عندما قرأت هذا الـ متصفحَ في لحظةِ إدخالهِ الأولى ونشرهِ، تبادرَت إلى ذهني ومضةُ تكثيفِ الحدثِ عبر رؤيةِ الكاتبْ واللتي تقودُ دونَ شكٍّ إلى الخروجْ بــ حل لمشكلةِ التدرج المنطقي في القصة.
لو أخذنا عيناتٍ مما وردَ في هذه القصة لـ وجدنا أن الكاتبة ألقَت الضوءْ على أكثر من قضيّة داخل قصةٍ قصيرة، وهو ما استفزني لقراءتها مرات عديدة إضافةً إلى تمكنها المزجَ بين كل هذه الرؤى بـ طريقة فنية غير متكلفه ومميزة.
بداية القصة:
" بحزنٍ يهزُّ القلبَ وينزعُ الروحَ تجاهَ الوطن ، كنتُ ألملمُ أشيائي وأودعها في حقائب باردةٍ ربما لنْ تحتمِلَها ، غير أنّي وعدتُها بأنها ستكونُ أكثرَ دِفئاً في خِزانَتي القديمةِ والتي كنتُ آملُ بأنها ماتزالُ شامخة تستنِدُ على جِدارِ غُرفتي الصغيرةِ فِي شقتنا التي أقفلناها منذُ سنينَ طويلةٍ على أملِ العودةِ حين انتهاءِ الحرب "
في هذا المدخَل نجدْ تجلياً واضحاً في إرادة الكاتبه الدخول في التفاصيل بـ سرعة جداً وبإمتزاج واضح المعالم يقود للغربة النفسية والواقعية كـ نتيجة حتمية لإهتزاز القلب والرحيل والأمل المفقودْ وتأمل التطلع ولو بعدَ حينْ.
.
ثم تنتقِل الكاتبة بـ ومضة أخرى في نفس المدخَل قائلةً:
"فقد غَرِقنَا في تِلك المدينةِ ولم نَجد طوقَ النجاةِ إلا مؤخراً ، بل لم أجد " أنا " ذلك الطوقَ سوى الآن حين أمطرتني السماءُ بقطعةٍ من قلبِها تُدعى "ميسون". "
لـ تسرُدَ من خلال هذا المقطع المقتضبْ وجوداً آخرَ شكّل أو ساهمَ في وجودها صامدة في وجهِ الغرق الذي تجهمَ مُبتلعاً ما كانَ من ألقٍ حولها، وحسبما أظن أن " ميسون" كانتْ محور النصّ بطريقةٍ أو بأخرى.
.
.
.
.
وتُسارِع الكاتبة الحدَثْ لكن هذه المرة نحوَ الخلْف، بعدَ أن توقّفت لـ وهلةٍ لـ ذكرِ محاسنِ "ميسونْ"، عادت مرةً أخرى في هذا المقطع لـ لحظةِ الخروجِ والمغادرةْ، والبكاء لكن بـ فرَح على أطلال باريسْ، أملاً في لقاءِ الوطنِ كـما كانْ.
"- سيدتي ، سيارة الأجرة في انتظارك بالأسفل.
- هل أنزلت جميع حقائبي؟
- نعم ووضعتُها في السيارة.
- تعلم أنني لن أعود, لربما نسيتَ شيئاً ؟
- أعلم, اطمئني لم أنس شيئاً.
"ألقيتُ نظرةً أخيرةً نحوَ زوايا شقتي الباردةِ كبرودةِ باريس غيرَ نادمةٍ على الرحيلِ ، حيثُ الدفءُ يتدثّر في وطني وحيث لبنان ( قطعة من السما ) ، دلفتُ إلى سيارةِ الأجرةِ أحملُ حقيبةً صغيرةً تستوطنُ ذاكِرتُها بعضُ الأوراقِ وقلمٌ وديوانُ "نِزَار قبّاني" ( إلى بيروت الأنثى .. مع حبي ) ، ليتَ ذاكِرَتي كانَت أقل تكلفاً كحقيبتي ، لربّما كنتُ أكثر سعادةً "
.
.
..
.
"وكأن الذاكرة تسترقُ السّمعَ لحديثي الداخلي وتستفزّني بأنْ تشرّعَ نافذَتها حيثُ الوطَنُ يسكن الغيومَ ، ويشاكسُ أشعةَ الشمسِ المغروسةَ بخاصرتها كسكّينٍ يثقبُ الذاكرةَ لتستنزفَ المطرَ وتنسلَّ الذكريات نحو الركنِ القصي من الروحِ , أغمِض عينيَّ كأنما أرتقها كيلا تفرّ رائحةُ البحرِ وأصوات المآذنِ و أجراسُ الكنائسِ ، وصورٌ قديمةٌ مهترئةٌ حفظتُها طِوالَ سنواتِ الغربةِ على الرفّ الأعلى من الذاكرةِ كيلا يلمحَهَا عثّ النسيانِ فيحيلها قصاصاتٍ صغيرةً جداً يصعبُ لصْقُها"
هنا تصل إلى ما يُسمى في نقد القصة بـ " فن التفاصيل" وهو ما يجعل القصة هنا تفقد ألق "القصَر" لـتخوض في فلق "الرواية قليلاً"، إذ تناولَت بعضْ الخصوصية المرتبطة بـ ذاكرتها حولَ المكانِ والزمنْ وتصوّر الوقائعْ القادمة بناءً على إستحضارِ الماضي.
.
.
.
.
.
كل تلكَ الذكرياتْ تُقطَع فجأةً بـ صوتِ السائقْ، لـتبدأ رحلة العودة من جديد إلى ميسون ومحاسنِها، ولكن هذه المرة بـ شمولية أكثر وتناوُل أكبَر يتناسبُ مع الحدثْ من حيثْ الفصل القصصي والموضِعْ السردي، فـ ميسون جزءٌ يقودُ لـ التعلقِ بالوطنْ منذ البداية، لذا نجد الكاتبة إستحضرتها في لحظاتِ الألم ولحظات الإسترخاء ولحظاتْ الإنطلاق الأولى نحو الوطنِ عند الوصولِ إليهْ.
.
.
"بعدها أخذَتني سيارةُ الأجرةِ نحو حارتنا التي ضمّت طُفولتي بينَ أصابِعها ، في ذلك الحي العتيقِ الذي ربما تغيرت ملامحهُ وارتدى رداءً من حداثة, ولكن أكثر ماكان يشغلني حينها أن أبحث عن الحكواتي " أبو خضر" لأستمع لحكاياتهِ الدافئةِ وكأنّ العمرَ سيتوقفُ عندَ عتبةِ سنواتِه الستينَ ، أو ربما هناكَ الكثيرين غيره ، فصورةُ بيروت العتيقةِ باللونينِ الأسود والأبيض مازالت معلّقةً على جِدارِ الذاكرةِ.
أدركتُ لاحقاً وأنا أحدّقُ في حارتنا التي لم تعد قديمةً ، بأنّ الصورةَ الجداريةَ أضحَت مختلفةً وملونةً ، واختفت من ملامحهَا وجوهٌ كثيرةٌ ، وأن الحكواتي كانَ ماضٍ واندثرَ بحكاياته الجميلة المختلطةِ برائحةِ (الأرجيلةِ) وألحان الرحابنةِ ونسيمِ الوادي ,وبأنّ البنايةَ التي كانت تضمُّ طفولتي بينَ أضلعِها لم تعد موجودةً ، جلستُ مشدوهةً , حزينةً على كرسيٍ في مقهىً باردٍ من الطرازِ الحديثِ ، ودونَ وعيٍ فتحت مدونتي وأمسكتُ بالقلمِ , وكتبتُ ، فقط لكِ يا ميسون سأكتبُ بعضاً من ذكرياتي لتدركي أن ذاكِرَتي مازالتْ تخبّئ بعضاً من رائحةِ (بيروت) ، لكن الحكواتي لم يكن احداها ولن يكون."
في الجزء الأخير تذهب الكاتبة، لـ تذييل القصة وإسقاطْ المُقارنة التخيلية من الذاكرة على الواقِع الذي خذلها في النظرةِ الأولى، لـ تعودَ ميسون من جديد كـ خاتمةٍ لـ القصةِ، بوعدٍ من ذاكرة منعَشة جداً وغير " مثقوبة" تتذكر وتستحضر كل شيء من ذاكرة بيروتْ
/
/
بشكل عامْ أرى أن البناء اللغوي للقصة يفتقر لـ الإنفعال مع الحزنْ أكثَر، في حينِ يختزِل العاطفة بـشكل إحتوائي وجميل، ولا أرى داعياً لـ تسميةِ القصة بـ الذاكرة المثقوبة، لأن الذاكرة السردية لـشخصية القصة كانتْ مفعمة بـالرسوخ لـدرجة إحتفاظها بـمعالم الوطن من خلال رائحتِه، ويعززُّ وجهةَ نظري هذه مقولتا الكاتبة في العبارتين:
-"وكأن الذاكرة تسترقُ السّمعَ لحديثي الداخلي وتستفزّني بأنْ تشرّعَ نافذَتها حيثُ الوطَنُ "
-" أجوب طرقات الذاكرةِ بصحبةِ "ميسون" حتى باغتتني غفوةٌ "
/
/
البناء التصويري في القصة يحملُ خيالا خصبا وأبعادٍ مرتويةً بـ محاولة الجدة في عدة صور، ولم تترك الكاتبة أي مجال لـ تسلل اللاشعور عبر نفس القارئ بل كانت التعابير ملآى بالربط بين نفسِ الكاتبِ وعمقِ المتلقي، ولا يوجد رموز أو إسقاطاتْ نثرية بل كانت اللغة واضحة وسلسة جداً، مما أفقدها في نظري عنصرَ الإثارة والتشويقْ لـ وهلة.
.
.
نادية المطيري...
سعيدٌ جداً بــ قرائتي لـ "ذاكرةٍ ممشوقة"
واعتذر عن الإطالة، فـ أنتِ شاعرة وكاتبة
تحملين الكثير في داخلكِ من التجلّي في الكتابةْ
وأنتظِر بـ شغفٍ القادمْ.
حبي وتقديري
م/ي