منتديات أبعاد أدبية - عرض مشاركة واحدة - قِصصٌ تُروى .
الموضوع: قِصصٌ تُروى .
عرض مشاركة واحدة
قديم 06-12-2009, 09:24 PM   #29
عبدالعزيز رشيد
( شاعر وكاتب )

افتراضي المجنون:عدي الحربش


(ما ترسمهُ الريحُ و تمحوه)

"لكنني أريدهم أن يعلموا بأنني مازلت حياً، أنني أمتلك معلفاً ذهبياً ما بينَ شفتيّ، أنني ما زلت الرفيقَ الصغيرَ للريحِ الغربية، أننّي أنا الظلُ الهائلُ لدموعي."

( فيدريكو جارسيا لوركا )



عندما اختارتْ أمُ راكان اسمَ راكان، كانت تريدُ لهُ أن يحملَ أجمل الأسماءِ كافةً، و لم يخطر ببالها أنهُ سيشبُ و يكبر دونَ أن يسمعَ الاسمَ الذي اختارتهُ له. فبعدِ ستة أشهرٍ من ولادته، و عندما كانت تفلي بأصابعها النحيلة شعراتِ رأسه، لاحظتْ سائلاً أصفراً غليظاً يخرجُ من أذنيه، و عندما استشارتْ إحدى عجائز القبيلة، أشارت عليها العجوزُ بأن تحشوَ أذنيهِ بالرملِ حتى لا يدخلَ الماءُ إلى رأسِه، و يختلطَ عليهِ عقلُه.

لا تدري أمُ راكان هل أجدت نفعاً نصيحةُ تلك العجوزِ أم لا، فلقد كَبرَ ولدُها و أظهرَ عقلاً راجحاً يزنُ بلداً كاملة، و لكنهُ للأسفِ لم يكن قادراً على أن يسمعَ و لا أن يتحدثَ ليدللَ على ذكائهِ و فطنتِه عندَ الأغراب. يمكنكَ أن تعيشَ أعمىً في الصحراء، و لكنكَ لا تستطيعُ أن تعيشَ أبكماً أو أصمّاً. ما الجدوى التي يعلقها عليك رجالُ القبيلةِ إن كنتَ غيرَ قادرٍ على أن تأتمرَ بأوامرِ رئيسها، و لا أن تطربَ لقصائدِ شاعرِها، و لا أن تصرخَ في وجوهِ أعدائِها صرخةً تُدخلَ الرعبَ و الفزعَ في قلوبِهم؟

لذا لم تجد أمُ راكان كبيرَ غضاضةٍ و هي ترى فلذةَ كبدها يخرجُ بالأغنام يومياً كي يرعى بها. كانت صحبة الأغنام التي لا تعقلُ و لا تستطيع الحديث أهونُ لديه من صحبة البشر الذين يعقلون و لكنه لا يستطيع الحديث معهم. كانَ يتفننُ في تشذيب عصاه التي يقودُ بها الغنم، و كان يتخيرها من أجود أنواع شجرات الطلح التي يمتلئ بها الوادي المجاور، و سرعانَ ما اهتدى راكان إلى فائدةٍ جديدة لتلك العصا، حينما اكتشفَ في نفسهِ موهبةَ الرسمِ على الرمال.

لا أدري كيفَ اهتدى راكانُ بالضبطِ لهذه الموهبة، و كيف تعلمها، و لكنهُ سرعانَ ما أخذَ يمارسها باستغراقٍ و يطورها كلَ يوم. كان لا يحتاجُ إلى أغراض أو أدوات لممارستها، فشجراتُ الطلحِ تملأُ الوادي الذي يسكنون بجانبه، أما حبات الرمل، فلقد كانت أكثرَ ما تزخرُ به الصحراء. كانَ أول ما تعلمه هو رسمُ إطارٍ صغيرٍ مستطيلِ الشكل، كي يحصرَ جهودَهُ و ضرباتِ عصاه داخلَه، و لقد كان مضطراً لأن يجعل الإطار صغيراً، فالرسمُ على الرمال معناه أن تنحنيَ بظهرِك حتى تصلَ إلى الأرض دونَ أن تضع قدميك أو يديك داخلَ الإطار حتى لا تفسدَ اللوحة. لذلك، كان يرسم إطاره الصغير، ثم يستلقي بجانبهِ على شقه الأيسر حتى يبدأ الرسم. بدأ راكان برسم الغنم و الهضاب و شجرات الطلحّ، و عندما تطوّرت موهبتهُ و ازدادت ضربات عصاه خِفة و رشاقة، بدأ يرسم نساء و رجال قبيلته. سرعان ما طوّر راكان موهبته بشكلٍ مُبهر، إذ بدأ يرسم إطاراتٍ أكبر تسمحُ له بإيداع المزيد من التفاصيل داخلََها، و لكي يتغلب على مشكلة آثار الأقدام، صار لا يضع قدميه إلا في مواضع محسوبة، يعزمُ أن يستخدمها لاحقاً و يمرّ عليها بالعصا في تسلسل منطقي رائع.

سرعانَ ما تعرّفَ راكانُ على عقبتين تفسدان عليه لوحاته الرملية. الأولى كانت طبيعة حبات الرمل نفسها، و التي تتساقط في الشقوق و المسامات التي يخلقها بعصاه بشكلٍ سريع و متتابع، حتى تختفي ملامح الشئ الذي شرع برسمه قبل الفراغِ منه. هذه المشكلة جعلت راكان خبيراً في نوعيات الرمل و التربة التي يقصدها لرسم لوحاته، إذ أنّ من العبث الرسم على الرمال الناعمة التي تتسرب كالماء داخل التجاويف و الحفر التي تخلقها عصاه، و كذلك من العبث أن يرسمَ على التربة المروية المتشققة بعد المطر، إذ كانت تتكسرُ بشكلٍ فوضوي و غير محسوب كلما أراد غرز عصاه فيها.

العقبة الثانية اكتشفها في ذلك اليوم الذي رسمَ فيهِ وضحى -ابنة عمه التي كان يتعشقها سراً في صباه-. لقد اختار أجودَ أنواع التربة في ذلك اليوم، و قضى النهارَ كاملاً و هو يضربُ بعصاه بحذرٍ، و يحاول أن يودعَ الرملَ سرَّ عينيها الشهلاوين و أنفها المدبب و ابتسامتها الحلوة. عندما فرغَ من لوحته أخذ يتأملها في إعجابٍ و افتتان. لم يسبق لهُ من قبل أن أَطلَعَ على لوحاته أحداً غيره، و لكنه هذه المرة، أحسَّ برغبةٍ شديدة بأن يتعرف إن كانت لوحته قادرةً على أن تدخل في غيره نفس شعور النشوة و اللذة اللذين تدخلهما فيه. أخذ راكان يركضُ باتجاهِ المضاربِ و الخيام، و عندما رأى ابنة عمهِ أشار إليها في إلحاحٍ كي تتبعه. بدأَ قلبهُ يخفقُ بعنفٍ عندما أحسَّ بالرياح تضربُ على أعقابهِ و تثيرُ الرملَ حوله. التفتَ نحو وضحى التي كانت تعدو وراءه، و أصدر صوتاً عالياً يستحثها فيه على أن تعجّلَ من وقعِ خطاها. عندما وصلا إلى الوادي، كانت الريح قد أخذت وجهَ وضحى مَعَها و مضتْ.

و كما دفعت التربة راكانَ إلى دراستها، كان عليه أن يبدأَ بدراسة الريح. هناك أنواع مختلفة من الرياح، هناك الريح التي تهبُ في مواسم معينة كريح الخماسين، و هناك الريح التي تهبُ من جهات معينة كالصبّا و الدَّبور، و هناك الريح التي تهبُ كيف شاءت في كل الأوقات و من كل الجهات. كان الأمر أشبه بالعبث، مما دفعَ راكانَ إلى أن يؤمنَ بأن هناك شياطين و سعالٍ في الصحراء تنفخ الريح متى شاءت كي تفسد عليه لوحاته. عندما أعجزته معرفة طبيعة الريح، حاول أن يتحوّط منها، و أن يتذرى بهضاب الأرض من عصفها، و لكن كل ذلك لم يجدِ نفعاً. كانت الريحُ تلعبُ و تدورُ و تغير اتجاهاتها كل لحظة، و كأنها تنوي إغاضته و اللعبَ على أعصابه. الفائدة الوحيدة التي كان بإمكانه أن يعزوها إلى الريح، أنها كانت تغنيه من أن يمسح الأرض بعد الفراغ من لوحاته التي يتعرض فيها لرجال و نساء القبيلة، و لقد رسم مرةً زعيم قبيلتهم الذي لا يحبه كثيراً، و ركزَ عُرجوناً ناتئاً بين فخذيه.

لقد كان الصممُ بمثابةِ نعمةٍ بالنسبة إلى راكان، إذ أن طبيعته الحالمة كانت تضيقُ بمعاشرةِ البشر و الجلوس إليهم، و لكن إن كان للصممِ عيبٌ رئيسي، فهو أنهُ يجعل الأخبار لا تصلكَ إلا متأخرةً، إلا متأخرةً للغاية. ففي إحدى الصباحات الحارّة، لمحَ راكانُ رجلاً و هودجاً غريبين يقفانِ أمامَ خيامِ عمهِ ضاري، و عندما استفهمَ من أمهِ عن أمرِهما، وضعت سبابتها تحتَ أذنها و سحبتها حتى وصلت إلى ذقنها -مما يعني أنها تتحدث عن وضحى-، ثمَّ كوّرت يدها اليسرى، و أدخلت بنصرَها الأيمن في يدها اليسرى، و كأنها تلبسهُ خاتماً.

حلَّ الخبرُ كالصاعقةِ على راكان، و تمالك نفسه حتى لا يتهاوى أمام والدته. استجمعَ كلَ قواه في ساقيه المرتعشتين، و أخذ يمشي بخطى متهالكة قاصداً الموضع الواقع وراء الخيام حيث لا يراه أحد. عندما خلا بنفسهِ هناك، أخذ يجري بكل ما بقي في ساقيه من قوةٍ حتى غاب عن الأنظار. كانت الريحُ تشتدُ في أثره، و كأنها تسابقه نحو الموضع الذي يقصده. لم يتوقف حتى وصلَ إلى وادي الطلحِ، و عندما توقف، كانت الدموعُ تسيلُ دِفاقاً فوقَ خديه. أحسَّ راكانُ بغصةٍ هائلةٍ تترقرقُ في حلقه، و بفقدٍ هائلٍ يملأُ روحَه، و لكنَّ أكثر ما أفزعهُ هو هذا الضعف الذي لم يعهدهُ في نفسِه.

وضحى تزوجتْ! تَزَوجَها الرجلُ الغريب الذي لم يره في المضارب من قبل، و سيمضي بها إلى قبيلته و أهله، و لن يراها أبداً بعد الآن. لن يرى وجهها الحبيب و عيونها الواسعة بعد الآن. لن يرى ابتسامتها الحلوة و أنفها الأشمّ. سوف تمضي، و سينساها، و ستسرق الأيامُ ذكراها كما تسرقُ الريحُ لوحاته الرملية. كانت سعالي الصحراء تنفخُ الرياحَ بقوةٍ و تنثرُ الرمالَ فوقَ وجهه، و كأنها تسخرُ منه.

قفزَ راكان إلى أقرب شجرةِ طلحٍّ منه، و سحب أحد أغصانها حتى كسره، و أزال الأشواك الناتئة بسرعةٍ تجرّحت معها يداه. كانت الريحُ تشتدُ من حولهِ و تنثر الرملَ و الغبار. انحنى راكان على الرمل و بدأ يرسمُ بهوسٍ و بسرعةٍ وجهَ وضحى. لم يرسم إطاراتٍ هذه المرة. كان عقله مشغولاً عن الإطارات بوضحى، و كانت الريح تعصفُ بشدةٍ لا تسمحُ له بأن يهتم بأمور شكليةٍ مثل هذه. و لكنَّ رسمَ أي شئٍ تحتَ عصفِ هذه الريح المسعورة كانَ أشبه بالمستحيل. كان كلما حفر خطاً على الرِمال، أزالتهُ الريحُ العاصفة، و كانت الدموعُ المختلطةُ بالرملِ تملأُ عينيه و تعيقهُ عن الرؤيا. لكنه لم يتوقف. كان يرسمُ و يرسمُ و يرسم، حتى حرثَ الوادي خطوطاً تحاولُ أن تتشابكَ لتحفظ له وجه حبيبتهِ دونَ جدوى. في الأخير، سقطَ راكان متهالكاً بعدَ أربعِ أو خمس ساعات، و أخلدَ للنوم على إحدى التلات المرتفعة المُطِلة على الوادي.

عندما أفاق، كانت الرياح قد خفّت حتى كاد أن لا يشعرَ بها، و كانت الشمسُ الغاربة تنثرُ أشعتها الحمراء على طول الوادي. تطلعَ راكان من تلتهِ المرتفعة إلى الأسفل، و أخذَ يتتبعُ آثارَ ضربات عصاه التي أبقت الريحُ بعضاً منها، بعد أن لعبتْ بها و غيرت في اتجاهاتها. كادَ قلبه أن يتوقف عندما وصل بعينيه إلى الجانب الجنوبي من الوادي، و عندما تأكدَ من حقيقةِ ما يراه، طفرتْ دمعةٌ أخيرةٌ من عينهِ أحسَّ بعدَها بالطمأنينةِ و الراحة. كان وجهُ وضحى مبسوطاً على مساحةٍ هائلةٍ من الرمال. كان مرسوماً بتفاصيله الدقيقة، و ملامحهِ المُحببة، و جماله الهادئ. هذه هي وضحى بعينيها الشهلاوين، و أنفها الأشمّ، و ابتسامتها الحلوة. هذه هي وضحى كما عرفها و كما سيتذكرها دائماً. و لكنَّ أكثرَ ما أثار انتباه راكان و دفع بالدمعة الأخيرة فوق خدِه، كانت عنقها الطويلة التي رُسمت بطريقةٍ غريبة، و كأنها تلتفتُ إلى الوراء، قبل أن تمضي بعيداً مع الريح.

 

عبدالعزيز رشيد غير متصل   رد مع اقتباس