منتديات أبعاد أدبية - عرض مشاركة واحدة - القطة رمادية
الموضوع: القطة رمادية
عرض مشاركة واحدة
قديم 05-12-2010, 08:39 PM   #1
بثينة محمد
( كاتبة و مترجمة )

الصورة الرمزية بثينة محمد

 






 

 مواضيع العضو

معدل تقييم المستوى: 20

بثينة محمد غير متواجد حاليا

افتراضي القطة رمادية


اعتاد أن يكون وحيدا منطفئا ، كعقب سيجارة تالفة في ركن الغرفة ، رغم أن لا أحد يدخن عادة في الأركان .. لكنه كان دائما بقدر خيالي من التعاسة . كل يوم ، كان يمضي بضع ساعات يحاول رسم الشمس من مرسمه الفارغ إلا من أدوات الرسم ، لا وجود حتى لطاولة ولا كرسي ولا سجادة على الأرض !

كان دائما يلقي ببقايا قهوته على الأرض تحت النافذة ، يضحك ضحكة قصيرة و يخاطب بقايا السائل البني : " عليك أن ترشدني إلى الكيفية الصحيحة لرسم الشمس خلف هذه النافذة . أنا أعتمد عليك في حجزها لأطول وقت ممكن هنا في هذه البقعة ! " . كانت النافذة في منتصف الحائط بالضبط ، تطل على الكثير من البيوت الصغيرة ، و مدخنة كبيرة في منتصف الحي الذي يسكن فيه . كان يكره تلك المدخنة فدخانها يشوه منظر الشمس و الصورة التي يحاول التقاطها لها . الصورة التي غدا هاجسه أن يحاول تصويرها بروحانية عذبة . رَسَم أكثر من عشر لوحات للمنظر ذاته ، بلا فائدة ! قال له أصدقائه : " لمَ تحاول بشدة تصوير الشمس من هذه الزاوية ، من ركن غرفة فارغة ؟! لمَ لا ترسمها من الشارع مثلا ؟! أو من البستان ؟! " لم يكن يرد ، لم يظن أن هناك من يستطيع فهم هذا الهاجس ، فاكتفى بالصمت !

في اليوم الخامس عشر من الشهر الثالث ، تسللت قطة رمادية كبيرة إلى مَرْسَمِه .. وجدها تمشي أمامه باختيال امرأة مومس ، تسلقت إطار النافذة برشاقة غريبة و أغمضت عيناها بهدوء و نعومة مترفة . توقف عن الرسم دَهِشًا ! إنها تتصرف كأنها تمتلك الغرفة ! غرفته المظلمة ، الخاوية ، الحبيبة إلى قلبه . حاول إخافتها بإصدار بعض الأصوات العالية لكن بلا جدوى ، تلك القطة لم تتزحزح . طرأت له فكرة غريبة ، عارضها باشمئزاز ، ثم استفزه وجودها فأقنع نفسه بالمحاولة ، غَمَسَ فرشاته في اللون الأحمر و اتجه إلى القطة بهدوء شديد لئلا تفتح عينيها ، و مَرَّر ريش الفرشاة على جسدها ببطء . فتحت عينيها و نظرت إليه بطريقة غريبة ، تذكر والدته حين كان يرمي الفطور الذي تعده له تحت المقعد و يتظاهر بأنه التهمه بنهم ! كانت تنظر إليه بنفس الطريقة و تقول : " أنا أعرف ماذا تفعل ، و ستقوم بتنظيف هذه الفوضى و إلا لن تشاهد التلفاز حتى تتوقف عن هذا الاحتيال ! ". لم تتحرك القطة من مكانها ، عادت لتغمض عينيها بسكون أثار استغرابه . توقف لوهلة يفكر ، ثم عاد و رسم خطا آخر و ضغط أكثر بفرشاته لكن القطة لم تتحرك بتاتا ! عاد إلى اللوحة و نظر إلى منظر القطة و النافذة خلفها و الشمس خلفهم ! شعر بضيق مفاجئ و اندفع خارجا من المرسم .

في اليوم التالي ، أتى إلى الغرفة بملابس جديدة . ارتدى قميصا أحمر و بنطالا رماديَّا ، كان القميص هدية من والدته التي توفيت منذ قرابة ستة أشهر . لم يرتده أبدا لأن والدته توفيت في اليوم التالي لإهدائه هذا القميص ، ما زال يذكر ماذا قالت حين قدمته له : " أحمد ، هذا القميص ثوري كمزاجك ، و فنان كروحك . ارتدي هذا القميص حين تحاول القيام بعمل ما ، و تذكرني و أنت تنظر للشمس . سأراقبك معها كل يوم ! " . لم تكن القطة هناك مما جعله يشعر بالخيبة . ندم على ترك الباب مفتوحا خلفه . تنهد بقوة و اتجه إلى اللوحة القديمة شبه المكتملة ، وضعها أرضا و بدأ يحاول من جديد و لكن بطريقة جديدة تماما . كان دائما يبدأ برسم الشمس و من ثم يحاول رسم النافذة . هذه المرة بدأ برسم الغرفة و النافذة ..

في اليوم التالي ارتدى قميصا أبيض و بنطالا أسود . أحضر معه القميص الأحمر و مسمارا و مطرقة . ثبت المسمار في الجدار بمهارة و علق القميص في مكان يجعله أمام عينيه حين يرسم .
بدأ يفكر بإحضار صوفا صغيرة ليرتاح عليها حين يتوقف عن الرسم أو يشرب القهوة . لم يعلم لم كان يقوم بهذه التغييرات ، لكنه أَمِلَ أن تأتي تلك القطة مجددا ، حتى أنه أحضر معه علبة طعام لها . بعد مرور أسبوع انتهى من رسم اللوحة و كان راضيا تماما ، أخذها و علقها في غرفة جلوسه في منزله ، فوق المدفأة تماما ، و أمام اللوحة كانت صورة أمه ترتدي فستانها الأحمر المفضل و تبتسم .اليوم التالي كان ماطرا و عاصفا ، جلس يحتسي القهوة بهدوء على الصوفا الجديدة حين دخلت تلك القطة الرمادية العجيبة ، ترتجف و تعرج ، مشت حتى وصلت إلى موقع النافذة و تهالكت أسفلها بعد محاولة فاشلة لتسلق الإطار. توقف ينظر إليها تنتفض . بعد دقائق ، سكن جسدها .. ذهب إليها ، لم يجد أي نبض ، أي روح . ترامى بجانبها و هتف بأسى : " ليس من جديد ، ربَّأه ! " . مكث شارد الذهن ، بنصف دمعة في عينيه ، لنصف ساعة . انتبه فجأة لوجود الجثة بجانبه ، ذهب إلى القميص الأحمر و لفَّ القطة بداخله . نظر إلى النافذة ، لقد توقف المطر ! خرج يمشي ببطء ، كان هدفه مقبرة الحي ، حيث دفن والدته منذ ستة أشهر . حفر حفرة صغيرة ، و دفنها بسرعة !


الأربعاء ، 28 – 5 – 1431 هـ

 

التوقيع





التعديل الأخير تم بواسطة بثينة محمد ; 05-12-2010 الساعة 08:49 PM.

بثينة محمد غير متصل   رد مع اقتباس