منتديات أبعاد أدبية - عرض مشاركة واحدة - قِصصٌ تُروى .
الموضوع: قِصصٌ تُروى .
عرض مشاركة واحدة
قديم 03-08-2009, 11:54 AM   #16
عائشه المعمري

كاتبة

مؤسس

افتراضي محمد سيف الرحبي


البارع

حرك قدما باتجاه البحر ،حرك أخرى باتجاه اليابسة ، طفول تختبئ هناك بين أشجار النارجيل ترصد حركة أقدامك ، أمسك خنجرك جيدا وسر مع خطوات رفيقك على
البساط الممدود فالأرض مثقلة بخريفها .

استدر للوراء ، خذ دورتك كاملة ،انتهى المشوار الأول ، انتهت المساحة المهيأة أمامك ،
ارفع قدمك وأستدر ، تعلم أن تضع إضاءة المكان على حد خنجرك ، طفول ربما ، هناك ،
تراقبك ، تنسل من بين أحراج الموز خضراء مدهشة ، يبتل خمارها برذاذ الخريف ، كم
مرة بحد خنجرك أخرجت الماء من بطن نارجيلة ؟! حين شربت طفول ماء (المشلي) أردت أن تخرج لها البياض الطري ، لكنها انسربت منك داخل أشجار الموز الكثيفة ،
أعجبتك اللعبة ، دخلت معها ، لم تكن كما أردت ، حينها غضبت ، وتحركت خنجرك في
سيقان وأوراق الموز تمزق بشراهة الأجساد الطرية .

أزل الذكرى عن كهوفك الآن أيها البارع ، فالموسيقى لا تزال تسكب عنفوان الصور على مخيلة الواقفين حواليك ، والطبل (المرواس) يحمل حدة صوته ، جلية ، متتابعة ، كأنه
يموسق موج البحر ، والطبل (المهجر)عميق كعذابك ، تختال في أذنيك أصوات الناي ،
حزين هذا الناي كحزنك ، شجي وعذب ، كطفول ، لكن طفول ، نزق الأرض ، وشموخ
الجبل ، لا تقبض الخنجر لترقص .. واصل استداراتك فرفيقك يهز خنجره :
"حبل المحبة الهي رب لا تقطع
والشمل تجمع لمن له قلب هجاعي"

عين على الخنجر ،وعين على أطراف المكان ، وطفول ، دفقة خضبت جراحك حنا لا يزول

أيها البارع خفف الذكرى حتى لا تثقلك : حتى لا تقع والخنجر في يدك ، طفول كانت رائحة الوقت والمسافات نحو البعيد ، مضت كغزال بري صوب الجبل ، طفول لا تشرب موج البحر
، لا تسكن إلا ظل الصخر ، ، غادرتك طفول منذ زمن ،وما زلت تقبض على الزمن في حد
خنجرك ، خنجرك مرهف ، عنيد ، متوحش ، جسور .. كخطى طفول ، لكنك لست
كخنجرك:

"لله محبي صغير السن يتواضع
يعطف ويرحم من اللي كبده لساعي"

ارجع خطوك مرة أخرى ، الزمن ليس في صالحك ، جرد ذاتك من ذاتك ، ستكتشف أن
الأرض انسحبت من تحتك ، أن البحر غادر مياهه ، أن الدم لم يرض بشرايينه .. وحدك
تختال مرحا بين الجموع وفي قلبك لهيب الموسيقى وإيقاع الطبل .

"اللي مجاري دموعه جرح المجمع
واللي فؤاده قطار دماعي"

ابتعد عن رفيقك كي لا تقعا معا فالبساط يمتد بامتداد خطوكما ، ليس أبعد من ذلك
ارفع قدما ، انزل قدما ، حرك قدما ، سكن قدما ..

ارفع ، انزل ، حرك ، سكن

احرق اليابسة من تحت أقدامك لعل المكان يخضر بسهوب خريفك ، أشجار العمر
تساقطت ، ضاعت في صحراء الربع الخالي وخريفك ممتد إلى ما لا نهاية ، ممتد لكنه لا
يصل ، فقط يحلم بطفول .

الوجوه تتكاثر من حولك ، تتزاحم لرؤيتك ، وأنت فاقد للرؤية ، الضباب من حلوك يلتئم
على عينيك ، لا رؤية إلا وجه طفول ،يبعث الفضاء ضحكة طفول ، تنشق الرؤيا أمام
عينيك ، تسرع في خطوك ، تبتل قبضتك على الخنجر ، طفول ترسل ضحكاتها في اتجاه
البحر وأنت لا ترى إلا اليابسة ، ولا صوت إلا الناي يتكسر دمعا ، ومن حولك لا يرون دمك
أيها البارع ، كانت طفول ثورتك ، لكن لست ثائرا ،غادرتك أيها البارع ، منذ زمن رحلت
طفول إلى الجبل ، تذرع أنفاس الوحوش وحدها ، كغابة ضيعت أشجارها ، طفول ، هذه
الثائرة في زمن اللاثورة لم تعد كما كانت ، أنت المبلل بالضباب وموج البحر ، تعود إليك
الأصوات ثانية :

"حبل المحبة الهي رب لا تقطع
والشمل تجمع لمن له قلب هجاعي"

حرك قدما ، تقهقر إلى الوراء بظهرك ،وخذ دورتك كاملة ، عد إلى الوراء الذي كنت فيه،
لا زالت الرقصة مستمرة .

حرك قدما ، شاطئ مرباط بعيد عنك ، والسفن يعبث بها الموج في انتظار الإبحار ، حرك
قدما ، استدر للوراء ، ربما السفن تغادر مراسيها، لا تثق بالموج ، فقط احفظ توازنك ، يدك
اليمنى تتمسك بالخنجر أكثر فأكثر ، تصبح كأن اللحم جزء من مقبض النصل ، ورفيقك
معك، الموسيقى ثائرة والكون ضباب أبيض .. أبيض .. كالبياض الطري الذي جعل طفول
تنسل إلى أحراش الموز ، لكن لا مكان أمامك تنسل إليه .

ارفع قدمك ، بادل بينها والأخرى ، لا تبطئ ، أسرع فالنواخذة شدوا صواريهم ، حرك قدما
، لا تبطئ ، فطفول لن تأت ، تذكر أيها العاشق أن البحر أسطورة المغامرين ،الجبل ليس كما هو الجبل ، أخرج الأسطورة من جيبك ،تقول الأسطورة انه في رأس الحمراء تم العثور على 220مدفنا لرجال متوفين في وضع القرفصاء وباتجاه البحر ، أياديهم تمسك
على الأصداف الفارغة ، إلا واحد يمسك لؤلؤة في يده ،تمنيت لو تكون أنت ،لكن طفول
،لؤلؤتك غابت ،غامت سماؤها ، أمطرت جبال سمحان والقمم المجاورة له .


حرك قدما ، هذه الغزالة البرية لا تسمع نغمات برعتك ،لا تلتف إلى حركات قدميك.. ربما .. ربما تفكر فقط في نصل خنجرك .

حرك البارع قدما في اتجاه البحر ..

الأخرى باتجاه اليابسة ..

تهاوى صوت الإيقاع ،وصوت الناي ..

كان البارع يقبض على مقبض الخنجر بيده اليمنى ، وعلى النصل بيده اليسرى، لم يكن المطر وحده يسقط على البساط ، كان هناك شلال أحمر من يدي البارع ، وحدقتيه.

 

عائشه المعمري غير متصل   رد مع اقتباس