منتديات أبعاد أدبية - عرض مشاركة واحدة - يوتوبيا الشياطين (رواية)
عرض مشاركة واحدة
قديم 11-07-2018, 09:26 AM   #6
عمرو مصطفى
( كاتب )

افتراضي


4 ـ تلك الفتاة

لقد عاد الشويش الأخر عبد الرحيم من إجازته، الحقيقة لا أجد فارقاً كبيراً بينه وبين
ديريني، إنه نحيل وله شارب ينافس شارب الأول، فالشارب هنا مهم جداً وبه تقاس رجولتك..
لذا فشاربي المتواضع بالنسبة لشاربيهما يجعلني أبدو لهما كالمراهقين..
عبد الرحيم كذلك يسكن في بلدة مجاورة لكفور الصوالح وهو يتناوب الراحات مع ديريني
الذي يسكن معه في نفس بلدته لعل اسمها طانطور أو حنطور ..لا أذكر حقيقة ..
المهم أنه حينما عاد برهن على أن له زوجة محترفة تجيد صنع الفطير (المشلتت)إياه الذي يبض بالسمن البلدي..
وكالعادة أتوقف بعد اللقمة الثالثة أو الرابعة ولا استطيع تحمل كل هذا الدسم ..
هذه مشكلتي مع الفطير بالسمن .. لا أستطيع أن أشبع منه أبداً من فرط الدسم ..
سمعت ديريني يسأل رفيقه عن البط المحمر.. فأجابه بفم ملئ بالفطير والبيض:
ـ الزيارة القادمة إن شاء الله..
..إذن موعدنا مع البط سيكون بعد حين.. لا فرصة لديك لتناول طعام بيتي ههنا إلا
مع نزول أحد الرجلين للراحة.. أو حينما يدعوك العمدة على الغداء.. أو أن تأخذ
أجازة كبقية الخلق وتعود لأهلك.
لكنني لا أستطيع طلب إجازة بهذه السرعة ولا أريد حقيقة.. رغماً عن اشتياقي
لطعام السيدة الوالدة ونظرات والدي البوليسية المرعبة .. لن أفكر في إجازة حتى
أتأكد أن كل الفتيات التي تعرفهم أمي قد تزوجن أو متن..
لابد أن أنفض عن رأسي كل تلك المشاعر الأسرية السخيفة التي لا تقدم ولا تؤخر..

وقفت أتأمل قوة النقطة المهيبة فخر الجندية وهما يفتكان بالفطير بالسمن والجبن
الفلاحي بكل رضا عن النفس.. أنت بحاجة لعشرة فكوك حتى يمكنك ملاحقة فكي
ديريني وعبد الرحيم وهما يأكلان.. لم يكن الشارب الضخم بعائق لهما عن
القضم والمضغ والبلع.. ماذا لو كان هناك بط في الموضوع أيها الوحوش..
هنا تذكرت!
إذا لم يكن هناك بط.. فعليك أن تجد واحدة..
إن معي بندقية صيد قد أتيت بها من القاهرة.. لكنني نسيتها وانشغلت
عنها بصيد حشرات الليل الزاحفة والطائرة..
قد حان الوقت للخروج في رحلة صيد حقيقية عند أطراف القرية.. بالقرب
من تلك البقعة التي أرعبتني يوماً ما في الليل.. هناك تنشط الطيور البرية..
هناك هواء الريف العليل يقوم بعملية مسح وتنظيف لبقايا عوادم المدينة العالقة بصدري..
لمحت في جهة الأفق الشرقي سرب من الطيور يحلق فصوبت البندقية وكتمت أنفاسي..
لكن حينما دوت الطلقة سمعت صرخة أنثوية حادة لا علاقة لها بالطيور التي واصلت التحليق بسلام..
هذه الصرخة الأنثوية الهستيرية تأتي من على الأرض..
وفهمت على الفور أنني ارتكبت خطئاً صغيراً!!..
لقد كدت أفقا عين فلاحة من الفلاحات برصاصة طائشة.. ولا تسألني كيف أخطأت
سرب الطيور في السماء وكدت أصيب تلك الفلاحة على الأرض هذه أشياء تحدث ..صدقني ..
كان صدى الطلقة يتردد في نفس الوقت الذي كانت الفتاة تصرخ وتولول وتلطم خديها
معتقدة أن الطلقة أصابتها في مقتل.. صبراً يا حمقاء لقد كدت تقتليني رعباً ..
- أهدئي يا ..... الطلقة لم تصبك ..
تحسست جسدها بحركة هستيرية سريعة ثم فوجئت بها تتغير مائة وثمانون درجة ..
الهرة الخائفة تحولت لنمرة شرسة ..كانت تتوعدني بالويل والثبور وعظائم الأمور
وأنني لو مسستها فلن أجد مكان في القرية يحول بيني وبين انتقام أهلها ..كان
يمكنني إسكاتها بمجرد الإعلان عن هويتي لكنني لسبب ما كنت مستمتعاً بشراستها..
قلت لها بتهذيب :
ـ دعيني أصحح خطئي ..
ـ كيف ..؟
ـ سأتزوجك ..
بالطبع صدمتها عبارتي الساخرة و تورد خداها خجلاً وهي تلوح بكفها في وجهي متهمة
إياي بقلة الحياء .. وأن أهلها سيحولونني إلى (كفتة) لو علموا بفعلتي ..
ـ أنت لا تعرف من أكون.. أنا فاطمة بنت جابر الصوالحي.
طبعاً كانت تعتبر مجرد ذكر اسم أبيها كافياً كي أنهار وأطلب الصفح..
سألتها في بساطة متجاهلاً ثورتها :
ـ ما الذي أتى بك إلى هنا يا فاطمة؟.. المكان هنا نائي وخطر بالنسبة لفتاة مثلك ..
ـ لا شأن لك بي ..
قالتها في غل وعيناها تقدحان الشرر.. ثم أدركت أنها قد أطالت معي الحديث
أكثر من اللازم فاستدارت مبتعدة لا تلوى على شيء.. هرة ساذجة كانت..
ـ انتظري حتى أوصلك ..؟
ـ لا شأن لك بي ..
ووقفت وحدي أردد أسم فاطمة بنت الحاج جابر الصوالحي كأني أتذوقه..
المسكينة لم تنتبه إلى أنها أخبرتني باسمها كاملاً ..المسكينة لم تنتبه إلى
أنني رامي بارع وأنني لا أخطئ هدفي أبدا ..
لقد أصبت هدفي و بمهارة ..
هنا لمحت تلك اللفافة التي سقطت منها فيما يبدو، وانحنيت على الأرض لألتقطها..
قلبتها في يدي بحيرة، ثم خمنت أنها نوع من البهارات أو التوابل.. وقررت الاحتفاظ بها كتذكار لهذا اليوم..
وهكذا دسستها في جيبي وعدت أدراجي إلى نقطة الشرطة قانعاً بصيد اليوم..
وجدت ديريني يغسل بعض الثياب في طست وعبد الرحيم يعد بعض الشاي..
حينما رآني الأول تساءل في دهشة :
ـ أين البط يا فندم؟..
لوحت ببندقية الصيد قائلاً في جذل :
ـ لقد اصطدت بطة.. لكن ليس كأي بطة..
قال في فرح وهو يعصر الثياب بحرفية نسائية يحسد عليها :
ـ الله أكبر.. لكن أين هي يا فندم؟..
أرحت البندقية على عاتقي وتوجهت للسلم الموصل للاستراحة قائلاً :
ـ هذه البطة ليست للأكل أيها الوحوش..

***

مشروع اليوتوبيا يمر بمنعطف تاريخي..
كنت جالساً في النقطة أرمق القرية الساكنة من النافذة المجاورة لمكتبي..
لا شيء سوى صوت الناموس الخارق للدروع ومجموعة هناك من البط تسبح
بانسيابية في ترعة القرية.. باليه بحيرة البجع كما يحلو لي أن أسميه!
فاطمة بنت جابر الصوالحي.
لم أنس الاسم ولا صاحبته منذ عدت من رحلة الصيد..
جابر الصوالحي دعني أهنئك على تلك اللوحة الفنية المبهجة التي رسمتها هرموناتك..
أنت فنان ضل طريقه إلى الطين والزرع.. اتمنى لو قابلتك لأشد على يديك..
تباً أنا بحاجة للثرثرة مع أحدهم..
وتذكرت الرفاق في القاهرة وشعرت بالحنين إلى تلك الجلسات الدافئة..
لم يكن لي هنا سوى ديريني وعبد الرحيم..
وطبعاً علاقتي بهما لا تسمح بمثل تلك الفضفضة.. هنا تذكرت اللفافة.. الشيء
الوحيد هنا من رائحة فاطمة.. لقد تركته في سترتي الأخرى.. غادرت مكتبي
مزمعاً الصعود للاستراحة حيث تركت السترة لكن ارتطمت عيناي بحبل الغسيل
الذي صنعه ديريني قبالة الباب وأدركت أنني قد تأخرت جداً..
كانت السترة معلقة على الحبل والماء يقطر منها.. أولجت يدي في الجيب
بسرعة فعثرت يدي على اللفافة وقد تحولت إلى عجين..
عصرتها في غل كأني أعصر عنق ديريني نفسه ثم تركتها وعدت خائباً
إلى مكتبي وإلى تأملاتي الشاعرية..
ماركس ترى ماذا سيكون رد فعلك على ما أنا فيه الآن؟.. طبعاً لم أكد
أتذكره حتى وجدته يتمطى في المقعد المقابل للمكتب..
ـ هل أيقظتك؟..
نظر لي بوجه مغتم وقال متجاهلاً سؤالي:
ـ هل جئت لكفور الصوالح من أجل أن تقع في حب فتاة قروية؟..
هذه هي روعة ماركس.. أنه ليس بحاجة لمقدمات.. قلت بترفع:
ـ ليس حبا.. لقد قابلتها لتوي..
أغمض عيناً وفتح الأخرى فيما معناه : ألعب غيرها..
فعدت أقول بتؤدة :
ـ إن تلك القرية أرض بكر وخصبة.. فما الذي يضير لو قطفت من تلك
الأرض زهرة برية يانعة.. أنت تفهمني أليس كذلك؟..
عقد ساعديه أمام صدره وهو يرمقني بنظرة شك مزعجة.. ذكرني بمدرس
اللغة العربية حينما كنت أتحجج أمامه بحجج واهية كي أفلت من العقاب.. سألني متبرماً :
ـ وكيف ستقطف تلك الزهرة يا ترى؟..
أجبته بتلقائية :
ـ سأتزوجها طبعاً..

***

رأيت حاجبي ماركس ينعقدان بشدة وصوته يزداد تجهماً وعمقاً :
ـ زواج أيضاً!..
قلت له ببساطة :
ـ لماذا تعارض فكرة الزواج لهذا الحد.. هل أنت معقد لهذه الدرجة؟..
نظر لي بامتعاض.. ثم قال كأنما يخاطب طفلاً:
ـ قاموس اليوتوبيا يا عزيزي لا يحتوى على لفظة زواج..
قلت له مؤمناً :
ـ أعرف يا رفيق.. لكن لو فكرت هنا في طريقة أخرى فستطير رقبتي..
لابد أن أتزوج كما يتزوجون وإلا فسوف أتحول لراهب.. وهذا هو مالم نتفق عليه ..
وضع كفه على عاتقي بحنو أبوي كنت مفتقده وبشدة.. وقال:
ـ بل أنت الذي مازالت متأثراً بضوابط مجتمعك المتخلف..
قلت له في ضيق :
ـ لا تقل هذا يا رفيق؟..
نظر لي بعينيه العميقتين اللتان تسبران غوري دائماً وهمس:
ـ يمكنك أن ترتبط بأي أنثى تريد.. لكن لماذا تلك الفتاة القروية بالذات؟..
شعرت بصدري يزداد ضيقاً وبالدماء تحتشد في أذني..
ـ أنت تحبها يا رفيق؟..
قلت بشيء من الحدة :
ـ أنت لا تفهمني.. أنا لا أعرف دوراً للقلب الذي أملكه سوى أنه مجرد مضخة تضخ الدماء..
فاطمة بالنسبة إلي مجرد جزء صغيرمن مشروعي.. فهمت الأن لماذا أبعدت حينما أقحمت
القلب في الموضوع.. المسألة مسألة زواج فقط يا صاحبي ..نواة لمجتمع اليوتوبيا الذي أحلم به..
لم أصرح له أنني كنت بحاجة إلى أن .. أحم .. ألبي نداء الطبيعة لو جاز لي التعبير..
ولا سبيل لذلك في مجتمعنا سوى بالزواج .. ولما لم يكن من الزواج بد ..
فلتكن رفيقتي إذن فتاة قروية من وراء الجاموسة كما يقولون..
أريد تلك الفتاة ..تلك الأرض البكر التي لم تحرث بعد .. هذه هي فتاة أحلامي يا سادة..
لو صح التعبير فـأنا لم أكن يوماً حالماً لكنني أحاول التقريب ..
لست على استعداد للزواج من سوزان أو سوسن .. فلا أريد لزوجتي أن تكون قريبة
مني في ثقافتها ..أريد أن يكون بيني وبينها مفاوز وقفار .. أريدها ان تنظر
لي دائماً من أسفل لأعلى نظرة انبهار ..
قال ماركس وهو ينفخ :
ـ إنها ليست من مستواك الاجتماعي..
نظرت له مصدوماً..
ـ لماذا تتكلم بهذه النبرة الطبقية يا رفيق؟.. أنت الذي علمني أن الناس مستوون كأسنان المشط .
ـ هو كذلك يا رفيق.. لكن لا ينبغي أن تصادم مجتمعك بهذه الفجاجة..
قلت له وقد فشلت في ابتلاع كل تلك المتناقضات :
ـ و نسف مبدأ الزواج.. أليس هذا يصادم أسس المجتمع؟..
سكت ماركس برهة وهو ينظر لي في برود مفاجئ.. ثم قال ضاغطاً على حروف كلماته :
ـ هذا القرار يهدد اليوتوبيا..
قلت في تصميم :
ـ أنا أفعل هذا من أجل اليوتوبيا نفسها..
هنا انفجر ماركس في ثورة :
ـ أنت أناني لا تفكر إلا في نزواتك الحقيرة..
طبعاً غلى الدم في عروقي وشعرت أنني على وشك ارتكاب
جريمة.. لقد تجاوز ماركس كل الحدود معي ولم أكن لأسمح له بالمزيد..
ـ أنت لست وصياً علي..
أشار لي بسبابته محذراً أو مهدداً :
ـ ستندم على هذا..
ـ أنا نادم فعلاً لكن ليس على قراري..
ـ لقد أنذرتك..
وفي لحظة تلاشى ماركس ووقفت وحدي أحدق في الفراغ الذي كان يحتله منذ لحظات..
الغرفة خالية..
هل كنت أحدث نفسي منذ البداية؟..
اخترعت شخصية ماركس وتبادلت معها الحوارات ولا وجود لها إلا في ذهني..
هل هذا هو الجنون الذي يتحدثون عنه.. ربما..
لكنه ليس من النوع الخطر.. ليس من النوع الذي يعيق عن الزواج على الأقل..
سأطلب يد فاطمة من أبيها ولتزأر العاصفة ..

***

حينما جن الليل توجهت لمنزل جابر الصوالحي أو دواره كما يطلقون عليه ههنا..
كان لا يختلف كثيراً عن سائر الدور ..فقط هو انظف قليلاً لأن حظيرة المواشي
منفصلة عنه .. ولا يختلف كثيراً من حيث الأثاث ..كنت أجلس في حجرة الضيوف
حيث الدكة العتيدة التي تعاقبت عليها أجيال وربما مات عليها العشرات من
أجداد جابر الصوالحي .. الكليم الرمادي والطست والأبريق النحاسي ..
ذكر البط الذي يرمقك في شك وفضول ..قبل أن يعلن عن رأيه فيك
وبصراحة : كوااااااك... من ثم تكشر له أنت عن أنيابك فيفر، مرفرفاً بجناحية وقد تأكد أنك مجنون تماماً ..
لا أحد عاقل يفعل هذا مع ذكر بط أبداً ..!!
ثم يظهر أخيراً رب الدار..
ها هو الحاج جابر يمد إلي كفه الناعمة مصافحاً ..هذه كف كفت عن الشقاء..
لكن لماذا أرى ركن فمه يختلج وهو يرحب بي..
ـ الدار نورت يا حضرة الضابط
ابتلعت ريقي محاولاً تذكر ما جئت من أجله على حين صفق الحاج جابر بكفيه طالباً واجب الضيافة..
وعاد ينظر إلي نظرة زائغة ..الرجل منزعج جداً من زيارتي ولا يرحب بي البته لكنه مضطر لمراسم
الاستقبال والضيافة كما يقتضي الدين والعرف وإلا ..فهو يعتبر زيارة ضابط النقطة
عمل مشين يهدد سمعته خصوصاً حينما يأتيه بالزي الرسمي ..
ـ خيراً يا حضرة الضابط .. ؟
فتحت فمي لأتكلم لكن خرتيتاً أدمياً اقتحم الحجرة حاملاً صفحة عليها كوبي شاي ..
علمت فيما بعد أن هذا الخرتيت أحد ابناء الحاج جابر يدعى مداح ..
ـ اتفضل شاي ...
قالها الخرتيت وهو يضع الصفحة أمامي فتناولت كوباً وأنا ألعنه في سري ..
لقد بعثر الوغد ما قضيت الليل في نسجه من كلمات ..
لكن لا بأس ..لنرتجل .. رشفت رشفة من كوب الشاي ..وانسلت من بين شفتي كلمة :
ـ جئت بخصوص ابنتك فاطمة ..
كان الحاج جابر يتناول كوب الشاي لكنه لسبب ما قرر التخلي عنه في اللحظة الأخيرة
ليسقط على الكليم وينتثر الشاي على الأرض.. ورأيته يقف في حدة وهو يردد في جزع:
ـ فاطمة ...
نظرت له مستغرباً ردة فعله! على حين نهض الخرتيت محاولاً إصلاح ما أفسده أبوه لكن هيهات ..
أكملت في بساطة متجاهلاً الخرتيت العاكف على تنظيف الكليم والذي صار لونه بنياً – أعني الكليم طبعاً - :
ـ نعم يا حاج جابر.. فاطمة.. جئت أطلب منك يدها ...
هنا برك الحاج جابر على مقعده واضعا كفه على جبهته متنفساً الصعداء ولعله
أطلق سبة أو ما شابه لكن لا أستطيع الجزم حقيقة..
كما أن عندي من الأسباب ما يجعلني اتجاهل ردود أفعاله الأن ..
وتوقف ولده عن التنظيف وصاح في بلاهة :
ـ يد فاطمة أختي ..!!
ابتسمت له في مقت متحاشياً ركله ثم التفت إلى الحاج جابر منتظراً رده ..
أخيراً استجمع الحاج جابر شتات نفسه.. وتحول فرقه إلى فرحة عارمة بالخبر السعيد..
لقد جاء لابنته العريس الذي كان ينتظره..
فقط هو كان مضطرباً لأن زيارتي كانت بمظاهر رسمية وليست بمظاهر عائلية ودية..
ثم إنه بدأ يتكلم عن أشياء فاجأتني حقيقة.. لا أحد يتقدم لخطبة فتاة هكذا دون وجود
للأهل في الموضوع.. وأسقط في يدي حقيقة.. لقد نسيت أمر الوالد والوالدة تماماً !!..
الأخيرة ستصاب بفالج حينما تعرف أن ولدها فضل قروية على كاميليا ..
كان لابد من إقصاء أبواي من الصورة حتى يتسنى لي اتمام تلك الزيجة ..
وهكذا صرحت للحاج جابر أنني مقطوع من شجرة كما يقولون..
لكنك يا حاج جابر ستناسب رجلاً.. وليس الرجل من قال هذا أبي ولكن الرجل هو
من سيقف إلى جانبك لو فكر ضباط ثورة يوليو في التعرض لأملاكك .. ولم يكن الحاج جابر ليقاوم ..
لو كنا في اليوتوبيا الحقة لكان طلب الزواج شيئاً مشيناً ..
أيها الرفيق جابر أنا بحاجة لرفقة أبنتك فاطمة لنكون نواة لليوتوبيا .
تفضل يا ولدي وهل أجد لابنتي رفيق خير منك ..
هذا هو العشم يا رفيق جابر لن أؤخرها عليك ..لا عليك يا بني ..
لا يوجد رفاق كثر اليوم يمكنك أن تردها وقتما تشاء ..وهكذا تمضي الأمور دون تعقيدات مجتمعنا الرجعي !!..
لكن ما باليد حيلة ..
ـ علينا أن نأخذ رأي البنت أولاً ..
قلت له:
ـ بلا شك يا حاج جابر ..تفضل.. تفضل..
وابتسمت في خبث .. كنت أحاول تخيل ردة فعلها حينما تكتشف حقيقة عريس المستقبل ..
لكن ما حدث بعد أدهشني..
جاءت على استحياء ودون أن ترفع طرفها عن الأرض قالت الكلمة التي سحرتني :
ـ الذي يراه والدي يكون ..
وغداً ..ستقولين ما يراه زوجي يكون .. هذه هي فتاتي ..
إنها مثل سائر الفتيات ..لا يرفضن عريساً تقريباً.. حتى وإن كان يعاكسها في الصباح..
وفكرت كم أنا محظوظ كوني في الوجه البحري حيث يسهل قبول عريس قاهري مثلي
لو كنت في الصعيد الأن لما خرجت حياً تقريباً من دار الحاج جابر ..لم تكن المسافة
فقط هي الفارق الوحيد بين الصعيد والوجه البحري كما كنت أتصور .. صدقت يا والدي العزيز ..
بالفعل أنا الأسعد حظاً منك ..والأيام التالية ستؤكد ذلك..

***

 

التوقيع

" تلك الطمأنينة الأبدية بينكما:
أنَّ سيفانِ سيفَكَ..
صوتانِ صوتَكَ
أنك إن متَّ:
للبيت ربٌّ
وللطفل أبْ
هل يصير دمي بين عينيك ماءً؟
أتنسى ردائي الملطَّخَة ..
تلبس فوق دمائي ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب؟
إنها الحربُ!
قد تثقل القلبَ..
لكن خلفك عار العرب
لا تصالحْ..
ولا تتوخَّ الهرب!"

( أمل دنقل)

عمرو مصطفى غير متصل   رد مع اقتباس