقدمه من زيادة فيما نشتريه ،، والأكبر منا أصدقاء لابنه علي - يلقب بـ سملّكه - فكانوا يأخذون ما يشاءون برفقته ،، أما الأكبر منهم فكانوا مولعون ببناته ،، وعلى ذلك كان مجرد لفظ اسمه يحدد الأشقياء والضعفاء بين أبناء الحارة ،، فثمة من يناديه بالعم صابر ومنهم من يكتفي بصابر ،،

- لماذا نقف هنا كثيرا يا أخي ؟! ،،
- سنذهب بعد قليل ،،
ثم بنبرة ذات معنى :
- سأشتري لك آيسكريم من السوبر ماركت ،،
ولكن قلبي مولع بالشارع الضيق والنبق وحدهما ،،

وينهكني اللعب بتسلق الأسوار والأشجار ذات يوم فأجلس على الأرض لأستريح ،، فيصل إلي وقع أقدام وأصوات ميّزت من بينهم سملّكه وحامد ،، حامد من الحارة الأخرى الشرقية ،، معروف بنزقة وجموحة لدى الجميع ،، يتبعه عدد من الصغار ويعتد نفسه زعيما عليهم ،،
تبعت العصابة المكونة من " عشرون " فردا دون أن يشعروا ،، كانوا فيما يبدو يحضرون لمعركة مع حارتنا ،، فاحترت بين مواصلة متابعتهم أو العودة لتنبيه حارتي فاخترت ملاحقتهم ،،
مشيت ورائهم حتى وصلوا إلى ساحة الجفالي ،، فأخذ حامد يتحدث وهو يقرب سملّكة منه :
- أنتما الاثنان ستعبرون من منتصف حارتهم وكأنكم متجهون إلى الحديقة ليطمئنوا لعدم نيتنا مهاجمتهم ،، وسأذهب ومعي سملكة إلى بيتهم لكي نسرق الأكياس أما البقية فسينقسمون إلى قسمين ،، قسم في شرق الحارة وقسم في غربها حتى يحين موعد الهجوم ،،

كانت المعارك بين الحارتين قديمة تتوارثها الأجيال ،، من الخلافات في مباريات كرة القدم إلى المشاجرات الكبيرة الدامية ،، لم يعلم أحد من بدأها ولمن ستكون الغلبة فالحارتين كانتا على نفس القوة والشراسة ،، وفي تلك الليلة قرروا الهجوم - بما يناسب أعمارهم – باستخدام الأكياس البلاستيكية المملوءة بالماء ،، ولا فرق في مصدره إن كان من البحر أو من دورات مياه المسجد ،،

فكرت بوجوب العودة الآن ولكن من طريق آخر حتى لا يروني ،، سلكت طريق ملتو آمن يمر من الشارع العام ويتفرع عبر زقاق ضيق يصل مباشرة إلى الحديقة ،، ركضت إلى هناك فوجدت عربة صابر مركونة بينما هو يتحدث مع شخص آخر لم أتبينه :
- لقد صبرت عليك طويلا ،،
- ،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
- في كل مرة تقول الشهر القادم ،،
- أعلم يا عم صابر ولكني لم أتصرف في البضاعة بعد ،،
- لديك مهلة حتى الأسبوع القادم ،،

انتظرت حتى غادر صابر خلف عربته وتابعت ركضي فوجدت المعركة قد بدأت والحارة غارقة بالصراخ والمياه ،،