منتديات أبعاد أدبية - عرض مشاركة واحدة - الشيء الذي ترك لسانه عندي وذهب...
عرض مشاركة واحدة
قديم 04-08-2014, 04:33 AM   #3
فقـد
( كاتبة )

الصورة الرمزية فقـد

 







 

 مواضيع العضو
 
0 ... ترتيل
0 ... مـد
0 *Sisters*
0 ... حديث

معدل تقييم المستوى: 18

فقـد سوف تصبح مشهورا في وقت قريب بما فيه الكفاية

افتراضي


يقع بيتنا، البيت الذي انتقلنا إليه، في منطقة فقيرة جداً في بني ياس
ورغم إننا لم نكن فقراء في الحقيقة، إلا أن أبي وجدي سمعا بأن الحكومة قررت هدم المنطقة
وتوزيع بيوت شعبية كبيرة للمواطنين القاطنين فيها، بيوت من الحكومة...
ومازاد هذه الإشاعة تأكيداً أن أبونا زايد -رحمه الله وطيب ثراه-
ظهر على التلفاز وهو يأمر ببناء بيوت للمواطنين وتوزيعها بأسرع وقت ممكن
ووعد ببيت لكل أسرة مواطنة، ولكل شاب مواطن.

كانت بيوت الناس مصنوعة من الخشب، مثل المخيمات سطوحها من القصدير
أحياناً كانت الأبواب حديدية، وأحياناً كثيرة كانت مجزد غطاء خشبي مثبت ببعض المفاصل
لم تكن الأبواب مقفلة، كانت كل الأبواب مفتوحة. وكان الجميع يدخل على الجميع، والجميع يعرف الجميع
بيتنا كان خشبياً من الخارج لكن اسمنتي من الداخل، ربما كان البيت الوحيد المبني من الاسمنت
وكانت فيه غرفتان فقط، ومساحة خارجية أغلق أبي نصفها فيما بعد وحولها إلى صالة

عندما دخلت أمي أول مرة إلى البيت انصدمت، قالت بصوت عال: "أنا... كيف أعيش هنا؟"
كان انتقالها من بيت جدي إلى هذا العش الكئيب طعنة مؤلمة
وكان خروجها من مدينة أبوظبي إلى قرية نائية وفقيرة لتلك الدرجة، غصة تعلقت في حلقها لفترة طويلة
خصوصاً وأن كل حريم أعمامي الأخريات لم يضطررن لمثل هذا الانتقال
كل واحدة منهن عاشت في شقق متطورة، أو فلل مؤثثة بأحدث الأثاث وأجملها
لم تستوعب أمي سبب اضطرارها للعيش في تلك المنطقة... لم تستوعبه أبداً
ولم تتفهم الأثاث البسيط والتافه الذي أثث فيه البيت
كان أثاثاً مستعملاً، حتى غرفتها المستقلة الأولى لم تكن جديدة!

عندما عدنا لبيت جدي قبل انتقالنا بفترة بسيطة، سمعت أبي يحاكي أمي
أقنعها بأنها فترة مؤقتة، قال: "تسعة أشهر، تسعة أشهر فقط، ثم تعطينا الحكومة فيلا كبيرة ستصبح ملكك أنت
ستكونين أنت أميرتها والله، تسع شهور مثل الحمل والولادة"
لم تقل أمي شيئاً، ولم تكن تعرف أن هذه الأشهر التسعة ستمتط إلى سنوات كثيرة، تسع سنوات على وجه الدقة
كانت على استعداد لأن تفعل أشياء كثيرة من أجل أبي، أي شيء وكل شيء
خصوصاً عندما تكون بين يديه، خصوصاً عندما يشاركها كل شيء

العلاقة بين أبي وأمي كانت هادئة
كان أبي حنوناً جداً، حنوناً على أمي بالذات،
كان يشعر بأنها امرأة بسيطة ولذلك كان يحبها، لم تكن أمي معقدة، طلباتها في الحياة صغيرة
كلمة واحدة ستقلب يومها كله إلى سعادة أو... حزن شديد
وكان أبي يعرف ذلك، ويقدره كثيراً
لذلك عندما تغضب أمي وتثور ويعلو صوتها، كان أبي يلتزم الهدوء، ويحاكيها بصبر يوازي صبرها على كل شيء
وكنا نعرف أن أبي يحب أمي لأن أمي تخبرنا كل يوم كم تحب أبي، وكم هو رجل طيب، ويتعب من أجلنا... يتعب كثيراً

نعم،
كانت حياتنا تشبه تلك التي نقرأ عنها في الكتب والحكايات
الأب الذي يغيب طوال اليوم بحثاً عن لقمة العيش،
والأم البسيطة التي تهتم بالمنزل وبالأولاد وتطبخ الطعام وتدرس أبناءها
كان أبي يغيب عنا أسبوعاً كاملاً، كان يعمل في حقل من حقول البترول
وكان يعود إلينا لمدة ثلاثة أيام فقط تسميها أمي: أيام العيد
في أيام العيد، تجهز أمي أجمل ملابسنا وتزيد مصروفنا اليومي درهماً كاملاً،
كنا نذهب إلى مدارسنا ونحن نحمل في جيبنا ثلاثة دراهم، ما يعني أننا وصلنا لطبقة الأغنياء جداً
أحياناً كنت أحتفظ بالدرهم لكي أشتري به حلويات من دكان أبو بكر القريب جداً من بيتنا

كانت عودة أبي إلى البيت تمثل حدثاً أسبوعياً بهيجاً، احتفال لم تمل أمي من إقامته طوال فترة عمل أبي
كانت تهتم بنظافة كل زاوية في المنزل، حتى تلك الزوايا التي لا يمكن أن ترى بالعين المجردة
لم أفهم أبداً، إلى اليوم، أهمية أن نسحب الثلاجة الثقيلة لكي ننظف تحتها ثم نعيدها لمكانها!
تقول أمي: آبوك قوي، لو فتح الباب وتحركت الثلاجة قليلاً ورأى كل هذا الوسخ تحتها ماذا سيقول؟
لا أعتقد بأنه سيقول أي شيء، سيصمت ويأخذ ما يريد ويذهب...

بعد أن تتأكد من أن أركان المنزل لمعت،
وهو ما كان صعباً نظراً للمنطقة التي كنا نعيش فيها
تحني شعرها لأن أبي يحب رائحة الحناء، وكانت تخرج قنينة عطر خاصة لا تضعها إلا لأبي، تقول بأن أبي يحب رائحة الياسمين
وكانت تلبس الألوان التي يحبها أبي، خصوصاً الأزرق والبنفسجي والبني
ولم تكن تضع الماكياج، لا يحب أبي الماكياج أبداً، يقول بأن الله خلق أمي جميلة ولا تحتاج للمساحيق،
لذلك كانت أمي تعتني برائحتها كثيراً
أمي امرأة جميلة جداً، بيضاء مثل الثلج، وشقراء وشعرها ناعم، يسميها أبي الزبدة السايحة.
وكنت أتساءل دائماً لماذا خلقني الله حنطية لهذه الدرجة، وشعري أسود وثائر بهذه الطريقة الغبية

كانت أمي تجبرني على ارتداء الفساتين الأنثوية يوم عيدها، وكنت أكرهها
لأني عندما أخرج للخارج ويراني أصدقائي وأنا أرتدي هذه الثياب التافهة يعلقون على شكلي
خصوصاً مع التريحة البلهاء التي تعتمدها آمي مع شعري الثائر،
حيث تشد كل شعرة للوراء في ظفيرة واحدة ملفوفة من قمة رأسي لأسفل
كان عبدالله يضحك على شكلي وأحياناً كان يحضر كاميرة أخته الكبرى ويلتقط صوري للذكرى!

عندما يعود أبي، عندما يدخل للمنزل، كنا نصرخ: جاء العيد، جاء العيد.
نركض جميعاً إلى حضنه، وكان يضمنا أنا وأختي نورة وأخي أحمد بقوة
ثم يرفع رأسه إلى أمي ويقبلها ويحتضنها ثواني قصيرة كفيلة بأن تحول وجه أمي الأبيض للون أحمر قان،
أحياناً كان يخرج من جيبه وردة اقتطفها من الطريق ويعلقها وراء أذن أمي
وأحياناً كان يقول: اشتقت لك
وأحياناً لم يكن يقول أي شيء، يدخل للصالة الصغيرة ويجلس على الأرض
لأننا لم نمتلك كراسي للجلوس وقتها...
ونبدأ حفلة الكلام، أنا أحكي ونورة تحكي وأحمد يحكي
وأبي يستمع بصبر شديد بينما تجهز أمي السفرة
ونجلس كلنا على الأرض حول صحن كبير
ونأكل أطيب الوجبات في العالم: رز بعدس وسمك مقلي وسلطة، خبز بلدي وعسل وفتة موز، رز ولحم وصالونة
كانت هذه الوجبات الاحتفالية خاصة فقط بأيام العيد، الأيام الثلاثة التي يعود فيها أبي للبيت

في اليوم التالي بعد أن نعود من المدرسة
نخرج بعد العصر ونذهب إلى أبوظبي، نذهب إلى الكورنيش ونصعد لقمة النافورة الكبيرة وندور حولها
ثم نذهب إلى حديقة المطار ونلعب بالمراجيح ويركض أبي وراءنا ويركب كل الألعاب معنا
ثم يشتري لنا وجبة فروج مشوي وتبولة وحمص من زهرة لبنان ونذهب إلى حديقة صغيرة نأكل الوجبة ونعود للبيت

في اليوم الثالث نزور بيت جدتي
التي تطبخ لي المعكرونة لأنها تعرف جيداً أني أعشق المعكرونة
ولسنوات طويلة ستطبخ لي جدتي المعكرونة كلما عرفت بزيارتنا لهم،
وستخبر الجميع بأنها طبختها لي خصوصاً
ثم نعود للبيت، وتحزن أمي مرة أخرى، وتخلع كل ألوانها، وتغيب رائحتها إلى العيد المقبل...

 

فقـد غير متصل   رد مع اقتباس