منتديات أبعاد أدبية - عرض مشاركة واحدة - مقالات في أدب السيرة الذاتية ...
عرض مشاركة واحدة
قديم 03-17-2009, 09:56 AM   #3
د.عبد الفتاح أفكوح
( أبو شامة المغربي )

افتراضي مقالات في أدب السيرة الذاتية ...


بسم الله الرحمن الرحيم
سلام الله عليكم أهل هذه الواحة الثقافية ورحمته جل جلاله وبركاته
وبعد ...
أحييكم في البدء بتحية الإسلام الخالدة، أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها في كل وقت وحين بإذن ربها الغني الحميد، فلا تظلم منه شيئا كثيرا أو يسيرا، ثم إني أهدي إليكم جميعا هذه الباقة من مقالاتي النقدية حول أدب السيرة الذاتية، وأسأل الله الحكيم العليم أن يرزقنا التوفيق والسداد في القول والعمل، وأن يهدينا سبيل الرشاد في كل حرف عربي أصيل نخطه باليمين ...
مقالات في أدب السيرة الذاتية
***
جنس السيرة الذاتية بين الأدب وبين التاريخ
(المقالة الثالثة)
إن بين أدب السيرة الذاتية والتاريخ صلة وثيقة، ذلك لأنهما يشتركان في عرض الأحداث والمواقف، وفي تصوير مختلف البيئات والمآثر، والكشف عن الصور المادية والنفسية؛ وإذا كانت السيرة الذاتية تنبع من صلب الأدب بخلاف التاريخ الموسوم بالطابع العلمي، فهذا لا يعني أن الحس التاريخي منعدم في كتابة التاريخ الخاص الفردي؛ بل إنه على العكس حاضر بأبعاده الثلاثة المتمثلة في الماضي، والحاضر، والمستقبل، والظاهر لأول وهلة أن السيرة الذاتية تتخذ موقعا وسطا بين الأدب والتاريخ، لكننا إذا أمعنا النظر أكثر في طبيعة هذا الجنس الأدبي، خلصنا إلى تعبير دقيق عميق من حيث حمولته الدلالية، وهو أن هذا اللون من التعبير تتجاذبه سلطتان أو قوتان: سلطة الأدب وقوة التاريخ، لأن الكاتب يصوغ تاريخه الخاص صياغة أدبية.
ونتيجة لواقع التجاوب بين الأدب والتاريخ، المتعارف عليه بين الأدباء بالحق الأدبي والحق التاريخي، تميز جنس السيرة الذاتية عن باقي جسد التاريخ العام، مع العلم بأن الأصل في التاريخ الإنساني هو مجموع التواريخ الخاصة، سواء الفردية منها أم الجماعية، وهذا يعني أن أي سيرة ذاتية هي واقع تاريخي في حد ذاتها، أما الاصطلاح على أن السيرة الذاتية جنس أدبي، فهو تعريف مبدئي لا ينفي حضور التاريخ في قلب أي أدب خاص، مهما بلغت فيه درجة الذاتية، فكاتب السيرة الذاتية يجد نفسه مشبعا بالحس التاريخي حين يسرد قصة حياته، وهذه حقيقة لا تعرف في قاعدتها استثناء أي جنس أدبي، ومن الصعب جدا، في غياب تعريف يحدد ماهية السيرة الذاتية، ويميز بين ما ينتمي إليها وما لا ينتمي، أن نتصور تاريخا خاصا بهذا الجنس الأدبي.
إن للتاريخ مرونة تؤهله لأن يظل فضاء رحبا، يتسع لكل نشاط إبداعي، وكائنا نابضا في عمق الأدب بوجه عام، وأكثر إثارة في أجواء التاريخ الفردي، باعتباره نواة أدبية فاعلة، سواء في الكتابة النثرية أم في الكتابة الشعرية، ومما لاشك فيه هو أن أصداء التاريخ الخاص تتردد بدرجات متفاوتة في جميع الإنتاجات الأدبية، وهذا دليل على كون الذاتية قوة دافعة، وعلة باعثة على الانخراط في العملية الإبداعية، ثم إن الفصل والتمييز بين الحياة الخاصة الفردية والحياة العامة يظل أمرا نظريا، إذ يتعذر على الإنسان أن يعزل حياته بعيدا عن التاريخ العام، حتى وإن عمر مدة وجيزة على وجه الأرض.
ثم إن السيرة الذاتية لا تسقط من فضائها أي بعد زمني، وإن كان الزمن في السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة يرتبط بالعودة إلى مرحلة أو عدة مراحل، وهي في ذات الوقت عودة إلى فضاءات وتاريخ يلتقي فيه ويتكامل التاريخ الفردي والجماعي؛ إنها عودة تجد في الكتابة حاضرها، وفي الذاكرة ماضيها، ولاشك أن المسافة بين الكتابة والذاكرة أو بين الحاضر والماضي تاريخية وسردية حكائية في آن واحد.
ولا شك أن للحس التاريخي دورا كبيرا، وتأثيرا مباشرا في إدراج نص السيرة الذاتية و عرضها، وفي تحديد البناء العام لكل تاريخ فردي، ومن ابسط مظاهر هذا التأثير، إقدام الكاتب على تقسيم سيرته الذاتية إلى فصول نثرية تبعا لمراحل حياته.
ثم إن الإحساس بالتاريخ والوعي بقيمته يمثلان في وحدتهما باعثا طبيعيا لصاحب السيرة الذاتية على ضبط أهم المنعطفات والتحولات الحاسمة والدالة في حياته.
فالسيرة الذاتية أكثر نبضا من التاريخ بالحياة والتجارب الفردية، بحكم محورية الذات الفردية في هذا اللون من التعبير من جهة، وثانوية الأحداث من جهة ثانية، ومن السهل أن نتنبه إلى كون التاريخ أحد وجوه فتنة هذا الجنس الأدبي.
ثم إن كاتب السيرة الذاتية يستدعي أحداثا وجملة وقائع سالفة بوعي ومهارة، يسمهما برؤاه وتصوراته في الزمن الحاضر، معتبرا في ذات الوقت الأهمية البالغة للماضي، وقد يكون من أهم أهداف صاحب السيرة الذاتية توثيق التاريخ؛ لكن الأهم لديه هو أن يترك أثرا أدبيا يخلد ذكره من بعد موته.
وإذا كان التاريخ يجري وراء الحقيقة، باحثا وممحصا، ثم مبددا لأي غموض في مختلف جوانب الحياة الإنسانية، فالسيرة الذاتية تقتفي اثر الحياة في ذات الإنسان، ولذلك كانت ولا تزال أكثر احتفالا بالأدب الذاتي من كل ألوان التاريخ، حتى إن التاريخ يعبر عن مدى غنى الحياة الداخلية للإنسان، أكثر مما يعبر عن المسافة الزمنية التي يقطعها من المهد إلى اللحد، وإن كان الكائن البشري يدرك جيدا أن ذاته اليوم ليست هي ذاته بالأمس، وأن مجرى تنامي وتطور إحساسه الداخلي غير قابل لأي تحديد.
إذن ليس من الإسراف أو الخلط أن نتفق مع الرأي القائل بأن السيرة الذاتية هي ملتقى الحق الأدبي والحق التاريخي، لأن هذا اللون من التعبير الأدبي يعد بالفعل حاضنا لمادة تاريخية غنية، بإمكانها أن تسهم بحظ كبير في كتابة تاريخ مرحلة معينة، وفي نفس الوقت هو لون أدبي يستمد قوته من العناصر والمكونات الأدبية، حتى إن البعض أفصح عن ميله إلى جعل أدب السيرة الذاتية قسمين رئيسيين، هما: السيرة الذاتية الأدبية، والسيرة الذاتية التاريخية...
هذه جملة من الأفكار المثارة في موضوع أدب السيرة الذاتية .. نأمل أن يبادر كل مهتم بهذا الجنس الأدبي إلى الإسهام بما يراه من قراءات جديرة في حقه، وتأملات تليق بمكانته بين الأجناس الأدبية.

حياكم الله
د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي
aghanime@hotmail.com

 

د.عبد الفتاح أفكوح غير متصل   رد مع اقتباس