الشعر نابع من الشعور . حقيقة يعرفها أبسط البسطاء ولكن لحظة كتابة الشعر ظاهرة يلفها الغموض .
هل هي من صنع البشر ؟!.
أو أن هناك عوامل خارجية تدفع الشاعر إلى كتابة القصيدة ؟؟!!.
السؤال محير ، والجواب غامض ، والحديث في هذا الموضوع ممتع ولذيذ .
لا يوجد مصطلح ثابت تتفق عليه جميع الأطراف يعرف لحظة الكتابة الشعرية ، لأن من علامات المصطلح أن يكون مقبولاً ـ ولو نظرياً ـ لدى العاملين في هذا الجانب أو ذاك . وعلى هذا الأساس كان لكل أمة رأي في تفسير أو تعريف لحظة الكتابة الشعرية .
ولهذا نحن لا نعجب من الفرزدق عندما يكون خلع ضرس من أضراسه أهون عليه من قول بيت من الشعر في بعض الأوقات ، لأن الشاعر الحقيقي لا يأتيه الشعر متى أراد أو شاء . كما أن الحالة التي يكون عليها الشاعر تختلف عن حالته الطبيعية وقصة الشاعر جرير مع أحد خصومه وهو الراعي النميري مشهورة جداً ، عندما بات ليلته عارياً هائجاً ثائراً يروح ويجئ حتى ظنت عجوز في الدار أن الرجل مجنون ، وكذلك أبو تمام إذا أراد كتابة قصيدة يجلس في صهريج مغسول بالماء ، وأبو نواس لا يقول الشعر إلا إذا انغمس في الشراب وصار في منزلة بين السكران والصاحي . وكم كان الشاعر طلال حمزة رائعاً عندما التقط لنا هذا المشهد ولفت أنظارنا إلى هذه الصورة .
ولو يسألون الناس وش أعجبك فيهقولي لهـم شفتـه بحالـة كتابـة
وفي هذه اللحظة ، هي حالة التجلي العظمى مع الشعر , والتي يصعب أن يعيشها أو يمر بها أي شاعر .
والإنسان منذ القدم وقف حائراً ومذهولاً أمام تفسير هذه الظاهرة ، إذ اعترها الغربيون لحظة من لحظات الجنون أو النبوة فالشاعر إما أن يكون مجنوناً أو نبياً , وفي بعض الأحيان يكون مجنوناً ونبياً في نفس الوقت . وفي هذا السياق اعتبر سقراط خيال الشاعر نوعاً من أنواع الجنون العلوي . والظاهرة نفسها جعلت العقل العربي منذ العصر الجاهلي يقف حائراً أمام لحظة الكتابة الشعرية ، مما دفعهم إلى الاعتقاد بأن الشعر شيطانان ، فمن لازمه " الهوبر " حسن شعره وجاد ، ومن لازمه " الهوجل " ساء شعره وفسد . ولعل هذه الفكرة – وهذا رأيي – مأخوذة من الفلسفة اليونانية حيث ذكر إفلاطون أن كل شاعر متبوع بأرواح خيرة أو أرواح شريرة , والفكر اليونلني الوثني المرتبط بالآلهة , التي تعيش في أعالي الجبال , انعكس على العرب , وهم أمة صحراوية , فإن عوالمها الخفية وهم الشياطين , يعيشون في إحدى الوديان , وهو وادي عبقر , المعروف بالأدب العربي .
وقد اهتم أبو زيد القرشي صاحب كتاب " جمهرة أشعار العرب " بهذا الجانب الغريب , حينما أورد حكايات متنوعة لـ " شياطين الشعراء " يأبى العقل السليم تصديقها ، كما أن الشاعر الفرزدق كان يتفاخر بأنه كان صديقاً لابليس وابنه ، ولا ننسى في هذا الجانب ذكر وادي " عبقر " المعروف في الأدب العربي بأنه وادي الجن .
وبعد أن قمنا بهذه الجولة الميدانية أرى أن الشاعر الحقيقي ما هو إلا " أنثى " غير أنثى الإنسان ، أنثى من نوع آخر وطراز آخر ، والشاعر المبدعة أنثى فوق العادة . ولحظة الكتابة الشعرية نوع من أنواع " المخاض " فالشاعر المبدع يشعر بهذا " المخاض الشعري " قبل كتابة القصيدة بلحظات أو بيوم أو أيام . وفي هذه الحالة يلتقي الشاعر بالأنثى الحقيقية عند نقطة المخاض ، والقصيدة عندما تكون في كيان الشاعر تشبه الجنين الذي في رحم أمه ، ولا تعرف الأنثى الحقيقة " الحامل " الراحة أثناء المخاض إلا إذا خرج الجنين منها ، وكذلك الشاعر المبدع لا يشعر بالراحة إلا عند الإنتهاء من كتابة القصيدة وعندها يشعر بأنه ولد من جديد .