منتديات أبعاد أدبية - عرض مشاركة واحدة - " ليتني " .. ووجه يعصف في المساء
عرض مشاركة واحدة
قديم 04-30-2010, 09:32 AM   #1
سحر الناجي
( كاتبة وإعلامية )

الصورة الرمزية سحر الناجي

 






 

 مواضيع العضو

معدل تقييم المستوى: 15

سحر الناجي غير متواجد حاليا

افتراضي " ليتني " .. ووجه يعصف في المساء


نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة



** ليتني .. ووجه يعصف في المساء

" ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا "
أنثني بقامتي فوق وجه الأرض وألثم بأصابعي جبين العتبة التي اجتاحتها نسمات ثائرة لألتقط أوراق تناثرت من يدي .. وتبعثرت ..
السماء تعبس اللحظة بغيوم تقمصت كوجه للغضب . وعلى جدار الأفق توارى سرب من النوارس في ضباب كان يلتقم بوادر الرحيل .. طير فقط يتوه عن أقرانه وييم تحليقه صوب المجهول .طير وحيد .. هزيل يتعثر بحقيبة هروبه .. ولا يدل الطريق .. طير وغصة تعالت من أتون ذاتي ثم توقفت تتلبد على مشارف صدري ..فأتنهد ..
كان الصياد في البعيد يلملم شباكه منكس الطرف حزين لنضوب الحظ على حافة الميناء, والموج قد ثار زبده صارخآ في سكون الشاطئ .. وتجهم يرتسم على جبين الكون .. وفزع .. وذلك القادم من الغرب كالويل يتلثم بالعتمة ويزرع في حضوره المستبد على أزقة المدينة بظلال سوداء .. أما الفتية الذين صفعوا الرمال بأقدامهم الحافية .. ونحتوأ على الشاطي بخطى عبثهم , فقد أرعبتهم العاصفة المتجلية فوق هامة المدى .. فجمعوا أصدافهم .. وبقايا وجودهم ..وأخذوا يعّرّون المسافات من عبثهم ..ويتراكضون لواذا بأكواخ نصبت على التلال القريبة ..
ليل .. وألم .. ورياح تلفح وجهي الشاحب بالسقم , ليل .. وتيه يتمدد على وعيي .. فأرتجف ..
" ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا "
على الجانب الآخر من المدينة .. تحضرت القناديل للضوء .. فاستقامت الأعمدة صارمة في حلول الليل.. وفي الطريق .. كان ثمة رجل وامرأة .. يتضاحكان ويتسكعان على الرصيف المقابل للمبنى الشاهق.. كانا يتهامسان ويعانقان المدينة بلواعج الغرام .. كانا يتمطيان فوق ناصية بدت نهاية لرحلتهما المسائية .. وقبل أن يختفيا في بوابة المبنى الكبيرة .. عبرا بجانب بائع الزهور , فتوقف الشاب , وأخرج من جيبه أوراق مالية ثم أعطاها للرجل الكهل .. وانتقى باقة من الزهور وأهداها إلى إمرأته التي انتشت فرحا .. وهي تضم الورود إلى وجهها وتشمها بسعادة ..
" ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا "
يجرجرني ذاك المتربص بقلبي إلى سرداب مغلق في أعماقي . و هناك ..في أحد الأركان المنسية , يستل الألم قيوده ويكبل شهقاتي .. هناك شرعت كل ذكرياتي الدفينة ونشرتها على أحداقي لوعة .. نظرت إلى أوراقي وجلة .. أقرأ للتو في سطور فوضوية على جبين الصفحة القديمة :

دموع .. تجأر بالسقوط
ملبدة على متن الجفن ..
معلقة بالمحجر الحزين ..
دموع .. ووانكماش .. وأنين
وطفلة , تتشبث بطرف الثوب البالي ..
وامرأة شاحبة القسمات .. لا تبالي
امرأة .. وشمعة .. تنفث في وهجها .. رياح المساء ..
كان الغصن الجاف يتتطلع للسماء ..
لكن الريح كسرته ..
ذرته في الدروب أشلاء ..
دموع .. كالعناء
إذ تنهمر وجعا ..
كثيفة .. زئبقية ..
مثل غصة قلبية
أو موت .. يتحضر للحلول ..
دموع .. لا تنحدر هونا ..
ولا يزجرها الألم .. أو يعثرها هطول
كورقة .. تعثرت في وجه المدى .
هي أحزاني .. وصخب الصدى
و .....

توقفت الكلمات هنا .. لما لم أكملها ..؟
وتذكرت .. تذكرت وجهك .. وعطرك .. وابتسامتك التي جعلتني ذات هيام أقف على أطراف الوجود كأنني تملكت العالم في حضرتك , في ذلك الصباح .. قرأت عن امرأة أرملة تعيل ابنتها اليتيمة ولا معين لها غير الله , امرأة تجوب الطرقات بحثا عن قوت يومها .. لهذا تجمعت سحب الهم في عيني .. كنا قد تشاجرنا للتو , وكان النهار يبدو على غير عادته منغصا .. فكتبت هذه .. ولم أكف , نعم أيها الملثم بانسكاب الروعة .. تذكرت حتى حين أقصيتك من عمري , قلت نادما:
- أعلم أنك غاضبة .. ولا أقدر على أن تكوني كذلك .. أنا مقصر معكِ .. أقر ..
قلت تخنقني العبرة : أرجوك .. لا أريد نبش الألم .. دعني وشأني..
- أرجوكِ أنتِ .. لنبدأ من جديد .. ونعيد تفاصيل أيام تلونت بالسحر ..
- لا أستطيع ....
أجل .. لا أقدر على مجاراة قسوتك .. ولا على سخريتك التي كنت تشهرها في اشتياقي كفارس متغطرس لا يجيد سوى مقاتلة الأمل في نفسي العليلة.. لا .. لا أستطيع أن أجتر غيابك ولا مبالاتك .. ولا أن أغفو كل ليلة على انتظار يتربص بجلدي .. ويسطر في أجفاني بأحلام لن تتحقق ..أجل سيدي .. لا أستطيع ..
" ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا "
قلت تحاول التمسك بعرشك ملكآ متوجا على قلبي :
- هل نسيتيني ؟
- ربما ..
- أنا أستحق ذلك ..
ومضيت تجر أذيال قسوتك .. تشد إزارك الملطخ بغرورتزركش بالإنكسار ..وقبل أن تغيب .. همست بحزن :
- أنا آسف ..
وأنا أيضا ..أندم لأنني لم أتبين هطولك مليآ في حياتي .. غيثك الذي تعطر بالفرح حينا .. وفي أحيان أخرى ينتهى كتلك العاصفة التي تتحضر للإنقضاض على المدينة ..أعض على جرحي كي لا يتوقف نزفه .. فأنا رغم طعنتك الغائرة لا مناص أمامي من معانقة متعلقاتك .. أتشمم روائحك في الهواء .. أستعذب صدى ضحكتك المجلجلة .. أترنم حتى على تجهمك في هنيهات العتاب ..
أتبلل - فجأة - الآن بقطرات امتزجت بعبراتي الساخنة .. أرفع رأسي الملبد بالدوار .. وألهج بتمتمة نقشتها دوما على صوتي :
- أعني يا الله ..
أدلف الى غرفتي كي أنساك .. وأنى لي بذلك .. وأنت تسكن في مدني .. ودمي .. وأنفاسي .. أرتمي على فراشي منهكة .. وأجهش ببكاء مرير .. وأصيح :
- ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا

تحيتي

 

سحر الناجي غير متصل   رد مع اقتباس