منتديات أبعاد أدبية - عرض مشاركة واحدة - [ فِي رِحَابِ المُصْطلح ] : -11-الشكلانية ..(( منابع لاتنضب ))
عرض مشاركة واحدة
قديم 10-02-2010, 01:12 AM   #118
د.باسم القاسم
( شاعر وناقد )

افتراضي محكمة التأويل ...(( النص في قفص الاتهام ))


السيدات والسادة ..
نتا بع معاً السلسلة التي بدأنها مع موضوعة التأويل ..وأعتقد أننا وصلنا معاً إلى نهاية المطاف ..واسمحول لي هذه المرة أن ألبس هذه الموضوعة ثوباً قانونياً فأقول :
مادام أننا أمام قضية وتهمة ومحكمة ..
فلابد لنا من تحديد الجهة المدعية ..والتهمة ..والمدعى عليه ..
ونحن هنا في رحاب محكمة التأويل..الآمرة والمنبثقة عن شريعة النقد المعاصر ..

المدعى عليه : النص (( وقد تناولنا سيرته الذاتية وانتماءاته وطموحاته في الدراسة السابقة ))

التهمة : الغموض /التعمية / الإلغاز /السلبية /اللاجدوى .. وهذه التهم أعتقد أنها الشغل الشاغل لنا جميعاً مؤلفين وقراء ة وكثيراً ما نسمعها وخاصة في بيئتنا الثقافية العربية ...وخصوصاً فيما يتعلق بمادة الشعر المعاصر ..

جهة الادعاء : وهذا المحور الذي ستدور حوله رحى الكلام الآن ..

تمهيد :
في النقد الحديث ..

كثيرون هم من تحلقوا حول قصعة التأويل التي قدمها كل من ( إيميلو بيتي )و ( هانس غادامير )
ولكن من تقاسما رغيف التأويل واستأثرا به دون الآخرين هما ( أمبيرتو إيكو )و( رولان بارت )

وعندهما سنجد تحديداً لهوية جهة الإدعاء التي ذكرناها سابقاً ..

الجهة الادعاء الأولى :

تفهم هذه الجهة وتعتقد أن النص الشعري يكتب بقصد توصيل رسالة محددة ودقيقة ونقلها ، وتعتبر أن النص مرآة عاكسة للعالم الذي يقوم النص بتصويره والنص هنا يعبر عن غاية سامية مصدرها المؤلف ويحمل رسالة جادة تهم خلاص الفكر البشري ..وكل ماسبق عرف بنظرية المحاكاة التمثيلية والتي تعتبر أن النص يشكل تمثيلاً موضوعياً لجزئية أو كلٌّ هو خارج النص وهو مرجع النص وبالتالي لابد أن يتأمن في النص سمات التشابه مع هذا المرجع بوضوح ...
مثلا: عندما نكتب عن الحرية نقوم بمقاربة كتابتنا بمرجعيات وحقائق وذواكر فكرية ومشهدية متعلقة بالموضوعة نفسها ونحاول أن نوضح وجود هذه الأفكار داخل النص ونشعر القارئ ونحسسه بأننا نتحدث عن هذه الموضوعة ..
أما المؤلف فهو ذلك العبقري الذي يقدم النص كتجسيداً لهذا الواقع الفكري
ولكن ماذا سيحدث مع القارئ ..
هنا القارئ مع نموذج لهكذا نصوص ..لايستطيع أن يستخدم النص كما يشاء بل كما يشاء له النص أن يستخدمه والقارئ هنا بمثابة مستهلك يؤكد نفسه من خلال تتبعه أنماط المعنى الثابتة وبنيته
التي قدمها المؤلف كممثل عن الواقع الذي يتناوله النص ..
وبالتالي يكون مشروع التأويل لدى القارئ مع هذا النص هو مشروعاً مغلقاً ومحدد ..
مثال :
يقول المتنبي : على قلق كان الريح تحي تسيرني يمينا أو شمالا ..
هنا المؤلف يحدد تأويل النص ..إذ أنه أعطى إحالة لدلالة..(( كأن الريح تحتي )) فتحدد المعنى ووصل بدون تعب ... الفكرة أن المتنبي يريد أن يعبر عن قلقه ...
ولكن لو أتى شاعر يريد أن يعبر عن قلقه فقال : على قلق كأنني أنثى المساء ..
لنرى انفتاحاً هائلاً للدلالات ..
بالطبع ..هنا تم إطلاق صفة لهذه النصوص ..

عند إمبيرتو إيكو :
أطلق عليه النص المفتوح من حيث أن المؤلف يفتح أبواب محددة للتفسير والتأويل ويحجب باقي الأبواب بوجه القارئ .. إنه بكل بساطة أخذ دور القارئ أثناء عملية بناء النص ولم يترك لغيره حرية الحركة في النص

عند رولان بارت :
أطلق عليه النص المقروء (( المغلق)) من حيث أن المؤلف أغلق احتمالات التأويل لدى القارئ وقدم النص بعد أن قرأه وحدد تفسيراته ..

طبعاً هذا النموذج شائع جداً لدى الكثير من المؤلفين والقراء ويطالبون به ..بشدة ..
وبمجرد أن خرج النص عن هذه السمات ..كانت التهم الجاهزة التي ذكرناها بالمرصاد ..
ولكن هناك ملاحظة مهمة ..
لماذا يستمتع القارئ بقراءة هذه النصوص ويطالب بها ؟؟ ...فلولا المتعة في التعامل مع هذه النصوص ..لم تقم الحروب الكلامية حولها
وهذا هو ما أريد الوصول إليه وأدلو بدلوي الخاص في بئرها شخصياً
أقول :
أعتقد أن الدهشة هي أصل كل متعة في تلقي النتاج الأدبي ..وهناك مستويات لهذه الدهشة
في النصوص التي تحدثنا عنها ...ويدهش القارئ من عوامل كثيرة مثلاً
قدرة اللغة على التوصيل والبيان / قدرة الشاعر على التعامل مع اللغة / مجموع التراكيب المكونة لعوامل الشعرية (( الاستعارة ..الكناية ..المجاز ...) إلخ ..
كل ماسبق ممكن أن يتمتع القارئ به بغض النظر إن كان المعنى جهزاً أم لا .. أو كانت فاعلية التأويل نشطة أم خامدة .. وهذا في الواقع هو الذي نلمسه في دواخلنا أمام نصوص من هذا النموذج أعجبنا بها وقرأناها منذ نعومة أظفارنا ...

فهل هذا يعني أننا إذا لم نكن أمام نص من هذا النموذج المحبب لدينا فلابد من أن نسخط عليه ونستهجنه ! وإذا تقدم لنا نماذج أخرى متطورة هل يمكن أن نعتبر عدم الاعتراف بها سلبية ؟

الجهة الادعاء الثانية :
جهة الادعاء الثانية اعتبرت مايلي :

* إن النص كتب حتى يستطيع القارئ في كل قراءة أن يكتبه ويعيد إنتاجه ..
وهو يقتضي تأويلاً مستمراً ومتغيراً عند كل قراءة ولهذا يتحول دور القارئ إلى دور إيجابي نشط
ومنتج وبناء ..
· تتم المعايشة مع النص وتجربته على أنه فاعلية وحيوية لغوية وليس فقط مادة قابلة للاستهلاك

· إن النص هو صراع ومواجهة مع حدود العرف والمقروئية .. فهو نص يمارس إرجاء المدلولات إرجاءً أبدياً أو لانهائياً وهي سمة تجعل النص يستحيل على الإغلاق ..

· إن النص يتألف من مقتطفات ومرجعيات وإحالات وصدى لأصوات مختلفة ومرجعيات ثقافية متنوعة وهي ذات لاتدل على نقطة أصل معينة ..ومن هنا يكتسب النص تعددية المعنى التي لاتقبل الاختزال والتقنين ..
فالنص لايسعى إلى إبراز الحقيقة وتمثيلها فليست هذه وظيفته إنه يسعى إلى نشر المعنى وتفجيره وحسب ...

· إن المؤلف يأتي إلى هذا النص ليس كأصل ومشرع له ..إنه أيضاً قارئ للنص يتشارك مع الآخرين ... هنا المؤلف ليس قاضياً ولامقرراً إنه وحسب ينظر إلى كل ماحوله بطريقة تختلف عن نظرة الآخرين وهو يعرف تماماً بأنه لاحقيقة يمكن القبض عليها في هذا العالم فيلتزم بحيادية عالية في التعامل مع النص ..

بالطبع ..هنا تم إطلاق صفة لهذه النصوص .. :

عند أمبيرتو إيكو :
أطلق عليه اسم النص المغلق ...من حيث أن المؤلف أغلق بوابات تأويل النص الخاصة به على نفسه وحاول أن يكون قارئ ما من عينة لانهائية من القراء واكتفى بمنح المفاتيح لبوابات تخص القارئ ..لتكون لهم الحرية المطلقة في الولوج إلى عوالم الفكرة وتحديد توجهاتها .. إن المؤلف قصد فكرة وعرضها بطريقته الخاصة (( فنياً )) ولم يحدد قدر هذه الفكرة ولم يعتبر نفسه المشرع الحكيم الوحيد الذي يعرف الحقائق وعلى الآخرين أن يتبعوه

عند رولان بارت :

أطلق عليه اسم النص المكتوب /المفتوح من حيث أنه مفتوح تماماً أمام كافة التأويلات والتفسيرات
فالمؤلف هنا اكتفى بكتابة النص واعتبر نفسه أحد قرائه الكثر..
ملاحظة :
لابد من الوقف عند الخلط الذي يحدث بين اصطلاح إيكو وبارت ..
النص المغلق عند إيكو هو النص المفتوح عند بارت ..والنص المفتوح عند إيكو هو النص المغلق عند بارت .وقد بينا السبب .. لتعم الفائدة للجميع ونكون على بينة ..


بالطبع هذا النموذج ((النص المكتوب ))أصبح اليوم يأخذ مسميات كثيرة .. (( معاصر ..مابعد حداثي ..إلخ ))
وأخذت رقعة مريديه وأنصاره تتسع شيئاً فشيئاً في عوالم الأدب ..
ولكن أين اللذة التي تسبب تمسك هؤلاء بهذا النموذج ..
كما أسلفنا ..إن الدهشة أساس هذه المتعة في الفاعلية القرائية ..
وهنا عامل الدهشة الرئيس يتعلق بالنص من حيث أنه مادة عجائبية استطاع القارئ أن يعيد انتاجها
ويمارس معها حقه كمؤلف ومستكشف لمناجم زاخرة بها أصقاع النص ..إنها تثاقفه وترفع من سويته الإنتاجية وتعلمه كيف يمكن يفهم الكون بطريقته الخاصة وخلاصاته ووجهات نظره الخاصة به ..
وهذا يجسد كما أعتقد رسولية الشعر إن كانت له رسالة ..
ولكن كل ماسبق لايعني إلغاء النموذج الأول .. فهو يمثل البداية والأصل ..والنموذج الثاني يمثل حالة تطورية مهمة أو هي قدر الكتابة فمن لم يتقد م تقادم ومن تقادم زال ..
السيدات والسادة ..
هذا مايجعلنا نتريث قبل أن نطلق التهم ..وأما عن قرار محكمة التأويل في هذه القضية فلم يبت به بعد وأعتقد أنه لن يبت به ..
فلنكن نحن القضاة ولنتحلى بالحكمة والموضوعية ..



خالص مودتي واحترامي لكم ..
وبانتظار قراراتكم ..

 

التوقيع

emar8200@gmail.com

د.باسم القاسم غير متصل   رد مع اقتباس