كان غياب أبي الطويل عن المنزل يراكم بعض المشاكل الطارئة التي كانت تحتاج لعلاج مستعجل
مثل انقطاع المياه، انقطاع الكهرباء، تسريب من فتحات الصرف
وكان أبي يتصل بنا يومياً لكي يسلم علينا ويكلم أمي
أحياناً كانت تتجنب ذكر بعض المشاكل، وأحياناً أخرى كانت تخبره بما يجري
عندما اكتشف أبي حجم الأشياء التي تخترب بشكل دوري وتحتاج لصيانة مستمرة
صار يعلمني كل شيء
- عندما تنقطع المياه، تعالي إلى الخزان هنا وتأكدي من أنه ممتليء بالماء،
تأكدي من أن الدينامو يعمل بشكل جيد، سيكون صوته هكذا، شغليه من هنا.....
- إذا كان هذا الخزان فارغاً تسلقي إلى السطح وافتحي الخزان الآخر، يجب أن يكون ممتلئاً دائما
- انفخي هنا، حتى تضغطي على المياه، عندما تصنعين منطقة ضغط كافية سينزل الماء من الأنبوب الآخر
- لو انطفأت الكهرباء تأكدي أن كل المفاتيح متجهة للأعلى، لو كان واحداً منها مطفياً يجب أن تعرفي لماذا،
سيكون ماساً كهربائياً وعليك أن تطفئي الجهاز الذي يسببه
-يجب أن تتعلمي كل شيء لأن أمك مسكينة وتحتاج لمن يعينها
وهكذا وهكذا...
تعلمت كيف أنظف فتحة الصرف، وكيف أشغل آريال التلفزيون عندما يتشوش التلفزيون، وتعلمت كيف أعيد تشغيل الكهرباء
كنت رجل المنزل، كانت أمي تستعين بي في كل شيء
وقتها... شعرت بأهميتي، وكنت أثق بقدراتي كثيراً... أكثر من اللازم
تقع مدرستي الإبتدائية، مدرسة أروى للبنات، في منتصف المنطقة التي كنا نعيش فيها
كان الجميع يذهب إليها مشياً على الأقدام على طريق رملي
كنت أحب الرحلة الصباحية للمدرسة أحياناً، كنت أغير الطريق حسب المزاج وحسب الوقت
أجمل الأيام كانت أيام المطر حيث تتكون البرك والمستنقعات طوال الطريق
وكنت أتعمد القفز في كل بركة، وكنت أتزحلق على الطين ما كان يدفع أمي لحافة الجنون عندما تراني
أحياناً كان أبي يدللنا ويأخذنا إلى المدرسة بسيارته التيوتا
وعندما نتأخر عن الطابور الصباحي كانت أمي ترافقنا إلى المدرسة لكي تبرر تأخرنا للمديرة
كنا جميعا نعيش نفس الظروف الاجتماعية تقريباً، أنا والطالبات الأخريات
وكان الجميع يعتبرنا أعلى منزلة من الآخرين، حتى المعلمات
لأننا أنا وأختي، نظيفات جداً، وملابسنا نظيفة، وواجباتنا محلولة
وكنا أذكياء في الفصل، نجيد القراءة والكتابة ونحفظ القرآن
كانوا يعاملوننا بشكل مختلف لأن أمي وضعت نفسها في منزلة أعلى من الأمهات الأخريات
كانت أمي مثقفة... كانت تهتم...
لم تختلط أمي بنساء الحي الأخريات أبداً وكان باب بيتنا مغلقاً دائماً
أم عبدالله، هي المرأة الوحيدة التي صادقت أمي، وكانت تزورنا
أحياناً كانت تحضر معها صديقاتها لكن لم تخرج أمي لزيارتهن إلا قليلاً جداً
كنت أثق بنفسي
في مدرستي، كنت أثق بما أفعل
كنت أعرف أن رسوماتي أجمل من رسومات الجميع
كنت أعرف أني سأحصل على الدرجات النهائية في كل اختبار أخوضه
وكنت متأكدة من تساهل المدرسات معي لأني تلميذة نشيطة
وكان الجميع، حتى الطالبات يحبونني، وكنت مثلاً أعلى للطالبة المجتهدة
رغم إني في الحقيقة كنت من أشغب البنات على وجه الأرض
للدرجة التي قامت فيها أمي ذات مرة برمي إناء زجاجي على رأسي ثم قالت: احمدي ربك ما انكسر!
حدث الانفصام الداخلي في نفسي عندما انتقلت إلى مدرسة الزلاقة المشتركة للبنات
تقع مدرسة الزلاقة في منطقة خارج منطقة الفقر التي نعيش فيها وسط فلل شعبية جميلة وحدائق
الطريق إلى تلك المدرسة كان جميلاً ومعبداً ويحتوي على إشارات مرورية
كنا نذهب بالحافلة...
في تلك المدرسة اكتشفت للمرة الأولى في حياتي أقلام الحبر الملونة
والمسّاحة الوردية المرسوم على غلافها الورود والحيوانات
اكتشفت أدوات مدرسية مرسوم عليها شخصيات ديزني
الشخصيات التي أحببتها وشاهدتها عبر أفلام الفيديو طوال حياتي
سخرت البنات في فصلي من أدواتي المدرسية الغبية، مساحتي عادية بيضاء، وقلم حبر أزرق وآخر أسود
ومسطرة شفافة وبراية زرقاء، من ذاك النوع الذي لو قلبته يحتوي على مرآة دائرية
حتى مقلمتي كانت عبارة عن شنطة صغيرة زرقاء، وحقيبتي المدرسية عادية ومملة
لم أمتلك أشياء ملونة
ولم أكن أعرف أي شيء عن مرطب الشفاه
ولا مرطب اليدين
وكان حجابي أبيض بسيط، مثبت من المنتصف بدبوس
وكن هن يرتدين شيل سوداء تظهر من تحتها شعورهن الملونة
وكان مريولي واسعاً يتبع التعليمات المدرسية
ومراييلهن ضيقة، فيها فتحة من الخلف، ولا يرتدين أي شيء في الأسفل....
وقتها فقط، شعرت بأني... أقل من الأخريات
عندما صارحت أمي بما يحدث في المدرسة
قالت بأن الأدوات الملونة لا تصنع العظماء،
ورفضت تماماً أن أظهر شعري من تحت حجابي رغم إني لم أكن محجبة أصلاً
ومنعتني من مقارنة نفسي بالأخريات لأني لا أشبه أحداً و لا يجب أن أشبه أحداً
في داخلي...
كنت أريد الأدوات الملونة باهضة الثمن
وكنت أريد حذاء أسود جميلاً فيه كعب قصير من الخلف بدلاً من حذاء البالرينا الأبيض
وكنت... أريد... أن أكون مثلهن...
في تلك المدرسة لم أصادق أحداً
ولم يرغبن في مصادقتي أصلاً
ولأول مرة، لأول مرة... بدأت في السرقة
صرت أسرق الأدوات المدرسية من البنات من الفصول المجاورة وأدعي بأنها ملكي
أتركها في الدرج في المدرسة حتى لا تكتشف أمي سرقاتي المتكررة
وتعلمت الكذب... صار كلامي كله عبارة عن كذبات متتالية
وكنت أبرر كل شيء...
تعلمت أن أقول بأن أمي "العبيطة" تحب النظام والقوانين
وعندما أرسلت لها المدرسة بروشور الملابس قررت تفصيل الثوب المدرسي حسب اللوائح
وكنت أختم: "أفففف من الأمهات، يخربون حياتنا والله"
وكنت أتكلم عن خادمتنا الهندية الوهمية بكثرة،
وكيف أحرقت حجابي ذات مرة ولأني مستعجلة لم أجد الوقت الكافي لتغيير الحجاب
لم أخبرهم بأن أمي تجبرني علي كوي ملابسي قبل الذهاب للمدرسة
وبأني في ذلك اليوم حرقت حجابي، ولأني خفت من أمي... ارتديته وخرجت وأنا أجهز الكذبة الكبيرة التي سأكذبها في المدرسة
شعرت بأن البنات يعرفن بأني أكذب، لأنهن بكل تأكيد يعرفن المنطقة التي أخرج منها كل يوم
ربما الشيء الوحيد الذي لم أحاول إخفاؤه أبداً هو المكان الذي أعيش فيه
شعرت بأنني سأزيد من قيمة كذباتي عندما يعرفن بأن هناك جزء كبير من الحقيقة فيما أقول
ثم جاء اليوم الذي سأكتشف فيه أهمية النقود
وزعت علينا المعلمة أوراق رحلة مدرسية إلى "حلبة التزلج في أبو ظبي"
في مدرستي القديمة، كانت أمي تعطيني عشرة دراهم للرحلات دائماً وكنت أشعر بأني ملكة العالم
في هذه المدرسة، العشرة دراهم تشبه مصروفاً يومياً تحمله الطالبات معهن كل يوم..
عندما تجمعت الطالبات وبدأن الحديث حول مصروفهن للرحلة، نظرن إلي وسألنني عن المبلغ الذي سأحضره معي
قلت بلا تردد 100 درهم
عدت للمنزل وأنا أفكر بالطريقة التي سأقنع فيها أمي بمنحي مبلغاً هائلاً مثل هذا المبلغ
ولم يكن هناك أي مجال للتراجع، خصوصاً بعد أن سمعت شهقات البعض، وعدم تصديقهن لما أقول
عندما سألت أمي عن المبلغ الذي ستعطيني إياه نظرت إلي وقالت خلاص رح أزيدك هالمرة، بعطيك خمسة وعشرين
توقعت أمي أن ترى في وجهي كل علامات الابنتهاج، لكني... أخفضت رأسي لأسفل وخرجت من الغرفة
اقترب موعد الرحلة المدرسية
وكنت أزداد توتراً كلما تكلمت البنات في موضوع الرحلة
عندما جاء يوم الرحلة، إرسلتني أمي كالعادة إلى دكان أبو بكر لشراء الحلويات.
أعطتني خمسة دراهم لشراء كل ما أريد، كانت تشعر بشعوري بالنقص،
وكانت تحاول أن تكون سخية معي بدون مبالغة حقيقية....
فجأة، توقفت سيارة خارج الدكان، ونادى صاحبها أبو بكر،
اضطر أبو بكر للخروج من الدكان للاستجابة لطلبات الرجل،
ولأنه يعرفني جيداً ويعرف كل من في الحي... قال لي: خذي ما تريدين، وضعي النقود هنا
وفتح لي درج النقود الصغير في منتصف الطاولة التي يضع عليها العلكة، والتوفو، والبولو...
وكل الحلويات الملونة التي أحبها، وأشتريها بشكل يومي من دكانه...