منتديات أبعاد أدبية

منتديات أبعاد أدبية (http://www.ab33ad.com/vb/index.php)
-   أبعاد القصة والرواية (http://www.ab33ad.com/vb/forumdisplay.php?f=33)
-   -   ذاكرةُ .. أنف (http://www.ab33ad.com/vb/showthread.php?t=16359)

وشـــاح 02-23-2009 12:37 PM

ذاكرةُ .. أنف
 

على أول خطوات الطفولة وعلى أول خطوات الفجر , حين كنا كـ العصافير تتسابق على الأرض لتحفر و تحصد رزقها ..
كيف أني كنتُ أتوسّط ساحة منزل جدي و أملأ صدري برائحة احتراق الخشب تتبعها نشوة أكبر من حجمي ..

في أيام الشتاء الباردة وحين كانت شوارع مدينتنا ترابية نادراً ما يخلو أنفي من هذه الرائحة , أسأل نفسي عن مصدرها و أبادر الإجابة على نفسي بأن هناك موقد كبير رسى في وسط المدينة يشتعلُ على أول طقطقات ريح الشتاء إلى أن يخمدهُ الله بمطر الربيع , و أن كل مساحة من هذه الأرض لولا هذا الموقد لـ استحالت إلى قطعة ثلج ملساء لا تذوب إلاّ مع حرارة الصيف ..

أذكرُ تماماً ذلك المساء وقبل أن تعصر السماء شمسها حتى تدمي , حين اجتمعنا نحنُ الأطفال كـ عادتنا في ساحة المنزل الواسعة وأخذنا نلعبُ بثقل ملابسنا لعبة الإختباء , ركضتُ حتى آخر نخلة و نوّختُ بها , مع ترقب عيني لعين "زياد" إلاّ أني تناسيتُ وضعي تماماً حين هبّ الهواء وحمل رائحة احتراق الخشب معه , لانت أطرافي واستأنستُ به وجلستُ طويلاً على حالي تحفزني الرائحة لاختراق أيامي بمزاجِ طفل , حتى انتهت اللعبة بعد أن فاتتني وسمعتُ صمتاً جاثماً خرجتُ بخوف أركض إلى داخل المنزل قاصدةً أقرب باب ..


وشـــاح 02-23-2009 12:48 PM


حين التحقتُ بالمدرسة الإبتدائية , لم أكن أشعر بحماس بلوغ مرحلة جديدة من عمري ولم أشأ أن يستمر هذا الوضع , كل فجرٍ تركلني أمي إن عاندتُها و أوغلتُ في نومي , تسحبني سحباً من ملابسي و تضعني أمام أبي الذي مدّ صينيته بصحن الفول و رغيفين من الخبز الأسمر وإبريق الشاي الذي يحبه أكثر من أي شيء آخر , أفتحُ نصف عيني و أغمضها أخرى , رغبة بإمساك الحلم الذي بعثرته أمي بيدها وصراخها ..

أحياناً كثيرة يصلُ عنادي لأن أستغل انشغالها بإخوتي فأركض إلى غرفتي و أغلقُها علي وأوثقُ المفتاح حتى تبقى تزبد و ترعد خارج الغرفة و تضربُ بيدها المذهّبة باب غرفتي حتى أسمعُ جنون الأساورِ بمعصمها وهي تحاول فتحهُ بالمقبض , و أنا التحفُ الصمت و نومي الذي أهربُ معه , لم يكن هذا كسلاً بل خوفٌ و ملل من انتظار القادم المجهول , حين أرى تلك الوجوه المغصوبة تكدُ من أول الصباح و أسمعُ التنهدات تطلقُ بملل مريع , أتيقنُ داخل نفسي أن هذه الحال خارج حدود الطبيعة و أن كل من حولي لايريدون الإستمرار و كأن يداً فوقها سيّرتها إلى ما لا تريد .. لكن سؤالي الذي يتكرر بعد كل مشهد روتيني كئيب " هل سيحدثُ هذا معي كل يوم حتى أستلمُ وثيقة التخرج بفرحة باهتة "
أعفي نفسي من الإجابة لأني الآن أغوص بعمق لذيذ إلى نومٍ لم يكتب له أن يستمر أبعد من مد لحافي , أبي كان يطرقُ الباب طرقاً خفيفاً و يحذرني من مغبة العناد أكثر , أخرجُ و شعر رأسي كـ مكنسة عاثت بها يدا قطٍ ثائر و في عيني بكاء مرير ..

تمشطُ لي أمي شعري بغضب و تتعمدُ سحب رأسي بقوة كعقاب على ما فعلت - وفي يقيني سأفعلها كل يوم حتى يتحرروا بحياتهم من غير إجبار أحد , أو ليتركوني بحياتي أصنعُ ما أريد - , ويجلسُ أبي أمامي يكمل صحن الفول ويقلبُ جريدة يوم أمس , ينظرُ إليّ و أتجاهلهُ و أركض بعيني نحو الأرض , يسألني بلطف " ماذا تريدين أن تكون حشوة فطيرتكِ " - وقد صفّت أمي أمامه أيضاً , علبة جبن سائل و عسل أو مربى و زبدة الفول السوداني و أحياناً طبقُ بيض مقلي - , أنظر بتململ كمن لا يريد الإجابة أبداً , و أقول : " جبن " , ثم أعاود الصمت و مضغ حزني بداخلي ..

رائحة أول قضمة لفطيرة بطعم الجبن و أنا أجلسُ أمامكم الآن تغرسني غرساً لتلك الأيام , رائحة هذا الجبن الذي كنتُ آكله كرهاً كل صباح حين أسير إلى سيارة أبي أو بالخارج و أنا أنتظرُ اكتمال بقية إخوتي , علقتْ بأنفي لأبدٍ بعيد حين لطّختُه و أنا سارحة مع تقافز الطيور حتى جاء منديل أبي يمسحُ عني منظري المضحك , لم يكن يعلم أبي حين ترك لي أنفي نظيفاً من الخارج أن هناك بقعةٌ التصقت بجدار الذاكرة و أخذت تفوح برائحتها التي لم تتغير إلى يومي هذا و أنا أودعُ أبي عند آخر الزقاق إلى الجامعة و أسمع دعاءه حاراً يبهجني ..

ميــرال 02-23-2009 01:32 PM

أحياناً كثيرة يصلُ عنادي لأن أستغل انشغالها بإخوتي فأركض إلى غرفتي و أغلقُها علي وأوثقُ المفتاح حتى تبقى تزبد و ترعد خارج الغرفة و تضربُ بيدها المذهّبة باب غرفتي حتى أسمعُ جنون الأساورِ بمعصمها وهي تحاول فتحهُ بالمقبض



لااعرف بماذا اشعر الآن او بماذا رحلت حين كنت بداخل هذه الذكريات

وشاح
ذاكرة شممت رائحتها
وتمنيت اشياء كثيره

ابدعتِ والله

زهرة زهير 02-23-2009 03:00 PM

"رائعتي"
وشاح ..

قليل جداً ما يلوي عناق إلتفاتي كتابات سرديه ,
إذ أنها تشعرني بــ الملل وهذا خلل في مزاجي الأسود ,,
هذه القاعدة تُشطب حين يتمكن إحساس ما , وقلم يملك أدوات الكتابة ,, من إحضاري إليه !
هذه القطعة أقرب لــ القصة ..
قرأتكِ بــ عقل هدهده قلم
فــ شكراً لــ حرف لفني بــ وشاح المُتعة ,,
واصلي

دمتِ بود ..
أختك ,,
إبتسامة جرح ,,

وشـــاح 02-24-2009 03:00 PM



ميرال
أسعدتـِني
أهلاً بكِ يا عطرٌ سأذكر رائحته

:

زهرة زهير
اسمكِ لا غناة عنه
تعالي و ارسمي الحضور بذاكرتكِ دائماً

.


وشـــاح 02-24-2009 03:04 PM


دخلتُ عليها مطبخها و كانت تفركُ على طاولة خشبية عجيناً بدقيق و تفردهُ و تسوّيه , ثم تبذرُ فوقهُ الزعتز بالسمسم وتصنعُ أشكال نصف قمر , جلستُ أحاكيها و تحاكيني عن جدتي التي قطفتُ سنةً من عمري بجانبها بعيداً عن أهلي , عن حبها للزعتر وكيف أنها تبدعُ الوصفات الشعبية وتقحمُ فيها الزعتز بعد أن ترشهُ بزيت الزيتون وقطرتين أو ثلاثة من عصير الليمون , انتشلني حديثها الذي علمتُ تماماً بيقينه إلى تلك الليلة حين كان الحزنُ يتسلى بجسدي ويفركُ عيني بقليل من الأرق , وجدران غرفتي المتواضعة تسامرني الصمت المخنوق بيد السؤال .. وماذا بعد هذا ؟

هبطتُ عليها في دارها و أنا أحاول تكسير علامة الإستفهام تحت مواطئي بألم يواسي الحنين , سلمتُ بصوتٍ خفيض وآويتُ بجانبها أمعنُ في تطبيق شفتيّ ..
مازحتني بدفء و ناولتني كوب شاي و فطيرة زعتر , أخذتُ الكوب عنها و استلمتُ بيدي الأخرى فطيرتي , اقتسمتُها و وضعتُ النصف بجانبها و ابتَسمَتْ و أكملتْ حديثها الذي يبدو لي أنه كان يخالجها قبل أن تراني و ما إن رأتني فضلت أن يكون مسموعاً مادامت هناك أذن تسمع ..
بدأت بسرد ذكرياتها إلى النقطة التي انتهت عندها من ألم المخاض بأمي التي كبرت قليلاً لتصبح أماً أخرى من غير أن تشعر لجميع أبناء جدتي , تقول هذا وتضحك وتحمدالله أن بكرها بنت , وتشدُ القبضة على يدها - كانت الأحداث في مخيلتها تتوالى بسرعة بينما عيناها عُلّقت بأطراف أصابع قدمها التي تمتدُ بإسترخاء أمامها , وتسمحُ لنفسها بالإستنتاج و التعقيب و ربط الأحداث و تأريخها - و من غير أن تسمح لي باستدراجها بادرت بدعائها للسماء ..
تشابكت الأيدي و وقفتُ بذاكرتي في المنتصف , مدّت لي كلتاهما نصفُ فطيرة زعتر .. أخذتها من جدتي و تمنّعت من أمي ..
أمي لم تكن تدري بأن رائحتها تحملُ لوعة الحنين و لونها الزيتي أشباح غربة ..

صالح الحريري 02-24-2009 03:05 PM




هنا ..
سردٌ شهي ...
أسلوب أدبي متشحاً بلغتكِ يــ وشاح ..!
تمضي وراء وصفكِ عيناي لها وقع خفيف على أرصفة ذاكرتك ...
وأنتِ مبدعة في سرد الحكايات بنمط يجعل منّا عيون متأملة لآخر وصفكِ / نزفكِ ...!!


أنثى ملائكية 02-26-2009 05:16 PM




{ ..
عبقةٌ جدا ذاكرتك بـ رائحة الحنين
وجدتُ هُنا شيئاً عبث بـ ذكرياتي .. وداعب خيوط الرغبة في الإبحار لـ زمن مضى




مُدهشةٌ جداً
لـ قلبكِ السعادة
http://www.alm3na.net/vb/images/smilies/00105.gif

..}





الساعة الآن 06:07 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.