على عكس أغلب المدن ,
لها في الصمت نفسٌ طويل جداً مما يضمن لها هيبة تامة ..
تحتفظ بك في محفظتها المتواضعة كورقة , وعليك أن تصمت كي لاتنتبه لك الشوارع والبقالات الصغيرة جداً والباعة المتجولون والهاربون من الشمس.. ... ..
صغيرةٌ كنتُ يوم دخلتها بحبةِ موز , يوم كانت الثقة شعرة هدب بين البشر والقردة .
سعى أبي جاهداً لذاك الطريق المُقلق لنكتشف معاً سرّ مدينة تأهلك لمدينةٍ أخرى وتقبل أن تكون مدخلاً متهالكاً لجمالها.
المبهر في نظري كطفلة حينذاك , ذلك العدد المهول للأنفاق , حيث تمزق صراخي في مراوحها , ودُهست أصداؤه بالعجلات وأنا معلقة في النافذة , أفرح على اللاشيء ..
سيارة حمراء من نوع متوسط العمر ,
حقائب , وزحام , فوضاي ,
وعينا أبي التي تراقبني في المرآة الأمامية وأنا أجلس في المقعد الخلفيّ كي أحظى بفرصة ضَمّهِ من خلف المقعد -بيدين قصيرتين جداً - وأقبله .
قبلةٌ على الشعر ومرةٌ على " الغترة " ومرة على الكتف وأخرى على الأذن , حتى ضاع الطريق في القُبل و استقبلنا الضباب ..
معطفي هناك كان صديقي الأول , ووصية أبي الدافئة , تنبيهات أمي الملازمة لظلي ..
على ربوة, وبعد خطوة واحدة, اكتشفت أن للحديث فيها شكل دخان, إنها المرة الأولى التي يبهرني فيها شكل الكلام ..
كسرتُ عود شجرة صمغية قريبة , و افتعلت تدخيناً وشروداً ..
كنتُ في الغالب أتلمس في داخلي أنثى لم تسمح لها الفرصة أن تستطيل ..
لكني هناك تحديداً كَبُرتُ بسرعةٍ هائلة ..
شعرتُ بي أختار شخصي , و أميز كينونتي دون عوائق ..
إلا أن الخوف الذي لازمني مطولاً كَبُر هناك أيضاً وأعادني لضفائري ..
لم تكن لتسعفني ذراع أبي وتذبه عني بشكلٍ كامل , لأنه كان يختار النوم فيها بعيداً عن نفث التكييف .
أنا التي اعتدت صوته لترقيع الأصوات غير المبررة ..الأصوات التي تقول عنها أمي " مسرى الليل يابنتي " ..
على ذارعه وفي أحضان أمي_ أحياناً _ كنتُ أعدُّ كم عجلةٍ مرت بقلقي بدلاً من الخراف .
فالشارع لم يترك لي خياراً آخر , ولم يتح لي فرصة الإستمتاع بصوتٍ غير أصوات الذهاب والإياب والأنفاس .. وكأنني حُصرت بين اتجاهين يعاكسهما الصمت ويطحنني ..
الساعة الثامنة كانت شرارة العقدة الأولى ,
حيث أني ببداهة الصغار أدركت أنها الساعة التي تذبل فيها أضواء السيارات , وتنام المحلات , ويخلد الضجيج البسيط إلى سريره ..
عرفتُ تلقائياً أنها الساعة التي يبدأ منها السّبات , وأنّ في ذلك زمنٌ طويلٌ مطليٌّ بالسواد , ينفث دخاناً يمنعك من استقراء ظلك ..
في الشرفة كنتُ أعلق ظلي كل ليلةٍ على الكلام وأخرج لذراعِ أبي كي أقاوم هيبة " الباحة " , المدينة التي لا أذكرها إلا وأقشعرّ ..