إلى "عَمق"..
مَن علّمتني كيف تُؤكلُ الذكرياتُ على موائدِ اللّيل.
***
على موائدِ اللَّيلِ...
تَتساقطُ الأقنعةُ مثلَ قشورِ الفاكهةِ الفاسدةِ،
وأنا أُمسكُ بِخيطِ الصباحِ البعيدِ
كطفلٍ يُحاولُ إصلاحَ لعبةٍ مُحطَّمةٍ.
الغيابُ يُنعشُ جروحَهُ بِملعقةِ ضوءٍ خجولٍ،
والذكرياتُ تتدفَّقُ كدمعةٍ تأخرت، في كؤوسٍ مُشرَّبةٍ بالوحدةِ.
أَسكبُ صمتي فوقَ صحنِ الوجودِ،
فَيَنبَثِقُ منه مرآةٌ...
أَرَى فيها وجهي مُعلَّقًا كورقةِ توتٍ ذابلة
بينَ صفحاتِ كتابٍ نُسيَ تحتَ المطر.
الليلُ يُعلِّمُني كيفَ أَخيطُ جراحي بِخيطٍ من ضبابٍ،
فأُصبِحُ مثلَ شجرةٍ تَحملُ ثمارَها نُجومًا،
وظلّي يَتمدَّدُ كحكايةٍ لا نهايةَ لها.
حتى الألمُ هنا يُصبِحُ طقوسًا،
كُلُّ وَجعٍ يُشعِلُ قنديلًا في دهاليزِ الروحِ.
الذكرياتُ تَمشي عَلَى أطرافِ الأصابعِ،
تَسرقُ مِنّي اللحظاتِ كَسارقٍ خبيرٍ،
وأنا أُراقبُها من ظلالِ ستارةِ الزمنِ،
كأنني حارسٌ لبستانٍ مهجورٍ من الأيامِ.
على موائدِ اللَّيلِ...
أكتشفُ أنَّ الصبرَ وَهمٌ كبيرٌ،
والانتظارُ مجرَّدُ سُلَّمٍ نَصعدُهُ ببطءٍ،
ثُمَّ نَسقطُ مِن أعلاهُ كَأوراقِ الخريفِ.
الريحُ تَلعَبُ بِشَعري،
والأحلامُ تَجلِسُ أمامي كضيفٍ ثقيلٍ،
يَأكلُ مِن صحني ويَترُكُ لي الفُتاتَ.
ولكن...
في زاويةٍ ما مِن الليلِ،
تَبقى هناكَ كلمةٌ لم تُقالْ،
وَوردةٌ لم تَذبُلْ،
وَقلبٌ ما زالَ يُنادي:
"ربما الغدَ سَيَحمِلُ مائِدَةً جديدةً...".
***
إضاءة:
هذا النص هو بَوْحٌ وُلِدَ مِن رَحِمِ كَلِماتِ "عَمق"...
حينَ تَسلَّلتْ موائدُ ليلِها إلى دَمي،
فَأصبَحَ الوَجْعُ لُغَةً مُشتَرَكَةً،
وَالصَّمْتُ حِكايَةً تَتَكَسَّرُ بَيْنَ يَدَيَّ.
أكتُبُ لَيسَ كَمَنْ يَسرِقُ الظِّلَّ،
بَلْ كَمَنْ يَرْكَعُ أمامَ المِشْكَاةِ...
يَستأذنُ النارَ كَي يُضيءَ.